مشاهدة الموت
صيف 1996 لم يكن عادياً، فقد انتقلت فيه دول من «العبودية» إلى التّحرّر، ودخلت فيه الجزائر مرحلة العدمية القصوى. لم يكن صيفاً ساخناً، لكنّه كان مضطرباً سياسياً، بدأ مع التّوقيع على دستور جنوب أفريقيا الجديد، الذي أنهى زمن الأبارتيد، أو التّمييز العنصري، وانتهى مع سلسلة من المجازر في الجزائر، بدأت مع واقعة ذبح الرّهبان السّبعة في دير تبحيرين (حوالي 80 كلم جنوبي الجزائر العاصمة)، في عملية نفذّتها الجماعة الإسلامية المسلّحة، ولم تكشف ألغازها كاملة لحدّ السّاعة، واستمرت مع قتل أسقف كاتدرائية وهران بيار كلافوري (1938-1996)، كان صيفا للبشاعات، ولم يكن التّلفزيون الرّسمي اليتيم آنذاك يقوم بواجبه الإخباري كاملاً، كان يصرّ على تعتيم الواقع، والأنباء الدّامية كانت تصل إلى آذان النّاس سواءً عبر محطات إذاعية فرنسية أو مغربية، أو عبر المجلات القليلة التي كان يسمح لها بالتسويق في البلد، أو عن طريق «التليفون العربي»، أي بتناقل أخبار ما يحصل شفويا بين النّاس.
كنت في سنّ الحادية عشرة، وقد أنهيت حفظّ أكثر من نصف القرآن، وأتممت المدرسة الإعدادية، منتقلا إلى المرحلة الإكمالية، وحصل، في ذلك الصّيف، أن نلت فرصة للمشاركة في مخيّم للأطفال، في مدينة شمالية ساحلية صغيرة، كانت تقع على الحدود مع المغرب، ولا تبعد عن وهران سوى بحوالي 100 كلم.
كان أكبر حلم لأطفال جنوب البلد، ومن كانوا في سنّي آنذاك، هو قضاء إجازة في مدينة ساحلية، فالجزائر حينها كانت قد دخلت حرباً مفتوحة مع الجماعات الإسلامية، التي كانت لا تستثني أحداً من ضحاياها، كانت تقوم بعمليات أشبه باستعراض عضلات، بقطع رؤوس مدنيين، من نساء وأطفال، مع إصرار في كلّ عملية إرهابية على أن تترك اسمها على الحيطان، مع رسائل تهديدية للسّلطة، كانت تكتب بدماء ضحاياها.
في البدء، الوالد لم يوافق ولم يرفض فكرة ذهابي في مخيّم، الشّيء الذي اطمأنّ له أن واحداً من منشطي المخيّم كان من شباب الحيّ، كان يكبرني بأكثر من عشر سنوات، أوصاه بأن ينتبه إليّ، وفي اليوم الموالي، في حدود السّادسة صباحاً، كنت أحمل على كتفي حقيبة صغيرة، وضعت فيها بعض الملابس والأكل، مستعداً للذهاب إلى مدينة ساحلية تبعد حوالي 800 كلم عن مدينتي الجنوبية، في زمن كان فيه النّاس ينامون ويستقيظون على أخبار القتل والموت والذبح.
كنّا حوالي 60 شخصاً، أطفال ومنشّطون ثقافيون. تجّمعنا أمام مقر الجمعية المشرفة على المخيّم، في الضّاحية الشّرقية من المدينة، البعض كان يجلس على الأرض وآخرون يستندون على حائط، في انتظار الحافلة، التي كان من المفترض أن تصل على الساعة الثّامنة، لتنطلق نحو البحر. لا حديث بين الأطفال سوى عن جمال المدينة التي كنا سنقضي فيها عشرة أيّام. أحدهم كان يسألني: هل تحمل معك نقود جيب كفاية؟ لماذا؟ ربما سنذهب إلى وهران ليوم أو نصف يوم، قال لي. أنا أعرف ببت الشّاب خالد، أضاف. «وهران» كانت عنواناً للمدينة الحالمة، مدينة الرّاي والفرح واللهو. أخبرته بأن معي بعض الدنانير، لا أكثر، وسأحاول أن أقتصد في المصروفات لمرافقتهم!
تجاوز الوقت الثّامنة، وارتفع الضّجيج في المدينة، والحافلة لم تصل. هل تأخّرت وفقط؟! لا بأس، لم يكن أمامنا سوى الانتظار. لكن الأمر ليس تأخرا، فقد جاء واحد من المنشطين الثّقافيين وأخبرنا أن سائق الحافلة الذي اتفقوا معه قد غيّر رأيه ولن يذهب. لماذا؟ هو خائف من أن نقع في حاجز أمني مزيّف! واحدة من أساليب الجماعات الإرهابية، في جزائر تسعينات القرن العشرين، كان تقوم على نصب حاجز أمني، يرتدي فيه الإرهابيون زيّ العسكر، يوقفون المركبات في الطّريق، لنهبها، أوللتّدقيق في هويات الرّاكبين، واعتقال أو تصفية من يشغل منصباً عسكرياً أو إدارياً سامياً.
• إذن، ستلغى الرّحلة! فكرت. لن أذهب إلى البحر. وسأعود إلى رتابة الحيّ الشّعبي الذي كنّا نسكن فيه.
تحوّل الجوّ العامّ بين الأطفال من فرح إلى عبوس. شعروا بقنوط. لم يستمر الأمر طويلاً، فقد توصّل رئيس الجمعية إلى فكرة لإنقاذ الموقف. أحضر شاحنتين، لنقل البضائع والغنم وكلّ شيء آخر، واتفقا معهم على نقلنا إلى وجهتنا، مقابل أن يدفع لهما عمولاتهما كاملة، مع بعض البقشيش.
هكذا انقسمنا إلى مجموعتين، وقطعنا 800 كلم على متن شاحنتين، في رحلة استمرت يوماً كاملا، فلم نصل إلى وجهتنا سوى صباح اليوم الموالي.
في النّهار، لم تكن الحواجز الأمنية، على الطّريق، «مزعجة»، كانت الشّاحنة تخفض من سرعتها أمام كلّ حاجز عسكري، يطلّ السّائق برأسه ليجيب على بعض الأسئلة، ثم يواصل الطّريق. في الليل، صارت الحواجز «مرهقة» ومذلّة أحياناً، كنا كلّ ساعة تقريباً نتوقّف، ننزل جميعاً، ليفتش العسكر حقائبنا، ونجيب على أسئلة مكرّرة: الاسم، اللقب، اسم الأب، اسم الأمّ.. إلخ. مع ذلك، كنّا محظوظين، ولم نصادف حاجزاً مزيّفا، لم نقع في يد «هذوك» أو «أصحاب اللحية» كما كان النّاس ينعتون الإرهابيين.
وصلنا أخيراً إلى البحر، على صوت المغني الشّاب حسني (1968-1994)، الذي سيصير رمزاً لجيلي وللجيل الذي سبقني، خصوصاً بعد نهايته التراجيدية على يد الإسلامويين. كانت رائحة البحر أقوى من رائحة الدم الذي كان يصبغ وجه البلد. بعد ساعة من وصولنا، ورغم تعب يوم كامل من السّفر في شاحنة بضائع، كنت في الماء أسبح، فلا همّ لي وقتها سوى السّباحة، كنت أسمع، مثل الكبار، عن القتل وعن قطع الرّقاب، لكني لم أكنت أستوعب الأحداث كما يجب، كنت أتعامل مع الواقع ببعض اللامبالاة، كنت تهمّني نتيجة فريق الكرة المحلي أكثر من عدد ضحايا مجزرة ما، كان الموت أمراً مبتذلاً، لهذا فقد كان النّاس يتحدّثون عنه كما لو أنه شيء عادي.
مرّت الأيام الثّلاثة الأولى طبيعية: سباحة، في النّهار وتسكع في الليل، ومشاغبات بريئة في التلصص على عاهرات يأتين للاسترزاق أمام فندق قريب من المخيّم. وبعد أربعة أيام انتشر خبر رهيب في المخيم: لقد ذبحوا ستة عشر شخصاً، في قرية (س)، التي لم تكن تبعد عن مكان المخيّم سوى ثلاثين كيلومترا. آخر قال إن عدد الضحايا ثمانية عشر. في راديو مغربي شهير كنّا نستمع إليه باهتمام قالوا: ثلاث عشرة ضحية. ثلاثة عشر شخصاً قطعت رؤوسهم! وانقسم المشاركون في المخيّم إلى جزأين: جزأ أوّل قرّر العودة من حيت أتى بسيارات الأجرة، تجنباً لسيناريو محتمل بأن يصل الإرهابيون إلى مخيمنا، وجزء فضل البقاء، وكنت مع الباقيين، الذين قضوا ما تبقى لهم من أيام في خوف. حينها طرأ سؤال كان يتداوله الأطفال بسخرية، ولكنه يعبّر عن حجم المأساة: هل تفضّل أن تموت بطلقة رصاص أم بقطع رأسك؟ كما لو أن الجميع كان متفقا على اقتراب الموت، وليس لهم سوى اختيار الطّريقة التي ستنتهي بها حياتهم! كان الموت لا يبعد عنا سوى كيلومترات، ونحن ندّعي الحياة، بالسّباحة ومواصلة التّلصّص على العاهرات اللائي قلّ عددهن أمام الفندق بعد المجزرة.
لاحقاً، حين عدت إلى مدينتي الجنوبية، كانت الألسنة تتحدّث عن مجزرة قتل فيها سبعة أشخاص من عائلة واحدة، في يوم زفاف ابنهم، الذي كان عسكرياً!
كان صيف 1996، عتبة أولى للتّساؤل عن الموت، لمشاهدة الموت يدنو ثم يبتعد، لتخيّل الحياة لحظة الاحتضار، وللتساؤل لاحقا عن جذور العنف الإسلامي. كيف يقطع مسلم رقبة مسلم آخر بدم بارد! بعد أسابيع من ذلك، ذهبت إلى المدرسة الإكمالية، وهناك صادفت أطفالا أكبر سنا منّي، كانوا أكثر فهما بما يحصل، دردشاتنا كانت تدور حول مخلفات العنف الإرهابي، وطيلة سنوات عمري القصير، ما يزال شبح الموت في جزائر تسعينات القرن الماضي، برصاصة أو بقطع الرّقبة، وما رافقه من أسئلة، يُصاحبني حيثما ذهبت. سؤالي الأهم: كيف وصلت الجزائر إلى ما وصلت إليه من عنف غير مسبوق؟