مفترق الحائرين
يعاني عالمنا من مشاكل مزمنة منها الفقر والتصحر والأميّة و الإرهاب والتميز ضد المرأة وكلها مشاكل تعبر عن أزمات تحتاج إلى توافر الإمكانيات المادية والثقافية و الأخلاقية من أجل تقديم حلول مستدامة؛ لأن المشكلة تكمن في غياب آليات التعاون والتفاوض والتفاوض الناجح من أجل تقديم الحلول التي تحترم تنوّعنا الثقافي والحضاري والديني والسياسي. فإن كرتنا الأرضية فيها ما يكفي لسد احتياجات كل البشر والمشكلة تكمن في التوزيع، فالتفرد والاستحواذ لا ينتج حلولاً، بل يعمق المشكلة، وهذا يجعلنا نستعيد سؤال نيتشه: ما معنى الوجود البشري؟ ما هي الحكمة من وجوده؟
هناك كثير من الأجوبة جاء بها الدين والفلسفة والعلم، ومنها إجابة نيتشه نفسه عندما قال «المنظومة البشرية عبارة عن نظام أيكولوجي متكامل، عبارة عن مجموعة من المخلوقات أكثر ذكاء من المنظومات الحيوانية والنباتية تعتمد في وجودها على التناسل».
وقد تنوعت الإجابات منذ زمن بعيد، جاء الدين بحلول تعتمد على الأخلاق والعقاب؛ لكنه سرعان ما تحول إلى دوغمائية مولد للعنف الرمزي على رغم من كونه كان يروم إلى هدف مغاير إلا أن الراغبين بالسلطة حولوه إلى حقل للصراع حول الحقيقة الكاملة، وهو صراع عن السلطة المرغوب بها وما الدين إلا كبش فداء في التغالب على المنافع. ثم جاءت الحداثة بمقاربة تنويرية إذ ادّعت أنها تريد محاربة التوحش إلا أنه سرعان ما تحوّل التنوير من مدافع عن الحريات والمعرفة إلى خطاب للتوحش والرغبة بالهيمنة والاستعباد وتحوّل إلى يوتوبيا التنوير إلى خطاب كولونيالي غربي يحاول الاستحواذ على الخيرات، وقد تحولت الحريّة والديمقراطية إلى مجرد إشهار من أجل الهيمنة والاستعمار الذي يقوم على مقاربات عرقيّة تنفي تحوِل كل إمكانية إلى عدالة وتعارف كما دعا لها كانط.
فالرغبة بالهيمنة حولت العقلانية إلى مجرد شعار خلف تغوّل الرأسمالية الغربية، زصحيح أنه منذ بداية هذا الوجود والبشر يحاولون بشتى الوسائل عبور مسيرة الحياة كل بحسب إمكانياته البيئية والعقلية نظراً لازدياد التناسل ومحدودية الثروات المتوافرة إذ طغى على الفرد الأنانية واستعمال الشر ضد منافسيه لجمع أكبر جزء من الثروة والسلطة.
وهكذا كان الخطاب الغربي يحتوي على قيم مزدوجة؛ فهو خطاب كولونيالي اعتمد على العنف وإنكاره لقيمة الإنسان الفرد وحريته في ناحية في العالم الثالث بحجة تخلفه وهمجيته في حين يعتمد داخل الغرب على قيمة مختلفة ترفع راية التحضر الذي يرفض العنف ويرفع من قيمة الإنسان وقيم الحرية والعدل والمساواة داخل المجتمع الغربي طبعاً، وبين النقيضين توجد حدود الأنسنة الغربية إذ تطرد منها الآخر المختلف من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت هناك عوائل من أصحاب الشركات كانت كما وصفها كينيون غيبسون في «أوكار للشر» (ص 14) بأنهم «كانوا كالثعابين بين أوراق الشجر» كانوا يصنعون المؤامرات ويتلاعبون بالمشاعر؛ للانقياد والاستحواذ حتى وإن قادهم هذا إلى التعاون مع النازيّة ضد بلدهم من أجل تحقيق مصالحهم وميولهم النازية مثل الصفاء العرقي والسيطرة على العقول».
فهذا الخطاب مزدوج القيمة كان لا بد منه أن يفترض خطابا مقاوما هو الشيوعية من أجل مقاربة أكثر عدالة إلا أن هذا الأمر قاد إلى مقاربة جماهيرية شمولية ولدت رعبا غير محدود بدلاً من أن ينجز حلاً ويحقق العدالة إلا أن العدالة المتنافية مع الحرية بفعل جمهوريات الخوف التي عمقت التوحش واخترقت قيم الإنسانية بحجة العدالة الاجتماعية، وبالنتيجة فقد جاءت المقاربتان كلتاهما وفشلتا على أرض الواقع: الرأسماليّة والاشتراكيّة.
على وقع الانهيارات الغربيّة وصراعها مع الماركسيّة جاءت دولة الرفاهية في سبعينات القرن الماضي وهذه خطوة حضارية أثبت الواقع العملي نجاحها والمجتمعات التي نهجت هذا النهج نجحت في تكوين مجتمعات أكثر رقياً، وجعلت الرحلة البشرية أقل ألماً ومعاناةً، ولّدت تلك التجربة مقاربة أكثر توازناً في الحريات ونوعا من العدالة الاجتماعية وتحولت تلك التجربة إلى أُنموذج في أوروبا الشرقية قادت وبدعم إعلامي ومخابراتي إلى انهيار جمهوريات اليوتوبيا السوفييتية.
لكن انهيار الماركسيّة في الغرب لم يغيبها من الفضاء الأوروبي الذي مازال يعيش دولة الرفاهيَة بين اليمين من دعاة محاربة الهجرة والمطالبة بالهويّة وبين مطالب العدالة الاجتماعيّة في الأحزاب الليبرالية والماركسية.
يبدو أنّ من نتائج الحرب الباردة داخل الغرب الماركسية والليبرالية، فظهور التنظيمات الأصولية كأداة في الحرب على الماركسية من خلال اجتماع اليمين العربي والغربي ضد اليسار الغربي (أوروبا الشرقية وروسيا واليسار الأوروبي الغربي) والعربي معا. ومن نتائج هذه الحرب ظهور إجراءين:
الأول قامت به الدول اليمينية العربية إذ دعمت الدول العربية الصحوة الإسلامية التي تخلق إعلاميا ودينياً وتربوياً خطاباً يوتوبيا يطلق عليه «بخطاب الخلافة» أي أن الدول تلك عالجت انهياراتها بنكوص نحو الماضي، بعد أن تحوّلَ الواقع العربي إلى تصحر ثقافي واستبداد سياسي ومقاومة كل خطاب عقلاني مدني كانت تعمل على ولادة وحش التكفير، بوصفه بديلاً نكوصيا.
الإجراء الثاني «الغربي وأميركا خصوصا» إذ كانت الصحوات الإسلامية قد ولدت العشرات من الجماعات الإسلامية وتضم الإسلاميين المستقلين الذين تدرّبوا منذ ثمانينات القرن العشرين في معسكرات على الحدود الأفغانية والعديد من هذه الجماعات أدارتها المخابرات الباكستانية وتولتها المخابرات المركزية الأميركية بحوالي 7 مليارات دولار ( انظر ديفيد كين «حرب بلا نهاية»، ص40).
وبعد نهاية الحرب كان لا بدّ من مواجهة الوحش الذي تم تخليقه، هنا ظهرت ظروف جديدة في ظل ما يعرف بالحرب على الإرهاب وهي ظروف تغذيها الأزمات الاقتصادية الغربية والأميركية على وجه الخصوص ضغوط الأزمة الاقتصادية التي كانت حلولها أميركية باختلاق حروب وفوضي في العالم الثالث من أجل أن تخلق مجالاً أكثر رحابة لتجارة السلاح والتدمير ودعم أشكال ظاهرها تحول مدني وباطنها الدفع بالراديكالية الدينية حتى تحل محل الدكتاتوريات العسكرية التي جاءت بفعل حركة القومية العربية والاستقلال، إلا أنها لم تحقق التنمية كما يحدث في المنطقة العربية في الدول التي عرفت بقربها من اليسار وهي الدول الفاشلة اليوم وتعيش حروباً أهلية.
الأمر الآخر هو»حدود السيادة» كمبدأ جديد ظهر وهو يحقق للغرب وأميركا على وجه الخصوص كما يشير لهذا ديفيد كين في «حرب بلا نهاية» (ص41) بقوله «السيادة تستتبع الالتزامات. إذ لا ينبغي أن يذبح أحد مواطنينا. الالتزام الآخر هو عدم دعم الإرهاب بأيّ طريقة كانت فإذا فشلت حكومة في الوفاء بهذه الالتزامات فإنها تغرَّم بحرمانها من بعض مزايا السيادة، بما فيها الحق بأن يترك لها التحكم بما يجري داخل أراضيها. ويكون للحكومة الأخرى بما فيها حكومة الولايات المتحدة الحق في التدخل.. حق الدفاع الوقائي عن النفس». نص يشرعن التدخل العسكري متى ما وجدت أميركا أن هناك ما يهدد، وبالآتي معاقبة الدول عبر الحرمان من السيادة على أراضيها. ومن أساليب الوقائية التدخل في إعادة بناء تلك الدول على الصعيد الإعلامي والتربوي والإبلاغ الديني في المؤسسات الدينية، فهي تدرك أن هذه السياسة كانت سابقا وسيلة في تشجيع الخطابات المتشددة وهي اليوم باب آخر من أجل التدخل في شؤون تلك الدول التي سوف تبقى متهمة في صناعة التطرف أميركياً.
طبعا السياسة الأميركية تختلف عما هي عليه في العالم العربي إذ أن «مراكز التفكير والبحث لا تقدم مجرد نظرية في مجال الفكر فقط بل تقوم بإدارة صانعي السياسة الأميركية ووسائل الإعلام بتحليلات ودراسات وتقديرات للمواقف وتوصيفات للواقع تكون بمثابة إضاءة لطريقهم، ليس هذا فحسب بل تصنع دراسات تشبه الخطط العمليّة أو خرائط طريق تشكِل السياسة الخارجيّة لصانع القرار الأميركي» (انظر تامر طه، السلفية بعيون أميركية، ص 33).
لهذا كانت هناك كثير من الدراسات تتابع الواقع العربي، وخصوصا التيارات الإسلامية وتحاول متابعة نشاطاتها وتقترح أشكالاً متنوعةً من كيفية التعامل معها من قبل صانع السياسة الأميركية.
وفي هذا يشير ريتشارد هاس في كنابه «السلفية بعيون أميركية» (ص34) إلى أن «مراكز التفكير والرأي تؤثر على صانعي السياسة الخارجية الأميركية بخمس طرق مختلفة هي توليد أفكار وخيارات مبتكرة من السياسة، وتأمين مجموعة جاهزة من الاختصاصيين للعمل في الحكومة، وتوفير مكان للنقاش على مستوى رفيع، وتثقيف مواطني الولايات المتحدة عن العالم، وإضافة وسيلة مكمّلة للجهود الرسمية للتوسط وحلّ النزاعات».
لكن بالمقابل من أجل البحث عمّا بعد اليمين واليسار العالم العربي إلى أين؟ لا بد من وجود مراكز بحوث تقدم مقاربة علميّة للعالم العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص، تمكننا من فهم الحالة التي يعيشها عالمنا العربي وتقييم الحداثة السياسية والاجتماعية في ظل التحولات العالمية.