مظاهر التجريب القصصي
إن التجريب ممارسة فنية حداثية تهدف، في الأساس، إلى المغايرة الإبداعية وكسر المألوف في عالم الكتابة السردية، وقد كان الإبداع القصصي من أكثر الفنون الأدبية استجابة للتحولات الجمالية واستيعابا لمظاهر التجديد، فانفتحت مضامين القصص على موضوعات جديدة غير مألوفة واستعارت بنيتها مكونات الفنون الأخرى (كالمسرح والسينما والتصوير وغيرها) لإثراء المتخيل السردي.
تعد المجموعة القصصية “قط يعرّي العالم” (2021) للكاتب المصري محمد سرور مثالا واضحا على التمرد على القوالب السردية التقليدية وارتياد أفق التجريب القصصي. تشمل المجموعة اثنتي عشرة قصة قصيرة تتراوح بين الواقعي والفانتازي، وتطرح علاقة جدلية بين المعقول واللاّمعقول من خلال حكايات تجمع بين الظواهر الطبيعية كالموت والحروب وعلاقات الحب والزواج، ومواضيع غرائبية كالمسخ والتحول وصوت الظل وغيرها من مستويات سردية تجعل القارئ حائرا بين الواقع/المألوف والوهم/غير المألوف.
وقد جاءت قصة “قط يُعرّي العالم”، التي حملت المجموعة عنوانها، بمثابة البرولوج (الاستهلال) الذي يكشف عن تيمات المجموعة ويعلن عن بداية السرد، وتهيئة المتلقي إلى الدخول إلى عالم جديد يخرق آفاق المحتمل – على مستوى البنية والحدث – لتمرير خطاب يعرّي فساد الواقع عبر سرد يحركه قط يستكشف ما يحمله العالم بداخله من قبح مستتر.
بينما تمحورت بقية قصص المجموعة حول موضوعات بارزة مثل “الموت” الذي امتلك حضورا نصيًا في العديد من القصص مثل: “الدخان الأبيض” و”قصة افتراضية عن بائعة الورد” و”اركض يا عمر”، أو “الاغتراب” الذي كان من الملامح الأساسية في نصوص هذه المجموعة كما تجسد في شخصيات قصص “صاحبة الظل المحني” و”الرجل الخشبي” و”رائحة شاذة”.
كما كانت الغرائبية وتعالقها مع الواقع من الموضوعات الأكثر تجديدا التي ظهرت في بعض نصوص المجموعة مثلما نجد في قصص “صاحبة الظل المحني” و”الرجل الخشبي” و”سؤال بسيط عن أمر معقد” و”وجبة حمراء” وغيرها. وكذلك كانت العلاقة بين السلطة والشعب – والتي يشوبها الخوف والشك والصراع – من الموضوعات الطاغية بوضوح على قصص المجموعة كما لمسنا على سبيل المثال في قصتي “اركض يا عمر” و”سؤال بسيط عن أمر معقد”.
مستويات التجريب
تكشف قراءة قصص المجموعة عن تعدد المستويات السردية التي مسّها التجريب، حيث بنيت نصوص المجموعة على أنماط مختلفة من التعبير تقوم على خلخلة القوالب الفنية التقليدية وفتح آفاق جديدة في بناء أحداث القصة. ومن أهم هذه المستويات:
• لعبة الميتاسرد
من طرائق المزج بين الواقع والخيال بالمجموعة انفتاح بعض نصوصها على تقنيات عديدة تعمل على الانزياح عن تقنيات السرد التقليدية، وعلى رأسها توظيف خطاب الميتاسرد الذي يُخرج المتلقي من الحكاية كي يعمل ذهنه في مساراتها وكيفية حدوثها بدلا من الانغماس التام في أحداثها المتخيلة.
وتعتمد تقنية الميتاسرد على الابتعاد عن الفهم التقليدي والممارس للأحداث والشخصيات والزمان والمكان، ومحاولة الاتجاه إلى التجريب والتحديث الذي يكفل لها التحرر من قيود السرد، والانتقال إلى مستوى سردي آخر يقدم فيه الكاتب تعليقات أو تصريحات حول كيفية إبداع ذلك العالم المتخيل؛ حيث يصبح المتلقي طرفا في عملية التخييل والكتابة.
وقد اتضحت جرأة التجريب ولعبة الميتاسرد في قصة “أقدار مغايرة” التي تخرج فيها شخصيات رواية يكتبها بطل القصة عن سلطته وتبدأ في فرض وجودها عليه بعد صراع طويل تحاول فيه تلك الشخصيات كتابة أقدار جديدة تختلف عن المصير المكتوب لها على صفحات الرواية المتخيلة، حيث كان على كل شخصية أن تغير قدرها وتتمرد على المصير الذي حدده لها كاتبها.
وهنا يدخل المتلقي في حالة جدل بين مستويات تخييلية مختلفة بالحكاية أحدثها التأرجح بين الواقعي والمتخيل، والصراع بين الشخصية السردية والشخصيات الميتاسردية، كما اتضح من تصريح الكاتب/بطل القصة:
“في الصباح التالي، كان كل شيء قد تغير. قرأ الكاتب روايته الجديدة والدهشة تعلو وجهه، وكان كلما حاول تغيير ما هو مكتوب، تُمحى الكلمات تلقائيا مع كل جملة… وفي النهاية، بعد عدة محاولات، يئس، بعدما أدرك اللعبة، فكتب جملة وحيدة وأغلق اللاب توب: أبطالي يتمردون عليّ، يكتبون أقدارا مغايرة” (أقدار مغايرة، ضمن: قط يعري العالم، ص 28).
• توظيف الظل
اعتمدت بعض قصص المجموعة على تقنيات مسرحية تجلت – على سبيل المثال- في توظيف الظل كوسيلة لعرض قصص إنسانية ولانتقاد الحياة الاجتماعية/السياسية دون الاحتكاك المباشر بالواقع؛ فخيال الظل يعد في الأساس شكلا من أشكال الفرجة يرى فيه المتفرج العلاقة بين عالم واقعي أو ظاهر وآخر خيالي أو غير ظاهر، ويحاول تفسيرها.
وهنا تجاور الطابع الدرامي مع البعد السردي عبر توظيف الظل في قصة “صاحبة الظل المحني”، ليصبح النص – بهذا – مثالا لتجريب آليات المسرح وتفعيلها قصصيا بشكل يسمح بتداخل المحكي السردي بالمحكي المسرحي وتضافرهما معا داخل المتن، حيث تنفرد كل شخصية بخيالاتها التي تظهر لها في شكل ظلال تحاورها وتراقصها.
فيقدم الكاتب بالقصة الأبعاد النفسية لشخصياته عبر لقائها مع ظلالها المستدعاة كشخوص جاهزة تؤدي أدوارا محددة تتعلق بالوضع النفسي للشخصيات القصصية ورغباتها الداخلية، وهو ما أضفي على النص القصصي طابع الفرجة المسرحية، كما أشرنا من قبل، وميزه بملامح خارقة للطبيعة أخرجته من دائرة القصة التقليدية وأدخلته في إطار حداثي لا تحكمه قوانين كتابية محددة:
“هذا الصباح، أفقت على وحدة تمزقني. دعوت ظلي لكأس كالمعتاد. لم يأت. نظرت من الشرفة، وجدتها تقف وحدها، تنظر إليّ بوجه حزين، ظلها لم يأت أيضا. حينها فقط أدركت أن العتمة أصابت مدينتنا، تماما” (صاحبة الظل المحني، ضمن: قط يعري العالم، ص 19).
• التحول والمسخ
من أهم آفاق التجريب التي ترتادها النصوص القصصية اعتماد الصيغ العجائبية في تقديم الحكاية، ومن ثم تجاوز الأطر التقليدية النمطية للحبكة السردية. حيث يعد العجائبي – من هذا المنطلق – نمطا تعبيريا تجريبيا يلجأ إليه الكاتب لمعارضة الواقع دون إلغائه، فينطلق في مغامرة إبداعية تهدف إلى الخروج عن القواعد الكلاسيكية المقررة.
ويعد موضوع التحول أو المسخ من أبرز موضوعات السرد العجائبي – كما حددها شعيب حليفي – التي تبعث الحيرة والدهشة لدى المتلقي الذي يحاول تفسير تلك الحالة وما ترمز له من أزمات تتمحور غالبا حول الاغتراب عن الذات أو عن المجتمع؛ فحين تطرأ على شخوص الرواية تحولات فيزيقية تكون عادة انعكاسا لتشوهات نفسية أصابتها.
وهنا تعد قصة “الرجل الخشبي” من النصوص المهمة بالمجموعة التي لجأ فيها الكاتب إلى تقنية التحول أو المسخ للتعبير عن أزمة الوجود ورفض الواقع؛ فاستطاع أن يخلق عالما سرديا عجائبيا/غير مألوف ممتزجا بمواد الواقع، عبر تخشّب بطل القصة وهو جالس أمام شاشة التلفزيون وتحوله إلى كتلة خشبية صماء تأخذ شكل المقعد الجالس عليه:
“ما معنى تحول جسده لخشب؟ هل يمزح أحد معه وجبّس رجليه ويديه بجبيرة خشبية؟ وماذا عن رأسه؟ هو لا يشعر بالدم يسري إلى مخه، هل لذلك لا يستوعب ولا يفكر؟ سأل نفسه. ولكن فكّر أن تلك الأسئلة كلها نوع من التفكير أيضا، حرّك رأسه الخشبي لليسار واليمين. تحرك ببطء مصدرا صوت احتكاك الخشب ببعضه. لا شيء سواه في الغرفة قد تحول لهيئة أخرى” (الرجل الخشبي، ضمن: قط يعري العالم، ص ص 33 – 34).
وهو الملمح الذي نلمسه كذلك في قصة “وجبة حمراء” التي تتحول شخصياتها إلى هياكل ذابلة تزحف فوق التراب، وتبرز عظام أجسادها الهزيلة وتسقط رؤوسها، نتيجة ما تتعرض له من شفط مستمر للدماء مقابل الحصول على الأطعمة الشهية:
“الوحيد الذي لاحظ، هو ذلك الشاب الذي رفض الذهاب أو دس لقمة في فمه، كان يرى أن هذا الطعام، شر ولعنة. كان يلف كل مساء على البيوت، ينصح الناس، وبيده مرآة، يريهم أشكالهم بها، وكيف أصبحت. وفي الأغلب، كان يقذف أو يركل، ولا يستمع له أحد” (وجبة حمراء، ضمن: قط يعري العالم، ص 52).
• التناص الديني
إن استلهام التراث الديني ظاهرة قديمة في العديد من النصوص الأدبية انشغل بها معظم المبدعين، ولكن يكمن التجديد بها في الأسلوب الذي يستعير به الكاتب نصا دينيا أو قصة دينية ويوظفها في نصه الأدبي بهدف تقوية النص وإبراز معناه، أو تمرير رؤية معينة يريد تقديمها للمتلقي.
وقد يحمل النص الإبداعي علاقات تخالف واضحة – من حيث الرؤية والموقف – مع القصة الدينية المبني عليها النص، وهو ما أسماه أحمد مجاهد في كتابه الخاص بأشكال التناص الشعري وتوظيف الشخصيات التراثية بـ”تناص التخالف”، ويتمثل في معارضة توظيف الشخصية – القصة التراثية داخل النص الحداثي للمرجع التاريخي – الديني.
فعلى العكس من دلالة الطوفان في النصوص الدينية وهي تطهير الأرض من المعصية والعصاة وبدء الحياة الصالحة على الأرض من جديد بعد إنقاذ الصالحين من الغرق عبر ركوبهم للسفينة التي صنعها نوح، نجد هنا أن الكاتب في قصة “بئر نوح” قد استخدمه بدلالة عكسية وهي دلالة التحطيم وبداية الخراب؛ حيث نجد أن من تمكن من ركوب السفينة والاحتماء بها من الأمواج هم القوم الظالمون الذين يعيثون في القرية فسادا بينما كان الصالحون هم الغارقون، وهو ما يحيلنا إلى قصيدة “مقابلة خاصة مع ابن نوح” للشاعر أمل دنقل، وكأن القصة هنا هي بمثابة تحول سردي للقصيدة:
“أول من صعد إلى السفينة كانت صباح لعوب القرية، لا أحد يعلم كيف وصلت سريعا، لكنها أول من صعدت، ووراءها العمدة ورجاله… كان نوح يرى ذلك من بعيد ودمه يفور، كان يحاول الوصول هو أيضا إلى السفينة، لكنه كان يحاول أن يساعد كل من يراه أمامه، حتى رأى – وهو يساعد رجلا كبيرا – رجال حامد رشاد وهم يسحبون السلم إلى أعلى، ويسحبون المرساة الحديدية، ورأى للمرة الأخيرة، السفينة وهي ترحل مبتعدة” (بئر نوح، ضمن: قط يعري العالم، ص 73 – 74).
كما يتجسد التناص الديني في توظيف تيمة القرية الظالم أهلها التي تستمر في بغيها حتى يأتيها موعد الهلاك كما حدده العقاب الإلهي، وهو ما اتضح في قصة “سؤال بسيط عن أمر معقد”، التي يعيش أهلها في بيئة ملعونة يسكنها الدود والغربان وكائنات تشبه البشر لها رؤوس بحجم الزيتونة، يحاكم حكّامها المذنب دون أن يعرف الذنب الذي يُحاكم من أجله:
“أعيش في قرية قبيحة، يسكنها الدود والغربان وكائنات تشبه البشر.. أعيش وحيدا.. لا أحب أحدا، ولا يحبني أحد. لا يحبني أحد لسبب؛ لأنني أملك رأسا كبيرا، أكبر من المعتاد.. وكل أهل قريتي لهم رؤوس صغيرة، صغيرة للغاية.. يقولون إنني كنت طفلا مشؤوما… ولدت في قرية قبيحة، لا يود أحد أن يولد بها” (سؤال بسيط عن أمر معقد، ضمن: قط يعري العالم، ص 97).
• الأجواء الأسطورية
قد يلجأ الكاتب إلى توظيف الأسطورة كوسيلة يُمكنه عن طريقها أن يضفي على نصه طابعا فكريا فلسفيا وأن يكسبه قوة إبداعية متجددة مستمدة من الأجواء الأسطورية التي تمنح المتلقي دلالات متجددة في كل مرة يحاول فيها إيجاد العلاقة بين النص الأدبي والمكونات الأسطورية المستوحاة.
وقد نجد الأسطورية روحا عامة تسري في العمل الأدبي بهدف بلوغ أقصى درجات التأثير في القارئ وتحقيق مستوى تجريبي مزدوج يطول النص في دلالته الفكرية المضمونية وكذلك في بنيته الفنية الجمالية، مما يبرهن على القوة التجديدية التي يمتلكها الكاتب عبر اشتغاله على الغريب والأسطوري وتوظيفه في مادته الحكائية.
وقد تجلى الملمح الأسطوري منذ المشهد الاستهلالي لقصة “المدينة الزرقاء” في ارتباط “نور” – بطلة القصة – بالبحر وتعلقها برائحته، فكانت تلجأ إليه كلما ضاقت بها الدنيا لتشكو له وتحكي له قصتها، حتى بدا البحر نفسه وكأنه شخصية رئيسة تشاركها الأحداث الفاصلة في حياتها:
“كل يوم تقوم نور بهذه الرحلة الصغيرة، وتجلس لساعات على بقايا قارب قديم محطم ملقى على الرمال، تناجي البحر وتشكو له… ظلت نور على هذه الحال مدة طويلة، حتى ذات صباح رائق، كانت واقفة تبث إلى البحر همها كالمعتاد، حين برزت الفكرة في رأسها، عندما تذكرت تلك الأسطورة القديمة عن امرأة لم تنجب، طلبت من البحر ابنا، مع النذر برده إليه مرة أخرى عندما يكبر، وعندما منحها البحر ما تريد، تعلقت بالولد، ورفضت رده إليه، فغضب البحر لذلك وهاج وأغرق بيتها” (المدينة الزرقاء، ضمن: قط يعري العالم، ص 78).
كما انعكس ذلك الفضاء الأسطوري على البنى الفكرية والجسدية لبعض الشخصيات، مثلما يمكن أن نلمس في أسطورية بناء شخصية “بحر” – مولود نور بالقصة نفسها – الذي اتسم بسمات خاصة جعلته يشبه “البطل الأسطوري” الذي يحتل مكانا مميزا عن الآخرين بفضل أفعال بطولية وسلوكيات أخلاقية تخلّده في قلوب الناس:
“الولد بالفعل كان يشبه البحر، فقد كان له جسد أبيض رقيق وعينان زرقاوان صافيتان وشعر أسود مموج جميل، وله رائحة اليود… كان الكل يتعجب ويحكي عن مهارة الصغير في الصيد؛ حيث حكى الصبيان لأهلهم أن السمك يحب بحر، يكفي أن يمد الصغير يده في المياه ليتقافز حوله السمك في جنون… ولهذا الخير كله، فقد أحب أهل المدينة كلهم بحر، الذي بسببه ازدهر صيد الأسماك، وعرف السكان أنواعا جديدة من الأسماك لم يعرفوها من قبل” (المدينة الزرقاء، ضمن/ قط يعري العالم، ص ص 80 – 82).
وفي النهاية، يمكن القول إن المجموعة القصصية “قط يعري العالم” للكاتب محمد سرور قد امتلكت العديد من مستويات التجريب – على مستوى الخطاب الشكلي والمضموني معا – التي أهّلتها إلى الابتعاد عن القولبة وكسر رتابة المألوف، مما دفع القارئ إلى الكشف عن جماليات السرد بنصوصها والمشاركة في إنتاج تلك النصوص من جديد وليس مجرد تلقيها فقط.