مسامرات الأموات واستفتاء ميت
شوفينيّة هائلة تجتاح بعض المثقفين والكتّاب السوريين حين الحديث عن لوقيانوس السميساطي، السفسطائي والكاتب السوري الذي يعود نشاطه الفلسفي والفكري إلى منتصف المئة الثانية بعد الميلاد، هو مدعاة للفخر الرومانسي وعلامة على عمق سوريا في التاريخ بوصفها ساهمت في إغناء التراث الغربي-اليوناني، فالحديث عنه في بعض الأوساط الثقافيّة ينبع من محاولة لتجاوز عقدة النقص التي يمتلكها الشرق تجاه الغرب، فمحاوراته وأفكاره الساتيرية التي نشرها عبر رحلاته المتنوعة بين روما وإيطاليا وأثينا وأنطاكية، ومؤلفاته التي تفوق الثمانين وسخريته اللاذعة جعلته من أشهر نقّاد عصره وخطبائه، فلوقيانوس من مشاهير سوريا أدبياً وفكرياً قبل وصول الفتح الإسلامي الذي لم يترك مجالاً للثقافة السوريّة للاستمرار بل استبدلتها بأخرى عربيّة-إسلامية، لوقيانوس أو لوسيان يتحدث اليونانية والسريانية، وكان نتاجه الأدبي باليونانية، وقد تُرجم عملاه “مسامرات الأموات” و”استفتاء ميت” لأول مرة عام 1966 على يد السوري إلياس سعد غالي، هذا العام تعيد المنظمة العربيّة للترجمة نشر “مسامرات الأموات” و”استفتاء ميت” في محاولة لإعادة إحياء تراث هذا السوري الذي ولد في ساموستا التابعة الآن لتركيا.
لا توجد معلومات دقيقة عن حياة لوسيان، لكننا نعلم أنه يتحدث السريانية وتعلّم اليونانية، كما تمرّن ليكون خطيباً ومحامياً وسفسطائياً، وقد ذاع صيته كسفسطائي لامع، ينتقد المقدسات والدين وهو كاره للعلوم التطبيقيّة والرياضيّة، كما عرف عنه سرعة بديهته، وبعد أن حاز سطوة وشهرة ومالاً تخلّى عن السفسطة وعاد للفلسفة، لكن لا كحال المتأخرين عنه، بل عاد للأخلاق وأصلها ملقياً الخطب المرتجلة، ومنتقداً حجج الفلاسفة بوصفهم دجالين أو ساعين للشهرة، كما أنه يُعتبر من أوائل من كتبوا عن المسيحية بداية ظهورها من وجهة نظر وثنية، وذلك في كتابه “موت بيريغرينوس″ الذي يصف فيه استغلال الأخير لكرم الأخلاق المسيحية وخداعه لمضيفيه.
سخرية من التاريخ
أسلوب المسامرات أو المحاورات الذي يستخدمه لوقيانوس نراه يحتذي فيه بأسلوب أفلاطون الذي لا ينكر لوقيانوس إعجابه به، إلا أن محاورات لوقيانوس لا تشبه محاورات أفلاطون، فهي أقرب إلى النصوص الساتيرية والناقدة، التي تتعدد فيها الشخصيات وأهواؤها، وهذا ما نراه في مسامرات الأموات، حيث نرى محاورات مختلفة الطول والمواضيع تدور في العالم السفلي، عالم الموتى حيث فقد من فيه كل ما كان لهم في عالم الأحياء من جاه وصفات لتتكشف حقيقتهم ولينالوا العقاب على ما قاموا به من رذائل وخطايا، ففي المسامرات ينتقد لوقيانوس الآلهة والفلاسفة والقادة والشخصيات التاريخية من التراث اليوناني، بغية كشف زيفها وخواصها الإلهية الوهمية، وأحيانا جشعها وطمعها، ففي المحاورات تحضر شخصيات الإلياذة مثلاً، كما يحضر الإسكندر المقدوني، ليهزأ منه محاوره بوصفه ليس ألهاً، بل هو بشر كالآخرين، وأسطورة التنين الذي كان في الفراش مع والدته ليست إلا هذراً يتداوله العامة في محاولة منهم لتأليه الإسكندر الذي توهّم نفسه إلهاً، كما نرى الإسكندر نفسه يتهم أرسطو بالدجل، وفي محاورة مع هنيبال، يدور بين الأخير والإسكندر سجالٌ عن أن أيّا منهما هو أشد جاهاً وقوة وعظمة، كل ذلك يتم بوصف الجميع أمواتا، دون لحم أو دم، بل مجرد جماجم صلعاء ضاحكة، ليحضر في المسامرات أيضاً والد الإسكندر، فيليبوس، الذي يهزأ من ابنه ومن تعجرفه، فالشجاعة التي يدّعي الإسكندر امتلاكها أطاحت باحترامه بين جنوده، لأنه مات بعد أن صدق الجنود بأنه إله خالد، وهاهم الآن يضحكون عليه، بل ونرى فيليبوس يصرخ بوجه الإسكندر نهاية قائلاً “لقد مُتّ أيها الإسكندر، أفلا تعرف من أنت ولا تفهم!؟”.
مسامرات الأموات تشابه كوميديا الساتير اليونانية، وخصوصا أعمال أرستوفانيس، حيث نرى الآلهة تتحامق والشخصيات التاريخية من قادة وأبطال تفقد هيبتها، أما الفلاسفة فهم ضعفاء مخبولون، فسقراط وبالرغم من أنه في الدنيا أبدى شجاعة في شرب السمّ، نراه في مسامرات الأموات، ضعيفا خائفاً يرتعد، إلى جانب المتحذلقين وحججهم الواهية التي أودت بحياتهم نتيجة جشعهم.
محاكاة كوميدية
الكتاب الآخر الملحق بمسامرات الأموات هو “استفتاء ميت” وهو عبارة عن رحلة متخيّلة قام بها الساتيري مينيبوس أو مينيب إلى العالم السفلي ليستشير العراف تريسياس الذي يشتهر حضوره في ثلاثية طيبة التي تحكي قصة أوديب واللعنة التي تلاحقه وأسرته، حيث يستعين مينيبوس بكاهن مجوسي من أتباع زرادشت ليعبر إلى العالم السفلي، هناك يلتقي بـ”فيلونيدس″ حيث يتحدثان عن الفلاسفة والموت والمحاكمات التي يخضع لها الموتى وفق قوانين العالم السفلي، ما يتضح من أسلوب لوقيانوس هو تأثره بأريستوفانيس مؤلف الكوميديا اليوناني، حيث نرى ذلك مذكورا في نص المحاورة، كما يبدو تأثيره واضحاً في تقنية عبور مينيبوس إلى العالم السفلي عبر التنكر والحديث شعراً، وهذا ما قام به أريستوفانيس سابقاً في نصه “الضفادع″ والذي استفاد منه لوقيان، فمينيبوس يتحدث عن هرقل الذي زار العالم السفلي متنكراً كما في نص أريستوفانيس وهو يقوم بذات الشيء الآن، كي لا ينكشف أمره وليتمكن من المرور بسلام، إلا أن حضور المجوس الزرادشتية مرتبط بثقافة لوقيان والمنطقة التي أتى منها (الشرق)، ليكون تهكم وسخرية لوقيان أشد من تلك التي نراها عند أريستوفانيس، فهو لا يلجأ إلى آلهة اليونان ليخترق ناموس العالم السفلي بل إلى الآلهة الشرقية وكأن في ذلك إمعانا من السخرية في الأوقيانوس اليوناني وآلهته.
يشير المترجم في المقدمة إلى أن تجربة لوقيانوس في الكتابة عن العالم السفلي تسبق تلك التي قدمها دانتي في الكوميديا الإلهية أو ما يشابهها في الثقافة العربية كرسالة الغفران لأبي العلاء المعري أو رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد، فلوقيانوس ساتيري ينتهك المحرم والمسلّم به، منتقداً إياه بشدة ومحولاً إياه إلى مادة للضحك.