مع بروموثيوس: تقرير موقف
سيكون على الشاعر تأدية مهمته: التحريض على الجمال؛ تشكيلاً وتعبيرًا، إلهامًا واستلهامُا، تخليا وتحليا، الشعر نايات وريح صبا، الشعر منجل ومعول وفأس وغيمات وخيول، الشعر هو سيفنا وحصاننا المفرد في مواجهة قبح العالم من أجل إعادة الكون إلى ساعة خلقه إحكامًا ونظاما.
ومع ما نعانيه نحن العرب من الاختيار-الاختبار-المحنة: علينا أن نختار بين الأمن وبين الحرية. وكأنهما لا يجتمعان، تلك قصة حياة الإنسان عبر العصور، راعيًا للغنم كان أم رائدًا للفضاء، منذ سبعة آلاف عام أو بعد مثلها، وإن تتبّعنا أيّ مسار للبشرية لوجدنا ذلك جليًّا، يولد الإنسان حرًّا لكنه ينزح تحت أغلال العبودية، بتنازله طواعية عن جزء منها -كبر أو صغر- أو باستلابها منه -كلها في الأغلب- إما طمعًا فيما يملك أو فيه هو، لاستخدامه أو للاحتماء به، باسم الأرض أو باسم السماء، باسم القوة أو باسم الشهوة، إنها بامتياز قصة الإنسان على الأرض، وقصة الشاعر الذي يحاول تحرير الجمال من فك القراصنة الغلاظ.
ستكون مهمة الشاعر عسيرة جدا.. محالة.. لكنها مهمته.. منذ قرَّر في هويته أن يحمل قدر بروموثيوس. فبشجاعة لاإرادية يحارب.. وبصمود لا حدّ له يصبر على نهش قلبه من الطغاة والبلهاء والنقاد النقاض.
نحن مغامرون، تلك هويتنا، لا يمكن لشاعر أن يصف جمال فاتنته وروحها ممزقة على أخيها الفقيد تطارده.. كيف نخفي وجهنا إن أولينا ظهورنا لأرض الحزن العربية والبغاة يحرقون ويجرفون ويشوهون ويقتلون.. ثم نمضي ونحن ندندن على إيقاعات الخليل أو ندّعي أن الشعر ملاك الإنسان في رحلته اليومية ولا يعنيه حل مشكلات المعذبين؟!
الشعر ليس كسرة خبز.. ليس رصاصة.. لكنه على الحقيقة ذلك وغيره.. الشعر هو الطريق إلى ذلك.. هو مغامرة البحث التي دوّنها لا يكون الإنجيل الضائع.. الشعر هو أوروك الخالدة.. هو صرخة الوجع كي لا تتكرر.. الجنة كي تراها العين ويلمسها القلب.
سيقولونك انج.. واكتب عن جدارك وعن جرارك عن فاتنتك.. قل في الحروب نحب ونكتب عن حبيبتنا.. لكننا لا ننسى أننا في الحروب..
آفة النظرة إلى شعرنا أنها بدأت بحمايته كأنه طفل صغير؛ فقيل موزون مقفى.. وقيل أغراض وقيل عمود.. الحقيقة غير ذلك.. الشعر هو جدار الحماية.. القلعة الصامدة.. السيف المبصر.. ولا يكون لسيف مبصر أن يغض الطرف عن آهات المحرومين أو أن يقف محايدا -خائنا بالأحرى- وإلا فقد بوصلته إلى لؤلؤة المستحيل.
لا يقبل الشعر القسمة ولا المهادنة ولا الانزواء ولا التقوقع وهو يعرف كيف يفرّق بين الحقيقة والواقع، وكيف يجعل الناس يصمدون؟ الشعر جنة المظلومين ومحرقة الظالم.. الشعر الطريق إلى الكنز والكنز ذاته.. قاوموا أو قاوموا.. تلك آية الشعر الخالدة.
بنا شهوة لإصلاح ما في الكون من خطأ، فعلها الشعراء ونطقها شيلي.. ونحن على مهمتنا قابضون.
