مدن الكلمات
ما أشد ما يَعْجَبُ المرء كيف أُتيح لهذين النهرين العظيمين دجلة والفرات أن يمدّا ويرويا تلك السهول الرملية القاحلة، وأنهما بفيضهما أخصبا تلك البقاع التي عمرت بالزراعة، وجمعت الناس عليها يفلحون ويزرعون، وهيأت لتلك المدن الأولى أن تحيا من شبكات القنوات والسدود المعقدة التي بناها أهل سومر بكدهم وفطنتهم فصار جنوب وادي الرافدين جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.
استقامت حياة البشر، فشيدوا لأنفسهم بيوتاً اتسعت لما لم تتسع له الكهوف الطبيعية من أسباب الراحة، وغدوا يستنبتون الأرض حول ديارهم، يكدحون في فلحها وبذرها وريّها، وحين أخرجت الأرض ثمارها، اقتربت حيوانات البر من منازلهم، فكسر البشر جدار الخوف القائم بينهم وبين هذه الحيوانات، فأصبحت أهلية تعيش في مزارعهم، وتعينهم في أمور معاشهم، فلحوا الأرض بالمحراث الخشبي الذي تجره الثيران، وحملوا أثقالهم على ظهورها، وتشاركوا اللبن مع إناثها، واستفادوا من جلدها في صنع ثيابهم ومن عظامها في صنع مخارزهم ومكاشطهم وسكاكينهم ومن ألواح أكتافها في صنع أمشاطهم لتسريح شعر أولادهم ونسائهم ومن روثها المجفف أشعلوا نار مواقدهم. ومع خروجهم من حياة الخوف من الطبيعة الموحشة إلى حياة الدور المعمورة والحقول المزروعة راحوا يمعنون الخيال، فظهرت الحكايات التي تؤنس وحشتهم قرب المواقد المضرمة في ليالي الشتاء الطويلة. وهذه القصص التي بين أيدينا هي أولى محاولات الإنسان للتعبير عن الحياة وقيمها وأحوال المجتمع ومشاكل الفرد بأسلوب الخيال القصصي على ألسنة الحيوان.
دَوَّن السومريون حكاياتهم وقصصهم وأمثالهم باللغة السومرية والخط المسماري على ألواح الطين. وهي تمثل عاداتهم وتقاليدهم وترسم صورة واضحة عن حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قبل أكثر من خمسة آلاف عام في جنوب وادي الرافدين. ويمكن القول إن هذه القصص والحكايات والأمثال قد رويت وأُعيدت روايتها في أكواخ القصب وهذَّبتها شفاه أجيال عديدة من الأمهات السومريات قبل أن تُنقش بالخط المسماري على ألواح من طين دجلة والفرات. ومن ثم شاعت هذه الأمثال والحكايات عند مختلف الشعوب التي سكنت وادي الرافدين.
أهل سومر من أوائل الشعوب التي عرفت القراءة والكتابة في تاريخ البشر. هذا ما تؤكده جميع الدراسات. ويعدّون، من دون أدنى شك، من أكثر الشعوب التي شهدها العالم موهبة. ففي ممالك المدن السومرية والتي نستطيع ترتيبها جغرافياً من الجنوب إلى الشمال : أور، أريدو، لارسا، أوروك، لكش، أومّا، إيسن، أدب، نيبور، كيش، أشنونا، بابل، ماري. هذه المدن العامرة بالحضارة كانت أرقى الأماكن في العالم التي نشأت على حافة أحواض القصب في جنوب وادي الرافدين، وفيها ولدت الكتابة في حدود الألف الرابع قبل الميلاد.
بدأت الكتابة برسم شكل صورة الشيء، فمثلاً حين يريد السومري كتابة كلمة جاموس كان يرسم رأس الجاموس، وعندما يريد أن يكتب كلمة حنطة كان يرسم شكل السنبلة. ثم تطور الرسم إلى رموز بسيطة مالت نحو التجريد وخُطَّتْ بأقلام القصب على ألواح الطين الطرية. وفيما بعد تحولت إلى كلمات تأخذ خطوطها شكل المسمار، ومن هنا جاءت تسميتها بالكتابة المسمارية، والتي بقيت سائدة في وادي الرافدين حتى سنة خمسين بعد الميلاد. وقد شوى أهل سومر هذه الألواح الطينية في النار، فتحوّلت إلى فخار صلب منع عنها عاديات الزمان. وكمثال عن كيفية تطور و تأليف الكلمات، فقد كان السومري لا يعرف كيف يكتب فعل أكل، والذي يعد من الأفعال الأساسية في الحياة، فاخترع الفعل على الشكل التالي: فم + خبز = أكل – وهذا في رأيي اختراع مذهل في بساطته وحصافته و عبقريته – وأغلب الظن أن كلمة خبز عند أهل سومر باقية ما تزال في لفظة “نني” التي يطلقها الأطفال في مدينة إدلب في الشمال السوري على الخبز مع بداية نطقهم لأولى الكلمات، أو في كلمة “نانات” وهي أرغفة من عجين القمح مقلية بزيت الزيتون يخبزها سكان المنطقة الشمالية من الهلال الخصيب.
============
أحلام الجداء
“عندما يذبح القصاب الجدي يقول له: أيجب أن تزعق، هذا هو الطريق الذي سلكه أبوك وأمك وأنت تسلكه، ورغم ذلك تزعق”
(مثل سومري)
في لوح نزري من الحجر الجيري منقوش بطريقة الحفر البارز، يظهر فيه الملك “أور- نمّو” في النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد، حاملاً طاسة البنائين فوق رأسه، يساعد العمال في تشييد زقورة مدينة “أور” يظهر الحاكم في اللوح المنقوش مع أفراد أسرته وندمائه، متين البنيان، ممتلئ الوجه، أصلع الرأس، عاري الجذع، حافي القدمين، يرتدي مئزراً من الصوف الخشن الصفيق، شأن معظم أهل سومر تلك الأيام.
كان القسم الأعظم من أهل سومر يعملون في الإنتاج الزراعي والحيواني. والملك يشرف على توزيع الأراضي على المنتفعين بوساطة وثيقة من الطين مختومة تتضمن اسم المالك الجديد ومساحة الأرض الممنوحة له، والمُلاك هم من سويات اجتماعية ووظائف مختلفة من بينهم جنود وقادة في الجيش وموظفون ماليون وقضاة وعاملين في السلك الكهنوتي وأصحاب العربات المقدسة وصيادون يعملون لصالح المعابد، إضافة إلى موسيقيين وطباخين وصيادي طيور وسمَّاكين وبنَّائين ونحَّاسين وصيَّاغ وصانعي حصر وعمَّال سدود ونسَّاجين وصانعي قفف وحذَّاءين. هؤلاء وغيرهم كانوا يحصلون على أرض لزراعتها لقاء عملهم في مرافق الملك. وكانت قطعان الضأن والماعز والجاموس والأبقار ترعى في الأراضي المملوكة لدولة المدينة. وكان الملك هو الراعي الأمين لمصالح الحيوان والعباد من سكان دولته، وأجيرهم في المحن والشدائد.
في ذلك اليوم العظيم الذي تم فيه بناء زقورة “أور” فرح الراعي “أوتو” بولادة توأم جداء من عنزته البيضاء أم التراكي السوداء التي تشبه الأجراس في رقبتها، والتراكي لمن لا يعرف استطالتان لحميتان في نحر العنزة الأصيلة تميزها عن رفيقاتها العنزات العاديات. كان مصير التوأم غامضاً، فقد رأى الراعي “أوتو” حلماً أقلق راحة قلبه، وعكر صفو فؤاده. رأى فيما يرى النائم أرضاً خصبة طيبة آمنة حيث النعاج تلد الحملان، والعنز تلد الجداء، والأبقار تلد العجول، ويفيض الحليب والزبد كفيض الربيع، وعبير الخبز الطازج يفوح من أزقة المنازل، ويعم الخير الجميع. والأشجار في الكروم تطرح ثمراً وفيراً، وغلة الحقل من الحصيد تملأ البيوت، وتتكدس في البيادر. ولكن هذه الأرض الطيبة سكنتها فجأة وحوش برؤوس آدمية أتت من تلك الدروب التي تتبعثر فيها خطوات قطعان أغنام الرعاة.
كانت العنزة البيضاء أم التراكي السوداء ترعى العشب مع صغارها على الضفة اليمنى من نهر الفرات العظيم وقد أغراها العشب وطيب النسيم العليل الذي يهبّ من صوب البحر المالح فابتعدت نحو أجمات القصب ولم تدرك الخطر الذي يتربص صغارها هناك. كان الراعي “أوتو” يتقلب في فراش القصب كلما اقترب الخطر. وفجأة ظهر الأسد الصياد وانقض بوثبة واحدة على أحد الجداء. ذُعرت الأم وتشتت شمل صغيريها. فقد كانت الضربة صاعقة مُباغتة. أطبق الأسد الصياد فكيه على صيده الثمين، وانسل عائداً إلى داخل أجمات القصب الكثيفة، ومن هناك كانت الأم تسمع زعيق الصغير ويحز النداء قلبها كحز السكين. وراحت عيونها الزائغة تبحث عن صغيرها الآخر الذي فرَّ مذعوراً إلى مكان ما. فُجعت الأم بمصير صغيريها، فبأيّ ذنب تَمنع حظها من الرأفة والرفق، وراح جسمها ينتفض من هول هذه المفاجئة التي لم تكن في الحسبان. وقفت بعيداً عن مكان المعركة غير المتكافئة، فصغار الجداء يخوضون معركة الحياة لأول مرة -والأخيرة في هذا الحلم المرعب – أفلت الأسد الصياد الجدي من فكيه فسقط أرضاً، مرعوباً، مرتجفاً، لاهثاً، وقد أثخنت جسمه المرتعش الجراح الغائرة النازفة، وراح ينظر بعينين زائغتين براقتين صافيتين في وجه الأسد الصياد، حاول النهوض من مكانه، فعالجه الأسد الصياد بضربة من كف يده اليمنى الثقيلة، فكَّر الجدي المسكين أنها لعب، فنهض من جديد، لكن الأسد الصياد انقض وأخذ يعضه قائلاً:
– أيجب أن تزعق؟ حتى الآن لم يملأ لحمك فمي بينما صوت زعيقك أصم أذني.
وجَدت الأم على صفيرها وجداً عظيماً، أذهلتها الفاجعة، فراحت تبحث خبط عشواء، وبقلب مكلوم، عن مصير صغيرها الآخر. كان يأتيها صوت زعيقه من بعيد. لكنه سكت فجأة، لأن سهماً انطلق من قوس صياد من تلك الوحوش برؤوس آدمية التي أتت من تلك الدروب التي تتبعثر فيها خطوات قطعان الرعاة، فأصابه في مقتل، وقع أرضاً يئن ويزعق من جراحه، أسرع الصياد إليه فراعه هذا البريق في العينين الدامعتين الزائغتين الصافيتين للجدي الجريح، وقبل أن يعالجه بضربة من سكينه، قال له:
– أيجب أن تزعق؟ هذا هو الطريق الذي سلكه أبوك وجدك وأنت تسلكه الآن أيضاً، ورغم ذلك تزعق.
عملت سكين الصياد عملها في لحم الجدي، فسال دمه على أعواد القصب المتكسرة. قطَّع الصياد اللحم المختلج ووضعه في سلة من القصب يحملها على ظهره. هذا العمل قبيح -فكَّرت العنزة البيضاء أم التراكي السوداء – وابن آدم من أجل هذا الأمر في ظلمة موحشة، لأن طريقة الذبح هذه وتقطيع اللحم المختلج أكسب قلب بني آدم الغلظة والجفاء وقسوة الهيئة وهي كلها منافية لفطرة الخلق الأولى.
أفاق الراعي “أوتو” مذعوراً على صورة الدم النازف، اتجه صوب زريبة الماعز في غبش الصباح الباكر، نظر داخل الحظيرة المفروشة بتبن القصب الناعم، كان توأم الجداء يجثو على أكواعه ينطح ضرع أمه نطحاً قوياً يستدر اللبن والعنزة البيضاء أم التراكي السوداء تلحس ظهر الجداء بحبور.
=========
رسالة القرد
“أريدو مدينة المجد والازدهار، ومع ذلك، ما زال قرد دار الموسيقى يبحث عن طعامه بين الفضلات”
(مثل سومري)
أرسلت القردة أجمل أولادها ليتعلم العزف على آلة موسيقية في دار الموسيقى الكبيرة في مدينة “أور” العامرة، فقد كان الموسيقيون فئة حرفية مهمة عند أهل سومر. وكان التلميذ غير الموسيقي موضع ازدراء زملائه وسخريتهم. ولكن دار الموسيقى رفضت القرد لقبح وجهه. استغربت الأم السبب الذي ساقته دار الموسيقى في رفض طلب ابنها. وقالت لجيرانها وهي تُشير إلى قردها:
– انظروا ما أجمل وجهه، ومع ذلك رفضوا قبوله، سأرسله ليتعلم العزف في دار الموسيقى بمدينة “أريدو” القريبة، فهناك لا ينظرون إلى قبح الوجوه وحسنها. وأزعم أن لديه موهبة خارقة في الغناء، وآمل أن يكون مستقبله واعداً، وقلب الأم دليلها. صحيح أنني سأشتاق إليه كثيراً، ولكن عليه أن يعتاد الغربة ويتعلم. أعرف أيضاً أن الغربة صعبة وأنه سيفتقد رخاء العيش في مدينة “أور” أضخم الحواضر في سومر، حيث تغسل شواطئها أمواج الخليج الدافئة، و نهر الفرات العظيم يصبُّ مباشرة في بحرها، ويترك كل سنة ثروة هائلة من طميه لصناعة الآجر الأحمر الفاتح المفخور الذي شُيّدت به أعظم المباني.
قالت الجارة مؤكدة:
– صدقت، فها هو ملك البناء والعمران “أور-نمّو” يحمل طاسة البناء على رأسه في عزم منه على إتمام بناء الزقورة الشامخة إلى السماء للتقرب من الرَّب العالي القدير. ونحن نفتخر بما تميزت به زقورة أور بهندستها الفريدة وسلالمها العالية و ارتفاعها لأكثر من سبعين قدماً ولها ثلاثة سلالم كل سلم بمئة درجة. وكل آجرة قد ختمت بختم الملك السومري “أور- نمّو” الذي كان يحمل اسمه.
كانت “أور” سبَّاقة لتكون منشأ كل ما هو طيب وصادق. ويبدو أن حقائق تاريخية عديدة تذهب نحو تأكيد أن أور السومرية هي مهد النبي إبراهيم الخليل. مع عدم استبعاد أن يكون ذلك الأثر الذي يبعد عن قاعدة زقورة أور بحوالي ثلاثمئة متر، هو حقيقة البيت الذي ولد فيه النبي إبراهيم الخليل عليه السلام. ويظهر أن النبي الكريم عاش في أور ردحاً من الزمن أكدت انتماءه إلى أرض سومر. وأهل “أور” وملوكها فكروا قبل غيرهم بأسرار الوجود والكون.
وقد ارتبطت “أور” ارتباطاً وثيقاً بهاجس حضاري متقدم هو هاجس الموسيقى ففيها اخترعت – أغلب الظن – أول الآلات الموسيقية، وأهمها قيثارة الملكة السومرية “بو- آبي” وهي جزء من مقتنيات كثيرة عُثر عليها في المقبرة الملكية في “أور” والتي كان يمارس فيها نمط خاص من الشعائر الجنائزية. فقد كان في اعتقاد أهل “أور” خاصة، وأهل سومر عامة، أن الملك عندما يموت فإن حياة في ذات الرفاهية تنتظره. فكان عليه أن يصحب معه إلى قبره الفسيح خدمه وحشمه والكثير من المقربين إليه. وكانوا يصطحبون معهم الآلات الموسيقية لتسلية الملك في عالمه الآخر. لكن أهم علاقة تربط أور بالموسيقى أن الملك “شولكي” ابن الملك “أور- نمّو” يعزف على ثماني آلات موسيقية من بينها القيثارة ذات الثلاثين وتراً. وكانت “أور” واحدة من أقدم مدن العالم التي اهتمت بتأسيس دور الموسيقى.
وها هي دار الموسيقى في مدينة “أريدو” تقف شامخة تصدح في أروقتها مختلف الآلات الموسيقية. تستقطب التلاميذ من كل فج عميق. وتزخر بالمعلمين الذين يشرفون على تعليم التلاميذ مبادئ الموسيقى. ولكن ما هي أخبار القرد الذي أرسلته أمه من مدينة “أور” إلى دار الموسيقى في مدينة “أريدو” المزدهرة، هل تعلّم الغناء والعزف على آلة موسيقية؟ وكيف يعيش أيام الغربة؟ حيث لا أم تقف إلى جانبه، ولا أب، ولا أخ يقول له في الشدائد والمحن: آه يا أخي، ولا صديق يُخفف عنه مشقَّة الغربة وأتعابها. كتب القرد رسالة إلى أمه يقول فيها:
أمي الحبيبة، ابنك يتكلم:
كانت الحياة في مدينة “أور” مبهجة وسعيدة، واليوم مدينة “أريدو” مزدهرة بالوفر والخيرات، ولكنني أنا الشقي أجلس هنا خلف أبواب دار الموسيقى الكبرى، وعليَّ ان آكل الفضلات، وأخشى أن تكون سبباً في موتي، كسرة الخبز لا أجدها، ولا قطرة من الجعة. أرسلي من ينقذني
هيا
أسرعي.
تحولت كلمات رسالة القرد إلى أمه لأغنية شائعة عُزفت في دار الموسيقى. ونُسخت هذه الرسالة على كسر ألواح الطين المفخور، وشاعت في جميع أقاليم أرض سومر، وتناقلتها شفاه تلاميذ المدارس السومرية. وعندما تعلم القرد الغناء والعزف على مختلف الآلات الموسيقية ، كان بارعاً فيها، وصار أشهر من نار على علم – تماماً كما تنبَّأت أمه وزيادة – حيث يأتم تلاميذ دار الموسيقى بسيرته. وتتناقل الأجيال قصة نجاح قرد دار الموسيقى ذي الوجه الجميل في بلاد سومر.
=============
مالك الحزين
“المدينة ضعيفة التسليح لا يطرد العدو من أبوابها”
(مثل سومري)
حلّق مالك الحزين عالياً مصفقاً بجناحيه في لحظة غروب ندية. حدّق من علوّ إلى ما أصاب مدينة “لكش” وأهلها من خراب ودمار فازداد مالك الحزين حزناً على حزن. نظر إلى الأفق المصبوغ بحمرة الدماء التي سالت على البطاح وفي الأسفل منه حوم رفراف مرقط ثم أطبق جناحيه وغطس في الماء باتجاه فريسته من الأسماك. وها هي البجعات تنفش ريشها الأبيض بكل وقار وتعوم بكبرياء على المسطحات المائية الشاسعة التي تتخللها أجمات القصب. بدت البجعات لمالك الحزين من الجو رائعة الجمال وهي تتصيد في المياه الضحلة مع غروب الشمس حيث ينعكس شعاع الغسق على بياضها المتحرك فيستحيل إلى لون أزهار القرنفل الحمراء رائعة الجمال. ترسم تلك الطيور المبهجة على آماد الماء والقصب لوحات سحرية أخاذة.
في الدقائق الأخيرة من هذا النهار السومري غطست الشمس في بحر الظلمات ولبست الطبيعة حلل السواد، خمدت الضوضاء في أزقة مدينة “لكش” وها هو النداء الأخير للبط البري يصدح من مكمنه معلناً وقت انفراد حيوانات البر بعالم أجمات القصب. عادت هذه الحيوانات إلى طبيعتها بعد أن سكتت طبول الحرب التي قرعها الحاكم “لو جال زاكيزي” ومعنى اسمه الحاكم الذي يرفع يده اليمنى. وقد عاثت هذه اليد اليمنى فساداً في مدينة لكش وأهلها. فلم يسلم من أذاه عدو أو صديق، وحسبنا في ذلك ما سجله أحد أبناء مدينة لكش على لوح من الصلصال بعد أن فرَّ من الأسر، فلقد ذكر لنا كم من ويلات لهذا الملك على العباد، ولم يملك في آخر ما كتب إلا أن يضرع إلى الله لينتقم له من هذا الملك الغاشم الجبار.
حط مالك الحزين أخيراً قرب ذكر البجع الذي يرمم عشه بعد أن خربته نعال المقاتلين وكان يتمتم: ما أشد عزيمة أهل مدينة “لكش” ها هم ينهضون من كبوتهم ويستعيدون عافيتهم مع الحاكم الصالح “جوديا” الذي طرد الأعداء من أبواب المدينة و أعاد لأهلها الأمن بعد حرب طاحنة أكلت الأخضر واليابس وتركت البشر والحيوان في عوز وحرمان. سمع مالك الحزين مقال البجع فقال:
– سمعت أن الشاعر “ذو نظر أداموا” كتب قصيدة على لوح من الطين يصف ما حل بالمدينة من خراب ودمار.
توقفت الحيوانات عن الحركة وأصغت لأبيات الشعر بصوت مالك الحزين:
“وا حسرتاه على ما أصاب لكش وكنوزها ما أشد ما يعاني الأطفال من بؤس
إيه مدينتي
متى تستبدلين بوحشتك أُنساً”.
قالت البجعة بعد أن استراحت على صدر زوجها:
– لقد حقق الحاكم الشاب أمنية الشاعر. فأعاد للمدينة ما فقدت، وشاد ما تهدم من المعابد وأحضر لها خشب الأرز من لبنان، وأصلح الدروب المتربة، ورسم لأهل المدينة حياة تتسم بالعدل والرحمة، فأحبه الناس والتفوا حوله، ومن فرط حبهم له أجلوه واحترموا سيرته. و لم تكد تمضي الأيام القليلة حتى أصبح الناس سواسية كأسنان المشط استوى الخادم بالمخدوم والعبد بسيده، وأمن الضعيف القوي.
اقتربت أسراب مالك الحزين من بعضها كي تنام وقد اعتادت أن تختار أحدها للحراسة وللتأكد من أنه سيبقى يقظاً، عليه أن يقف على ساق واحدة، فإذا غلبه النوم يسقط حالاً، والويل له إن نام أو سقط لأنه سيكون عرضة لهجوم عنيف من رفاقه الذين استأمنوه على حياتهم. قال مالك الحزين الساهر هذه الليلة على أمن رفاقه مخاطباً البجعة الأم:
– أيتها البجعة الحكيمة الوقورة لا بد أنك سمعت في سالف الأيام أهل سومر يتكلمون عن الحرب والسلم برهبة، فقد قال أكثرهم حكمة: المدينة الضعيفة التسليح لا يطرد العدو من أبوابها.
– نعم سمعت هذا القول، والراجح عندي أن العدل والحرية أساس الملك، ومن تعدى فقد العدل والحرية والأمان. وعلى كل حال أن تسمع بالجور والظلم شيء وأن تعيشه شيء آخر. وقرار الحرب والسلم يحتاج من كل حيّ إلى بصيرة وتفكير مستقيم، وأظن أن التفكير الأعوج للبشر قد ذهب بهم بعيداً في هذا الشأن.