مرآة بين عربي وعبري

التداخل بين الشعر والفنون في تجربتين شعريتين
الخميس 2020/10/01

تقتفي الناقدة ناهد راحيل في كتابها “الشعر والفنون: دراسة مقارنة في آليات التداخل” آثار هذا التداخل وأشكال توظيفه ومعناه في تجربة شاعرين تتقاطع تجربتهما على أكثر على مستوى هما الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش والشاعر العبري يتسحاق لاؤور. تتجاوز أهمية هذه الدراسة الكشف عن علاقة التداخل بين الشعر والفنون إلى البحث في التداخل بين تجربتي شاعرين يمثلان حالتين بارزتين في الشعر العربي والشعر العبري ما يجعل هذه المساهمة على مستوى التجربتين تمثل إضافة مهمة لمجال البحث في هذا الكتاب النقدي.

تعود الناقدة بالتداخل بين الشعر والفنون إلى بدايات ظهور هذه الفنون لأسباب تراها ماثلة في وحدة المنبع والمصب في هذه الفنون، في حين جاء الانزياح بينها وبين الشعر مع التطور الذي شهدته القصيدة الحديثة وأدى إلى تطوير مستويات بنية هذه القصيدة وظهور السمة الحوارية المتداخلة مع النزعة السردية والمسرحية والبعد الدرامي والبصري فيها. وتوضح أسباب اختيارها للشاعرين الكامنة في المكانة التي يمثلها كل منهما في الشعرين العربي والعبري إضافة إلى الرؤية الموضوعية التي تهيمن على تجربتيهما.

تقسم الدراسة تجربة الشاعر درويش إلى مراحل ثلاث وتجربة لاؤور إلى مرحلتين ثم تتحدث عن أسباب اختيارها لمنهج الدراسة المقارن التابع للمدرسة الأمريكية التي يعتمد منهجها على التوازي بين الموضوعات المطروحة. وقبل أن تبدأ دراستها المقارنة تتناول قضية العنوان في تجربة درويش على مستوى بنيتها الدلالية، حيث تؤكد أن عناوين أعماله الأولى تتصل اتصالا مباشرا في معظمها بواقع الشاعر الايديولوجي كما يظهر ذلك في علاقة الذات الشعرية بالمجموع، في حين تتسم المرحلة التالية من العنونة في هذه التجربة بالرمزية بينما تميزت في شعر لاؤور بالشعور بالاغتراب ثم الميل إلى الأسلوب الخبري والساخر.

صورة

وفي سياق علاقة التجربتين بالفن القصصي تبحث في حضور تجربة تيار الوعي في تجربة درويش أولا التي تميزت بالخصوصية والرغبة في استنطاق الماضي واستحضار صوره البعيدة. ويأتي استخدام تيار الوعي في هذا السياق تاليا عبر توظيف التداعي الحر للأفكار والذي يعد أهم تقنيات هذا الوعي، إضافة إلى استخدام المنولوج بهدف التوغل في عالم الشاعر النفسي. وترى أن قصيدة القناع في تجربة الشاعر هي المثال الأبرز لاستخدام المنولوج داخل بنية القناع أو بين صوتي الشاعر والرمز. كذلك تتناول موضوع الحلم بغية الكشف عن المستويات النفسية الغائرة في أعماق الذات الشعرية، إضافة إلى الاسترجاع بالاعتماد على الذاكرة وهو ما يظهر أيضا في تجربة الشاعر العبري لاؤور الذي يستدعي شخصيات من التراث اليهودي. وعلى الرغم من أهمية الكشف عن دلالات هذا التوظيف في التجربتين إلا أن الناقدة لم تتناول المجال الواسع الذي يتيحه هذا التوظيف للذات الشعرية في لحركة والانتقال بين أزمنة وأمكنة وحالات مختلفة أكسبت قصيدة درويش هذا العمق والغنى من خلال حفرها في الذاكرة الجمعية للتاريخ والأرض ماضيا وحاضرا وفي الانتقال من حالة إلى أخرى خاصة مع استخدامه تقنية القطع أو الكتابة السينمائية التي ستتحدث عنها لاحقا.

وتتابع الناقدة استكمالا لدراستها الهامة دراسة أشكال توظيف الشخصية في تجربتي الشاعرين حيث تجد أن الشخصية الفلسطينية في تجربة لاؤور تظهر باعتبارها ضحية الضحية بينما يفرض الراوي بضمير الغائب سطوته على الأحداث التي لا تتطوّر إلا بالسرد وعلى الشخصيات التي لا تظهر إلا من خلالها.

وتنتقل الدراسة إلى البحث في علاقة التجربتين بالفن المسرحي الذي يعد أوثق الفنون صلة بالشعر كما ظهر في الملحمة عند اليونان. أما في الشعر المعاصر فهي ترى أن استخدام تقنيات المسرح كان بسبب ملاءمتها للتجربة الشعرية ولقدرتها على التصوير حيث ارتبط البناء الدرامي في القصيدة بالحاجة للتعبير عن علاقة الشاعر بالواقع المتردي ورفضه له. لذلك تبدأ الدراسة بتناول موضوع الصراع الذي يعتبر أهم تقنيات المسرح وأكثرها تعبيرا عن تناقض الذات الشعرية مع الواقع وعن الحاجة لبث الحيوية في القصيدة. كذلك تتناول تقنية تعدد الأصوات مع استجلاء أشكال تمثلها واستخدامها في تجربة الشاعرين. وإذا كان الشاعر العبري لاؤور قد تأثر في هذا السياق بتجربة بريخت فإن درويش استخدمها في أعماله الأخيرة التي تحاول أن تستجلي خصائصها الفنية في شعره.

لوحة: إبراهيم الصلحي
لوحة: إبراهيم الصلحي

وتنتقل الدراسة للبحث في تداخل الفنون غير الأدبية كالسينما والفن التشكيلي في تجربة الشاعرين بدءا من استخدام تقنية السيناريو لاسيما في قصيدة مديح الظل العالي لدرويش. كما تبحث في استخدام تقنية المونتاج التي تكتسب اللقطات فيها معنى ومغزى عميقا ومؤثرا ولذلك تركز على تنوع أشكال المونتاج لاسيما في شعر لاؤور في حين كان يمكن الحديث عن ما يتيحه هذا الاستخدام من حرية الحركة والانتقال من فكرة إلى أخرى في بنية القصيدة ما أسهم في غناها وتطور بنيتها الدرامية.

وفي موضوع السينما تتناول موضوع التصوير السينمائي الذي استفاد منه الشاعران في بناء مشاهد متعددة وفي زوايا التصوير وقياس المسافات وتحركات الكاميرا لخلق بنية بصرية ثم تعود إلى استخدام تقنية التقطيع التي كان يجب الإشارة إلى أن استخدامها ارتبط بظهور القصيدة الطويلة ذات الروح الملحمية عند الشاعر درويش. وكما عرضت لاستخدام تقنيات السينما في تجربة الشاعرين تتناول كيفية توظيف واستخدام تقنيات الفن التشكيلي عند الشاعرين مستعينة بالكثير من الشواهد كما فعلت في أجزاء الدراسة الأخرى. وتلخص الناقدة هذا الاستخدام في توظيف الفراغ/البياض وتشكيل المتن والحاشية والتشكيل الهندسي للقصيدة. كذلك تتحدث عن موضوع تكرار الوحدات في أنساق طباقية إلى جانب استخدام عمليات الترقيم باعتبارها مؤشرات بصرية تلعب دورا هاما في ضبط وظائف نبرة الصوت في الكتابة الشعرية. كما تتحدث عن وظائف علامات الوقف التي تعمل على ضبط المعاني وتسهم في توقف القارئ عند بعض المحطات الدلالية الهامة.

وتعمد الناقدة في خاتمة الكتاب إلى تلخيص وتكثيف محاور الدراسة وما حاولت أن تكتشف على صعيد العلاقة بين الشعر والفنون الأدبية وغير الأدبية وأثر ذلك على بنية القصيدة وأشكال مطارحاتها في تجربتي الشاعرين وما ظهر من تلاق واختلاف في توظيف ذلك عند الشاعرين إضافة إلى ما حققه من غنى وثراء وتنوع في أشكال التعبير وفي بنية القصيدة وجمالياتها الفنية والتعبيرية.

إن هذه الدراسة المقارنة التي تنطوي على مغامرة نقدية مركبة سواء على مستوى تجربتي الشاعرين أو على مستوى كيفية توظيف واستخدام تقنيات الفنون والأدب في شعرهما قد أسهمت في التعريف بتجربة شعرية عبرية هامة ظلت تغرد خارج سرب الفكر الصهيوني وتسخر من مقولاته العنصرية ما شكل إضافة مهمة منحت الدراسة قيمة مضافة إلى ما حاولته من ضبط منهجي وقراءة في تطور بنية القصيدة الشعرية المعاصرة وانفتاحها على الفنون الأخرى بغية تجديد وسائل التعبير فيها وإغنائها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.