معاندة التاريخ
“أنا يهودي نعم.. ويساري نعم.. ولكن الصفة الأهم هي أنني مصري.. وفي حدود معلوماتي لا يشترط، لكي أكون مصريا، أن أغير ديني أو أغير معتقداتي السياسية”. (يهودي في القاهرة، ص 39).
بهذه المقولة يلخص المحامي المصري شحاتة هارون (1920- 2001) ما جاء في كتابه “يهودي في القاهرة” (1987) من رسالة مفادها أن يهود مصر كانوا جزءا لا يتجزأ من المشهد السياسي/الاجتماعي الذي ساد في مصر، والذي اتّسم بقدر كبير من التفاعل بين مختلف طوائفه، ومن هنا فقد حرص هارون على تقديم مذكراته على نحو مخالف للقراءات الصهيونية الحاكمة لتاريخ الجماعات اليهودية في البلاد العربية والإسلامية، وذلك في إطار سعي اليهود المصريين إلى الدفاع عن مفهوم المواطنة في مواجهة الفرضيات الصهيونية التي تدور في معظمها حول محور ثابت لا يتغير وهو تكثيف حالة الاضطهاد وضرورة تهجير اليهود من مصر إلى فلسطين لإنقاذهم من هذا الواقع.
ومن هنا يدحض شحاتة هارون في مذكراته الكثير من تلك الفرضيات الصهيونية التي يأتي في مقدمتها رغبة يهود مصر الدائمة في الهجرة إلى فلسطين لإيجاد وطن بديل يشعرون فيه بالاستقرار، كما يعمل أيضا على نفي الخطاب الصهيوني الذي يتحدث عن تعرض يهود مصر إلى الاضطهاد وإحساسهم بعدم الاندماج في المجتمع الذي يعيشون فيه، لذلك حرص الكاتب بمذكراته على توثيق وضع اليهود في مصر وأسباب دفعهم إلى الهجرة عنها.
وشحاتة هارون يهودي مصري ينتمي للتيار اليساري درس الحقوق في جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا) وبها توثقت علاقته باليسار المصري، وانضم إلى التنظيمات الشيوعية التي انتشرت بمصر في أربعينات القرن العشرين، وكان أحد قيادات حزب التجمع اليساري، وقد تمسك بجنسيته المصرية ورفض الرحيل إلى “إسرائيل” التي وصفها في كتابه بأنها “كيان عنصري خرافي ضد التاريخ وضد قوانين الطبيعة”.
وكان هارون من أبرز المثقفين اليهود في مصر المناهضين للصهيونية الرافضين لقيام إسرائيل، لذلك فبعد إعلان قيام “دولة إسرائيل” وتوتر العلاقة بين النظام الحاكم واليهود في مصر، أسس هارون مع رفاقه من اليسار المصري “الرابطة الإسرائيلية للكفاح ضد الصهيونية” في محاولة لتأكيد مصرية يهود مصر ورفضهم للكيان الإسرائيلي، كما كان من أشد المعادين لاتفاقية “كامب ديفيد” التي رأى فيها “اتفاقية سلام أميركية بشروط الصهيونية الحاكمة في إسرائيل، وبالتالي فإنها ضد مصالح الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي” (المذكرات، ص 61)، كما أنها – في اعتقاده- لن تحقق السلام سواء لإسرائيل أو لمصر أو لبقية الشعوب العربية، لأن مفهوم “السلام” بها يكرس المصالح الأميركية في المنطقة.
وفي إطار سعيه الدائم إلى التأكيد على أنه مواطن أصيل ينتمي للشعب المصري، اشترك هارون في “الاتحاد الاشتراكي العربي” عام (1963)، وانتمى إلى الحزب اليساري التوجه “حزب التجمع المصري” الذي كان عضوا مؤسسا فيه منذ قيامه عام (1976). وقد اعتُقل عدة مرات إما بسبب اتهامه بأنه “يهودي يساري ينظم المظاهرات”، أو أنه “جاسوس يعمل لحساب إسرائيل”، وفي عام (1979) اعتُقل هارون بسبب معارضته لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وكان أحد المطلوبين في حملة اعتقالات سبتمبر (1981) وفق قرارات التحفظ على القوى الوطنية في مصر وقمع السياسيين المعارضين لاتفاقية كامب ديفيد.
يهودي مصري ضد الصهيونية
أدرك هارون – مثل عدد كبير من اليهود العرب- أن الحركة الصهيونية تعد في حقيقتها حركة أوروبية استعمارية لا تعبّر عن مصالح اليهود بقدر ما تعبر عن أطماع حفنة من اليهود الأوروبيين، وأن أتباع الصهيونية وقادتها لم يكونوا بعيدين عن مشاعر التملك والسيطرة الخاصة بأبناء شعوب أوروبا على بقية شعوب العالم، فيؤكد بمذكراته أن الصهيونية حركة عنصرية توسعية تعدّ في مضمونها امتدادا للفكر الاستعماري الأوروبي “يتعين علينا أن نشير إلى أن الصهيونية بتياراتها ولدت في أوروبا، وصدّرت إلى الشرق الأوسط بواسطة الاستعمار، وهي تمثل نزعة بورجوازية صغيرة سلفية، تماما كأي نزعة تستخدم الدين أو العرق، وبسهولة تسقط وتتحول لسلاح في يد الاستعمار” (المذكرات، ص 71).
ويوضح كذلك أن قطاعا عريضا من اليهود المصريين قد أدرك أن الصهيونية حركة استعمارية غربية تضمر الكراهية لأيّ مكون شرقي أو عربي، ويرى أنها “نشأت كيانا استعماريا.. نظاما عنصريا عدوانيا يضطهد الإنسان ويتحدى قيم الديمقراطية.. وهي ليست كيانا يهوديا بكل تأكيد” (المذكرات، ص 43).
وفي هذا الإطار، يعلن الكاتب رفضه للصهيونية ويطلق عليها اسم “العدو” باعتبارها شكلا من أشكال الاستعمار الأوروبي الذي تجب مقاومته، ويصرح “إن يقظة الجماهير وتعبئتها الدائمة وإطلاق قدراتها الكفاحية (مادية، ثقافية، وعسكرية) هو الضمان الوحيد للمزيد من الضغط على العدو (الاستعمار والصهيونية)، فالمزيد بالتالي من الانتصارات” (المذكرات، ص 34)، فينصح اليهودي أيّا كان موطنه أن يتبنى قضايا الوطن الذي ينتمي إليه.
ينفي هارون الكثير من الفرضيات الصهيونية المتعلقة بتاريخ يهود مصر، والتي تسعى إلى اختلاق واقع تاريخي موحد ورسمي لجميع اليهود قائم على اشتراطات الحركة الصهيونية “الإشكنازية” التي تقدم مروياتها التاريخية رؤية تدعم حالة الاضطهاد التي تعرض لها يهود أوروبا وتحاول تطبيقها على تاريخ يهود الشرق، عبر إغفال الوجود اليهودي المثمر في ظل الحضارة العربية الإسلامية، كي تشرعْن دورها كحركة جاءت لإنقاذ اليهود، فيؤكد بمذكراته “إن مصر لا تعرف ما يسمى بمعاداة السامية، فقد توجد مشاعر معادية لليهود ولكنها رد فعل للعدوان الإسرائيلي، وهذا شيء مختلف تماما عن معاداة السامية في أوروبا. ففي أوروبا يعادون اليهود لأنهم يهود. أما في مصر، فإن صورة اليهودي قد اختلفت عندما ظهر الصهيوني على المسرح.. وأيّ تغير في نظرة الشعب المصري إلى المواطن اليهودي ناجم عن سلوك الدوائر الحاكمة في إسرائيل واتجاهاتها العدوانية” (المذكرات، ص 40).
وبهذا يؤكد أن اليهود قد عاشوا في مصر – جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحين – كمواطنين من أبناء الدولة، وبرزت منهم شخصيات عديدة لعبت دورا لا يستهان به في المجتمع المصري، مثل هنري كورييل ويوسف درويش، وذلك قبل تعرض يهود مصر في خمسينات القرن العشرين لموجة من العداء في إطار الخلط المتعمد بين مصطلحي “يهودي” و”صهيوني”، الذي أثارته حركة الإخوان المسلمين حينها، حيث لم يفرقوا بين اليهودية كديانة والصهيونية كأيديولوجيا، وهو ما دعّم الدعوة الصهيونية بالمساعدة على انضمام أعداد من اليهود إليها والاضطرار إلى هجرة كثير من يهود مصر إلى إسرائيل.
فشغل تأكيده على اندماج يهود مصر في وطنهم وعدم استجابتهم لتضليل الدعاية الصهيونية الزائفة لهم من أجل الهجرة إلى إسرائيل مكانة مركزية بمذكراته “أرى أن اليهود أو أيّ أقلية دينية أو عرقية لا بد أن تشارك بقية المواطنين في هذا البلد أو ذاك من أجل تحقيق الديمقراطية والتحرر… أنا شخصيا عملت بما أعتقد، شاركت وما زلت أشارك الشعب الذي أنتمي إليه، شعب مصر، في نضالي من أجل التحرير” (المذكرات، ص ص 72 – 73).
في هذا الإطار، يدحض هارون فرضيات الخطاب الصهيوني حول خلاص اليهود من خلال توطينهم في فلسطين وشعور الاشتياق الجمعي الذي يحثهم على العودة إلى القدس، تجلّى ذلك في تعزيز ارتباط يهود مصر بدولتهم وانتمائهم إلى حضارتها العربية ونفي رغبتهم في الهجرة إلى “أرض الميعاد” كي يتخلصون من إحساسهم بالاضطهاد وعدم الاندماج كما تروج الصهيونية “لقد عاش اليهود في ظل الدولة الإسلامية مواطنين على قدم المساواة مع غيرهم، فصبوا كل ثمار عقولهم في تيار الحضارة الإسلامية العام، وقد حملني هذا على أن أرفض كل فكرة تجعلني مختلفا عن بني وطني أو منفصلا عنهم. ومن هنا نشأت كراهيتي للفكرة الصهيونية” (المذكرات، ص 41).
والحقيقة التي لا خلاف عليها أن إسرائيل تعاني من أزمة داخلية ناجمة عن الاختلافات الثقافية بين المهاجرين اليهود الوافدين إليها من بلدان مختلفة، أوروبية وعربية، وقد فشلت سياسات “بوتقة صهر” التي لجأت إليها الحكومات الإسرائيلية لصهر الثقافات المتعددة في بوتقة إسرائيلية واحدة بهدف خلق مجتمع جديد ومتجانس، وسيطرت الانقسامات بين فئات الدولة، وخاصة بعد تمسك يهود البلدان العربية بهويتهم العربية ورفضهم لصهر ثقافتهم العربية ودمجها في نسيج ثقافي موحد تشكله الطبقة المهيمنة من اليهود الإشكناز/الأوروبيين.
ولذلك يدحض هارون بمذكراته الفرضية الصهيونية المعروفة باسم “بوتقة الصهر”، معلنا فشل إسرائيل في صهر كل اليهود الوافدين إليها داخل مجتمع واحد متجانس، ويرجع ذلك في رأيه إلى “أن إسرائيل أسوة بأيّ دولة من دول العالم فيها طبقات تتناقض مصالحها… بل وتتنازعها أيديولوجيات نتيجة للجذور التاريخية المتباينة لسكانها من اليهود” (المذكرات، ص 94)، ويطرح – بالتالي – ضرورة مراعاة الاختلافات الثقافية داخل المجتمع الإسرائيلي لتحقيق الانسجام بين أفراده، وهو ما رفضت السرديات الصهيونية إقراره؛ لأن الاعتراف بالتعددية الجمعية الثقافية لليهود يطوي بداخله الاعتراف بأن ثقافة المجتمع الإسرائيلي ليست سوى تجميع لثقافات تطورت في سياقات تاريخية ولغوية مختلفة.
وقد أدت الأصول الأوروبية للمهاجرين اليهود الأوائل إلى رفض كل ما هو شرقي والنظر إلى مهاجري الدول العربية نظرة دونية، حيث اعتبرتهم السلطة – بتعبير المؤرخ شموئيل أمير – “بدائيين وغير ملائمين لتحقيق الحلم الصهيوني الأوروبي”، ويثبت هارون في مذكراته هذا الرأي معترفا بالسياسات العنصرية التي تمارسها إسرائيل ضد اليهود ذوي الأصول العربية والنظرة الأحادية التي تعتمدها المؤسسة الصهيونية متبنية أفضلية الثقافة الغربية “إن حكومة إسرائيل تعامل العرب وحتى اليهود منهم معاملة عنصرية، لكنها حكومة دكتاتورية عسكرية عنصرية، تعلن بمنطقها تأييدها للاضطهاد العنصري في أفريقيا الجنوبية وللوحشية الأميركية في فيتنام” (المذكرات، ص 13).
ويدحض شحاتة هارون في مذكراته عددا من الفرضيات الصهيونية التي لما يسمى بـ”العبقرية اليهودية” التي تردد – زيفا – أن العقل اليهودي يتفوق في حد ذاته على عقول “الأمم” الأخرى أينما وُجد. وهنا يرفض الكاتب الاعتراف بتفوق أيّ جنس ويرى أن اليهود “لا يختلفون عن أيّ أقلية في أيّ مجتمع. فالأقلية تميل إلى تسليح نفسها بالعلم أو المال، وكلاهما يعطي فرصة أكبر لظهور المواهب. أما ما يسمى التفوق اليهودي، فهو خرافة” (المذكرات، ص ص 39 – 40)، فـ”موسى بن ميمون” أو ” يعقوب القِرقِساني” أو “سعديا الفيومي” وغيرهم هم مفكرون عرب اعتنقوا اليهودية وتفاعلوا مع التراث العربي الإسلامي الذين يعيشون داخله ومن خلال هذا التفاعل نضجت “عبقريتهم العربية اليهودية”.
ومن الجدير بالذكر أن بعض اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين قبل قيام الدولة وبعدها، لم يهاجروا تأثرا أو اقتناعا بالفكر الصهيوني الذي هدف إلى إنشاء “وطن قومي” لليهود، إنما هاجروا بسبب ضغوط الظروف السياسية وأعباء الحياة الاقتصادية، والدليل على ذلك هجرة الكثيرين منهم إلى الولايات المتحدة الأميركية وليس فلسطين.
ولذلك يؤكد هارون على اضطرار بعض اليهود المصريين إلى الهجرة من مصر إلى بعض الدول الأوروبية وأميركا وليس إلى إسرائيل لأسباب اقتصادية واجتماعية، خلافا لما تردده الفرضيات الصهيونية من رغبة اليهود الملحة في الهجرة وحنينهم الدائم إلى “أرض الميعاد”، “الذي أعرفه أن عدد اليهود في مصر والذي كان يجاوز المئة ألف في الثلاثينات لم يبق منهم سوى ما لا يزيد على 180 فردا، والذين هاجروا لم يهاجر منهم إلى إسرائيل إلا ما بين 20 و 25 في المئة والباقي ذهبوا إلى أوروبا وأميركا” (المذكرات، ص 73).
فيصف – لذلك – تطلع إسرائيل إلى تجميع اليهود جميعا داخلها في إطار تحقيق “حلم إسرائيل الكبرى” بأنه “خرافة أخرى يستحيل أن تتحقق، لأنها ضد التاريخ وضد قانون الطبيعة. فلم يسبق في هذا العالم أن نشأت دولة تتألف من عنصر واحد… إن تصور وجود دولة للجنس اليهودي وحده هو تصور شديد التخلف… وإذا كان التاريخ قد قضى بأن تكون جميع القوميات في العالم الآن خليطا من أجناس مختلفة، فلماذا يقضي لليهود وحدهم بدولة من جنس واحد؟” (المذكرات، ص ص 44 – 45).
وفي هذا السياق رفض شحاتة هارون فكرة الهجرة من مصر إلى إسرائيل كما فعل بعض اليهود بعد عام 1948، مفضلا أن يشارك الشعب المصري نضاله من أجل نيل حقوقه “لن أترك مصر ولو قطعوا رقبتي. إنها وطني، حقي وواجبي.. ثم إنني لم أشعر في أيّ وقت بأن شعبها قد لفظني. وعندما قُبض عليّ وجدت عشرات من المواطنين معي في السجن، ووجدتهم من مختلف الأديان والمعتقدات. ولم أشعر بأنني عوملت معاملة تختلف عنهم” (المذكرات، ص 46)، مما يثبت أن حملة الاعتقالات آنذاك كانت وضع اشترك فيه مع “اليهود” المصريين مسلمون ومسيحيون وكذلك أجانب من جنسيات مختلفة، وكانت معاملة اليهود المصريين داخل المعتقلات لا تختلف عن معاملة بقية المصريين.
وعند سؤاله عن سبب عدم نزوحه من مصر ورفضه الهجرة إلى إسرائيل أعلن “لأنني أرفض أن أنزع عن نفسي.. وباختياري، صفتي كمواطن وحتى كإنسان، كما أرفض صورة (اليهودي التائه).. على اليهودي كأيّ مواطن أن يتبنى قضايا الوطن الذي ينتمي إليه، فهذا ضمانه، وليست الصهيونية” (المذكرات، ص 41).
وقد حمّل شحاتة هارون الحكومات العربية مسؤولية اضطرار اليهود إلى الهجرة إلى إسرائيل بسبب ما سلكته نحوهم من سلوكيات، فقد كانت الحكومة المصرية في أواخر الأربعينات “سعيدة” – بتعبير محمد أبو الغار – بهجرة اليهود الاختيارية ولم تحاول منعها، لأنها أرادت أن تتخلص من النشاط اليساري والشيوعي بأي طريقة، ولذلك كان قرار الحكومة المصرية هو “إغماض العين” وترك اليهود المصريين يهاجرون.
فيؤكد أن الحكومات العربية قد أمدت إسرائيل بالجانب الأكبر من طاقتها البشرية بالتغافل عن تهجير مواطنيها من اليهود العرب “يبنغي ألا نذهب بعيدا ونتغافل عن حقيقة أساسية وهي أن الحكومات العربية – ومنذ قيام إسرائيل – قد عمدت إلى مدها بالطاقة البشرية عن طريق إرغام سكان دولها من اليهود على ترك أوطانهم، وبذلك أمدوا إسرائيل بستين في المئة من طاقتها البشرية” (المذكرات، ص 65).
جذور الصراع العربي – الإسرائيلي
كان عام 1948 – الذي شهد إعلان قيام إسرائيل – عاما فاصلا في تاريخ يهود مصر، حيث بدأت حملة اعتقالات في صفوف اليهود المصريين والذين تم الاشتباه في نشاطهم الصهيوني، ويقول شحاتة هارون عن هذه الحملة “من أودعوا المعتقلات عرض عليهم البقاء فيها أو المغادرة النهائية، فآثر العديد منهم المغادرة خلال السنتين والنصف التي امتد إليها الاعتقال”( المذكرات، ص 53)، وهو ما يفسر تزايد نسبة المهاجرين اليهود من مصر خلال الأعوام التالية، خاصة مع وقوع عدد من التفجيرات التي استهدفت المحلات التجارية التي يملكها يهود مصر، مثل شيكوريل وأريكو وعدس وبنزايون، كرد فعل على الجرائم الصهيونية ضد الفلسطينيين، مما أسهم في توتر العلاقات بين اليهود وغيرهم من المصريين.
وفي تقرير عن وضع اليهود في مصر قدمه شحاتة هارون إلى منظمة التحرير الفلسطينية في أواخر السبعينات- أرفقه بالمذكرات – يستعرض تغير وضع اليهود في المجتمع المصري بعد الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد الدول العربية؛ فبعد حرب 1948 بدأت موجة الإساءة إلى اليهود في مصر عن طريق حرمانهم من إثبات الجنسية المصرية، ووضع أموال غالبيتهم تحت الحراسة ووضعهم في المعتقلات دون تمييز في النزعة السياسية لهم، هذا بالإضافة إلى ارتكاب المؤسسة الصهيونية أعمال إرهابية استهدفت تحطيم المحلات المملوكة لليهود في مصر، لتخويفهم وإرغامهم على الهجرة إلى إسرائيل.
فحرب 1948 مثلما حملت كارثة للفلسطينيين الذين طردوا من بيوتهم وفقدوا أرضهم – كما صرح – كانت لها أيضا انعكاساتها على العلاقات بين اليهود والمسلمين في البلدان العربية والإسلامية. فمنذ ذلك الحين تم تعريف اليهود كصهاينة على أساس ديانتهم فقط، حتى إذا كانوا لم يسمعوا من قبل كلمة صهيونية، وكان نتيجة ذلك انفصال يهود البلدان العربية عن وطنهم دون قدرة على العودة مرة أخرى.
أما بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فقد اتُّبعت الأساليب ذاتها لكن بشكل أكثر إتقانا، حيث تم الضغط على اليهود لمغادرة البلاد دون رجعة، واعتقال الرجال والنساء منهم دون تمييز، ووضعت الحراسة على أموال الإنجليز والفرنسيين وبعض اليهود المصريين، وقد تلت ذلك هجرة أعداد كبيرة من اليهود عن مصر كما صرّح بمذكراته، وذلك في إطار ما تبع هذا العدوان من موجة شعور بالعداء تجاه اليهود باعتبارهم جميعا أعداء للبلاد، حيث كان لاشتراك إسرائيل في العدوان الثلاثي أثر حاسم في إثارة الشعور الشعبي ضد اليهود في مصر.
وفي أعقاب نكسة 1967 – كما أوضح بمذكراته – تم إلقاء القبض على كثير من اليهود في مصر، وأودع العديد منهم في المعتقلات، بينما من كانت له علاقة منهم بالمؤسسة الصهيونية تم تسهيل ترحيله إلى إسرائيل مقابل حرمانه من الجنسية المصرية، كما تم الضغط على البقية الباقية منهم التي رفضت الرحيل لإرغامهم على السفر طيلة ثلاثة سنوات ونصف.
وقد ناقش هارون في مذكراته أبعاد الصراع العربي – الإسرائيلي ضمن دراسة بعنوان “خواطر حول الشرق الأوسط”، أدرجها في كتابه، وتناول فيها طبيعة هذا الصراع ومضمونه وجذوره ورأيه في كيفية التغلب عليه، وأعلن أن الصراع يرتكز في الأساس حول مسألة السيطرة على الأرض، بينما يقوم حله على إقامة دولة فلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة ثم توحيد الدولتين (فلسطين وإسرائيل) في دولة ديمقراطية واحدة يتمتع سكانها بحقوق متساوية بصرف النظر عن العرق أو الدين “نقطة البدء التي لا مفر منها هي إنشاء الدولة الفلسطينية العربية. ثم الحوار بين القوى الديمقراطية فيها وفي إسرائيل، تمهيدا لإقامة الكيان الديمقراطي الموحد بعيدا عن العنصرية” (المذكرات، ص 44).
وأخيرا، فإن شحاتة هارون في مذكراته “يهودي في القاهرة” أراد توثيق تاريخ اليهود في مصر كما حدث وليس كما صوّرته الدعاية الصهيونية، فكتب عن حياة يهودي مصري أوقعه قدره في أن يعيش منذ مقتبل عمره في ظروف الصراع العربي – الإسرائيلي، فأثبت أن الكثير من أبناء الطائفة اليهودية في مصر قد شاركوا في الحياة السياسية بها وكان لهم دور فعال بجوار في الدفاع عن استقلالية وطنهم، وكان هذا الشعور نابعا عن شعور وطني مصري لم يتأثر بالأفكار الصهيونية التي فشلت في زعزعة انتماء الكثير من اليهود المصريين لوطنهم، وقد برهن من خلال قراءته لوضع اليهود في مصر، أن اليهود لم يتعرضوا لاضطهاد يمكن مقارنته بما تعرض له اليهود في أوروبا، بل تعرضوا لموجات قليلة من العداء كان سببها تأثير الحروب الإسرائيلية – العربية على ذوبان الفرق لدى الكثيرين بين مفهومي اليهودية والصهيونية، وأن قيام دولة إسرائيل كان سببا رئيسا في خروج اليهود من مصر.
ويمكن القول إن مذكراته قد جسدت بوضوح حلمه بهوية إنسانية تتلاقح داخلها شتى الاختلافات وتمحو قوتها الفروق الإقصائية القائمة على اللون أو الدين أو النوع أو الأصل أو الانتماء وغيرها من أشكال التمييز العنصري، فـ”لكل إنسان أكثر من هوية. وأنا إنسان. أنا مصري حين يُضطهد المصريون. وأسود حين يُضطهد السود. ويهودي حين يُضطهد اليهود”. (المذكرات، ص 46).