مفارقة
يشتد سواد الليل، تمطر السماء، تنبعث رائحة من باطن الأرض، ممزوجة بالتراب وأوراق الشجر، تشبه المسك في عبقه، يدوي رعد قوي، أسبّح بحمد الله، أرتل من آيات الذكر الحكيم، ما يهدئ حربا ضروسا، تدور رحاها داخلي.
أمتشق كوب قهوة معطرة بأعشاب محلية، أراقب من النافذة خلو الشارع من الحركة، البشر مقيدون في أقفاص بيوتهم، وحده البرد من يجول حرًا، يراقص الأضواء المنبعثة من يافطات المحلات التجارية، تنحني له الأشجار احترامًا لعرضه الشيق بأغصانها المورقة، وتصفّق له النوافذ التي تركت مفتوحة، كما تصدر صريرًا ممزوجا بالحسرة، كأنها ترثي تاركيها، الذين غادروا إلى وجهات غير معلومة.
تهتز الطاولة على صوت رنين الهاتف، كان المتصل على تطبيق الوتساب، رفيقي السابق في المحنة، قبل أن يغادر أرض الوطن، في اتجاه أميركا الحضارة كما يحب تسميتها، كانت تربط بيننا علاقة صداقة دامت سنين طويلة، بددها الفقر وحب انتشال الذات من غياهب التيه، غادر هو وبقيت أنا تتقاذفني ويلات الدهر القاسية، فتحت خاصية الفيديو، نرى بعضنا رغم البعد الذي يفصل بيننا في الواقع، تجاذبنا أطراف الحديث الشيق، الذي يكون دائما مترعا بنشوة الحنين للماضي، نستحضر معًا ذكريات طمستها غوائل الزمان، وشيعتها الأيام الخوالي، لم يبق منها سوى ما تتقيؤه الذاكرة من مخلفاتها الفائتة، طفولتنا الشيقة، شبابنا الطائش، سقوطنا ولحظات الوقوف، أحيينا ما وافته المنية من مآس عشناها معًا، وما ذقناه من حلو الصداقة أيضًا لم ننسه، يدوم حوارنا سويعات، يوبخ فيها إصراري على البقاء في مكاني دون تقهقر، ويلعن كسلي وترددي في مغادرة الوطن الذي لم يمنحنا من خيراته سوى الفتات، ندور حول مواضيع الساعة، أراد أن يفاتحني في موضوع يحب هو الخوض فيه، وأحاول أنا طمس معالمه للأبد.
تحججت بضرورة إنهاء المكالمة، لأقوم بأعمال تراكمت عليّ، وافق دون تردد، على أن يعاود الاتصال بعد يومين، من أجل حديث أكثر طولاً، نتراشق فيه بحسن الكلام، وما يطفئ لهفة الحنين لتلك الأيام التي ولّت، ولن تعود مهما سقيناها بهذه الاتصالات المتكررة وغير المجدية.
درسنا معًا في الجامعة، سافرنا إليها محملين بعتاد قليل، وأمل كثير، من قريتنا النائية في عمق جبال الأطلس المتوسط، على متن سيارة فلاحية كانوا يقلون عليها الحمير إلى الأسواق قصد بيعها، يحدثنا السائق الذي كان ينكت بنا لمدة ساعتين من الطريق نصفها غير معبدة، حتى تمخضت أمعاؤنا وشرع الدوار يفتك برؤوسنا الصغيرة، يمازحنا قائلاً:
– لأول مرة سآخذ معي حمارين للجامعة، بدل السوق.
ألقت حناجرنا بضحكات قوية، نزت أجسادنا على إثرها بالعرق، واختلطت الروائح علينا، رغم أننا فتحنا النوافذ، طغت القذارة على نقاء الهواء، وعانينا قبل الوصول إلى المدينة، ويلات نقشت في ذاكرتنا المعطوبة.
احتككنا في دروب الجامعة بأشخاص من مختلف المدن، مع اختلاف الأفكار والمعتقدات والقناعات، اندمجنا في هذا الوسط الغريب بسهولة، واستطعنا أن نكوّن علاقات مع شرائح عديدة، جعلتنا نعرف أمورًا جديدة كانت تغيب عنا.
عند كل اتصال، كان صديقي يتغنى بالحياة التي يعيشها في الغربة، ولذة اللحظات هناك، كل الحقوق ينعم بها دون نقصان أو زيادة، ومازال كما هو يتحدث عن الفرق بين المرأة الغربية والعربية، كما كان يفعل في الجامعة.
داخل أسوار الجامعة اخترنا شعبة الفلسفة، لولعنا الشديد بالفكر، تعمقنا في الدراسة والبحث، صادقنا شابًا آخر يكبرنا سنًا وثقافةً، يلقبه الجميع بديكارت، وذلك لشغفه بهذا الفيلسوف، يقودنا دائمًا في نقاشات حول ماهية الوجود، ومن خالق الكون حسب نظرية كل عالم وفيلسوف، لا غرو كان يقنعنا بكل ما يخبرنا به، نظرًا لكونه ملما بكل التفاصيل، حين دخلنا غيابة الشك، ومتاهة البحث عن الحقيقة، تهنا عن طريق اليقين، وطمست ظلمة الجحود عقولنا المسودة بالفراغ، انسلخنا عن ديننا الحنيف وألحدنا.
وكانت الحيل التي علمنا إياها “ديكارت” نستعملها دائمًا، وبما أننا شابان في أوج العطاء، قررنا أن نخوض تجربة الارتباط والبحث عن الحب بين صفوف الطالبات، نحاول الظهور بصورة مميزة، والاختلاف عن القطيع، وكلما أعلنا أننا ملحدان وبأفكار متنورة يزداد فضول اللواتي نحدثهن، نغرس في عقلوهن أفكارًا نسقيها بالاهتمام، وتنمو داخلهن دون مقاومة، وكان صديقي ذئبًا يعرف كيف يصطاد فريسته، ونابغة يكيد للناقصات مكائد تجعلهن تحت أوامرنا، عند كل حوار يبدأ ترتيل طلاسمه المعهودة وهو يواجه الخطاب للماثلات أمامنا:
– أتعلمن أن الإسلام ينقص من كرامة المرأة، بل أهانها حين فضل الرجل عليها، وجعلها وسيلة لا غاية، نحن لا نؤمن بهذا الدين الذي شيّأكن، فأنتن نصفنا الثاني، والحياة دونكن لن تستمر، لكن نحن سنعوض هذا النقص، لسنا كبقية الرجال لن نستغلكن أبدًا، سترون بأعينكن.
يردد على مسامعهن هذه الشعارات الحربائية، يعرف من أين تؤكل الكتف دون صعوبة، قويّ الإقناع، ماكر الخدع، يمتهن حرفة الكلام، أعداني بهذه الخصال المقيتة، بدأنا نستعملها كي نستغل فتيات الجامعة، ونحظى بأكبر عدد منهن رفيقات لنا.
سافر صديقي إلى أميركا، تركني وحيدًا هنا أجابه تقلبات الحياة وكدر العيش، زارتني الأمراض النفسية، أحكمت الوساوس قبضتها عليّ، صرت كندف الصوف تلوكني فردتي القرداش، اتجهت لله منكسرًا، غسلت ذنوبي بماء التوبة، صليت باكيًا، ارتحت بعض الشيء، داومت على التقرب من الله، ومازال صديقي ينعم في أميركا، ونامت قناعته الإلحادية، وظل طريق الهدى.
رن الهاتف، اعتدلت في جلستي، وضعت سماعات الأذن، أجبته على غير العادة:
– السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رد علي متعجبًا:
– ماذا أعد ما قلته!
– ما الغريب في كلامي
– ذكرت الله؟
– ونعم بالله.
– هل أسلمت؟
– بل تبت.
– متى؟
– حين أنار الله عقلي.
– لكن الإسلام ظالم.
– نحن من يظلم أنفسنا
– هل تتذكر أيام الجامعة؟
– إن الله غفور رحيم.
طال سرده، كثرت وسائل إقناعه، اكتفيت من ترهاته، يطعن بجهله الدين والرسل، يعظّم الغرب، ويقدّس فكره العلماني، يركز على المرأة في حديثه، يردد نفس الشعارات، أهانها الإسلام، وقدسها الغرب، اضطهدها العربي، وصانها الغربي، لها الحقوق هنا، ولها العقوق هناك، هل تتبع دينًا قد يجعل من أمك وأختك وابنتك سبايا وإماء؟ خسئت، أغلقت الهاتف في وجهه، غير مكترث بما نطقه من سفه، قرأت ما تيسر من القرآن، خلدت للنوم قرير العين.
من الله عليّ بفضله، هاجرت بدوري إلى أميركا، بمساعدة جارنا الذي عمّر ديار المهجر منذ صباه، غادرت المطر متجهًا إلى مدينة صغيرة، حيث سأبدأ صفحة جديدة، بدأ الظلام يرخي بظلاله على سائر البلاد، يرافقه مطر شؤبوب، من نافذة سيارة الأجرة، أطل على الشارع، رأيت النساء تعرض للبيع رفقة الدمى على واجهات المتاجر.