مفهوم التحرر النسوي على محك أصوليّتين
في الكلام السائد على مفهوم التحرر النسوي في المجتمع العربي التباسات أود بادئ ذي بدء أن أوجزها في أربعة:
الأول، هو أن مفهوم التحرر النسوي بعد مرور أكثر من قرن على دعوة قاسم أمين، مازال معياريا وليس وصفيا. والمفهوم المعياري كما نعلم يتصل بالقيم التي يعبّر عنها بأفعال يجب وينبغي ويتعين. فهي لا تبحث بوصفها مسألة اجتماعية بحتة، وإنما هي قيم ذات محمول ديني وعاطفي. وبعبارة أخرى فإنها سرعان ما تحيلنا، شئنا أم أبينا، إلى أصوليات مرجعية نصية لاهوتية ويقينية.
وبهذا المعنى فإنها تتسم بقداسة وممانعة، وتشير إلى حقائق ناجزة ومقطوع بصحتها.
إن مشروع التحرر النسوي السائد، بسبب من محموله القداسي في الأصولية الدينية، والعاطفي في الأصولية الأيديولوجية، غالبا ما ينظر إليه بعيدا عن المفاهيم الوصفية التي تحسن التمييز بين «الحقائق» و»القيم». بل إن الخطاب الأصولي بشقيه الديني والقومي أو الماركسي، يخلق بذلك حالة من التماهي بين الحقائق التي يفترض أنها قابلة للنقض أو التفكيك أو البرهان وبين القيم العاطفية التي لا تحيل إلا إلى مرجعيتها النصيّة وبالتالي فإنها تظل ممتنعة على أيّ جدل أو جدال.
وتكمن خطورة هذا الخطاب في كونه أحاديا ينكر التعددية. فهو خطاب تحريك وتبشير بقدر ما هو خطاب سلطة لاهوتية مسبق الصنع. بل إنه سرعان ما يتحول إلى سلاح سياسي يستخدم لفرض أخطر أنواع الرقابة وأشدها توقا إلى ممارسة قمع الرأي الآخر.
الثالث، هو أن تكوين مفهوم عقلاني للتحرر النسوي، مازال على الرغم من مرور عقود على تجربة قاسم أمين، غائبا أو شبه غائب عن ميدان العلوم الإنسانية العربية. بل إن ربع القرن الأخير شهد بروز المرجعية النصية الدينية، بحدودها المرنة والمتشددة، باعتبارها مرجعية مشتركة في الخطاب الأصولي السائد حول المرأة، دينيا كان أم قوميا أم ماركسيا.
- 2 -
في هذه الالتباسات الثلاثة يكمن التحول الخطير الذي طرأ على مفهوم التحرر النسوي في المجتمع العربي، وهو تحول اعتُبر ضربا من «النوستالجيا الجماعية» (1) نحو إعادة صياغة العالم وفق وحدات أبسط وأقل تعقيدا.
ما أسباب هذا التحول؟ وهل يمكن إنجاز مشروع التحديث بدون البضاعة الفكرية الغربية التي لازمته والتي تنتمي إلى ما بعد عصر الأنوار؟
هل يمكن التحديث دون تغريب؟
هذا السؤال ظل مطروحا في جوهره منذ الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين حتى الآن.
ثم ما طبيعة المرحلة التي وصل إليها مشروع التحرر النسوي؟ لعل من أبرز ملامح هذه المرحلة، انحسار الدور الذي سبق أن لعبته العلمانية بصيغها القصوى. بل إن مصطلح «المجتمع المدني» الذي تمليه ضرورات العولمة هو الذي حلّ الآن محلّ العلمانية على إيقاع ارتفاع وتيرة الخطاب الأصولي. وخير ما يعبر عن هذا التحول الذي أصبح فيه الخطاب النسوي يستمد مرجعيّته من نصية قد لا تمتّ إلى النصيّة الدينيّة بصلة مباشرة إلا أنها تحاول إيجاد المبررات لهيمنة الخطاب الأصولي الديني، المقدمة التي كتبتها باحثة جادة هي الدكتورة نوال السعداوي للطبعة الإنكليزية من كتابها: «The Hidden Face of Eve» فهي تقول فيها بالحرف:
«من الضروري أن نفهم أن أهم نضال تواجهه النساء في البلدان العربية الإسلامية لا يتعلق بالفكر الحر الذي يقف في مواجهة الإيمان الديني، أو بالحقوق النسوية كما تفهم في الغرب أحيانا في مواجهة الشوفينية الذكورية. بل إن هذا النضال لا يستهدف التصدّي لبعض المظاهر السطحية لخصائص التحديث في العالم النامي والغنيّ.. إن النضال الذي يُخاض هو في جوهره، محاولة لضمان قيام الشعب العربي بالتخلص مرة واحدة وإلى الأبد من جميع أشكال السيطرة التي تمارسها المصالح الرأسمالية» (2).
دلالة هذا الكلام هي تأجيل القيام بمشروع التحرر النسوي حتى إشعار آخر.. وربطه تحديدا بإنجاز مشروع كبير غير قابل للإنجاز إلا بعد مرور عقود وعقود، وتعني الكتابة عنه حلم التخلص من سيطرة الرأسمالية.
من أبرز ملامح هذه المرحلة، انحسار الدور الذي سبق أن لعبته العلمانية بصيغها القصوى. بل إن مصطلح «المجتمع المدني» الذي تمليه ضرورات العولمة هو الذي حلّ الآن محلّ العلمانية على إيقاع ارتفاع وتيرة الخطاب الأصولي
ولهذا السبب بالذات فإنها تتجنب الاعتراف بوجود مجابهة بين الدين الذي يرفض مبدأ التعددية وبين الفكر المتحرر من قيود الواحدية النصية.
وعلى الرغم من أن نوال السعداوي تصف في الفصل الأول من الكتاب نفسه التعذيب الجسدي والنفسي الذي عانت منه عندما أجريت لها عملية ختان وهي في سن السادسة، وما تبع ذلك من عواقب لازمتها طيلة حياتها الجنسية فإنها تعلن في مقدمة الطبعة الإنكليزية أن النساء في أميركا وأوروبا يسارعن إلى إثارة الضجيج دفاعا عن ضحية الختان، وأنهن يكتبن المقالات الطوال ويلقين الخطب في المؤتمرات. تقول «من الطبيعي إدانة ختان البنات.. أنا ضد الختان والممارسات الرجعية القاسية الأخرى، ولكنني أختلف مع النساء في أميركا وأوروبا اللواتي يركزن على قضايا كختان الفتيات ويعتبرنها دليلا على القمع الهمجي الذي تتعرض له المرأة في البلاد الأفريقية والعربية فقط» (3).
هذا الخطاب الاعتذاري الذي يبرر تجاهل ظاهرة ختان المرأة واعتبار حلها جزءا من عملية التحرر النسوي ينطوي على تفسير واحد مفاده أن تجنب نشر الغسيل الوسخ أمام أعين الأجانب يبرر الدفاع عن ممارسات قبيحة فضلا عن الاعتراض على استخدام وصف المجتمع الهمجي.
وفي مكان آخر من مقدمة الكتاب تقول «الثورة في إيران هي في جوهرها سياسية واقتصادية. إنها انفجار شعبي يسعى لتحرير شعب إيران رجالا ونساء، وعدم إرسال النساء إلى سجن الحجاب والمطبخ وغرفة النوم».
تعلق مراجعة الكتاب على هذا الرأي بقولها «إن بوسع المرء على أقل تقدير أن يلاحظ أن الحقائق لسوء الحظ تناقض تأويل سعداوي للإسلام» (4).
لا يعنينا في أمر هذه الطروحات أنها تكشف عن وجهات نظر مختلفة إزاء الثورة في إيران أو إزاء الدين عموما أو جواز أو عدم جواز نشر بضاعتنا التي تكشف عن قصور فيما حققته حركة التحرر النسوي، وإنما يعنينا دلالتها على وجود تحول خطير يتجلى في ارتفاع عقيرة الخطاب الاعتذاري الذي لم يعد همه تأجيل الدفع بحركة تحرر المرأة فحسب، وإنما تبرير ربطها بمشاريع التحرر الكبرى التي لا تجد سبيلها إلى التحقيق.
والحال أن هذا الخطاب الاعتذاري الذي يدشن ظهور أصولية قومية أو ماركسية تتقاطع مع الأصولية الدينية حينا لتتماهى معها في أحيان أخرى يمكن رصده وتفسيره من خلال ملاحظات ريتشارد بهرنت التي حاول فيها تحليل النزعة القومية في البلدان المستعمرة على أساس نظرية المثاقفة (5).
يرى بهرنت أن البلدان النامية تمر بفترة تحول ديناميكي ثقافي تتسم بعدم الاستمرار، وتعتمد على عمليات مثاقفة يمكن التمييز فيها بين نموذجين:
الأول يدعوه بـ»مثاقفة المحاكاة السلبية»، والثاني يدعوه بـ»المثاقفة التوفيقية الإيجابية».
وهو يرى أن القومية في العالم الثالث هي حصيلة عملية تكيّف قائمة على المحاكاة يقوم بها من يدعوهم بـ»شعوب الهامش» مقابل «شعوب المركز» الأوروبية.
يسارع مثقفو الهامش إلى امتصاص فكرة القومية بما هي غربية المنشأ باعتبار أنهم يعاملونها على أساس أنها وسيلة للتغلب على مركبات النقص التي تسبب بها الحكم الاستعماري، والتعويض عنها. كما أن فقدان الهوية نتيجة لاهتزاز البنى الاجتماعية التقليدية يمكن أن يؤدي أيضا إلى إبراز القومية باعتبارها قومية بديلة. وأما الدولة القومية التي يتوقون إلى تحقيقها فإنها تعتبر من قبل شعوب الهامش بمثابة آلية «ميكانيزم» عالمية تكفل تحقق التطور الاجتماعي والاقتصادي، غير أن القومية التي يفرزها هذا الضرب من الدولة لا تنفع إلا باعتبارها «وسيلة جاهزة دائما لصرف انتباه الجماهير عن مشكلات حكوماتها غير المحلولة وإخفاقاتها ونكساتها».
وأخيرا فإن هذه القومية «كثيرا ما تميل إلى تمجيد العادات والتقاليد المحلية بطريقة شوفينية».
لوحة: جبران هداية
هذا التمجيد الأعمى للعادات والتقاليد المحلية بلا تمييز هو بمثابة رد فعل يسعى إلى إيجاد علاقة تواصلية مع الأمر الواقع بمساوئه وحسناته، والمحافظة عليه بدلا من تغييره. كما أن هذا الإفراط في التمجيد يقترن عادة بمحاولة استعادة الماضي أو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء باسم استرداد العصر الذهبي. ويقابل ذلك في الخطاب الأصولي الديني طرح مسألة استعادة عصر السلف.
لنلق الآن نظره على هذا التماهي بين الأصوليّتين الدينية والقومية أو الماركسية، ونحاول وضع مفهوم التحرر النسوي على محكّ خطابهما المشترك وما ينطوي عليه من إشارات.
هناك حسب الدراسات النسوية نوعان من الاختلاف بين الذكورة والأنوثة: الاختلاف البيولوجي والنفسي يقوم على التمايز بين الجنسين (Sexes) ويعتبر الجسد فيه أساسا للمفاضلة بين الرجل والمرأة.
وأمّا التمايز الذي تحدده المحددات الثقافية والاجتماعية والسياسية فيقوم على اعتبار الجنوسة (Gender) (6) أساسا للاختلاف بين الجنسين.
ويمكن القول إنه بموجب هذا الضرب من التصنيف أو ذاك، هناك نصية دينية أو عقائدية كمرجعية ثابتة تكمن وراء الخطاب الأصولي بفرعيه الديني والقومي أو الماركسي.
كما أن هذه النصية الثابتة تحيل الباحث عادة إلى «جوهرانية» تؤكد على أن الاختلاف بين الذكورة والأنوثة يسير إلى وجود جوهر بيولوجي وسيكولوجي مختلف للمرأة وبالتالي فإن ذاتيتها تقف خارج احتمالات التغيّر التاريخي أو الاجتماعي، أو تصبح بعبارة أخرى مسألة غير قابلة للحل.
وفضلا عن ذلك فإن هذه «الجوهرانية» تمضي في حالاتها القصوى إلى أبعد من مفهوم الاختلاف بين المرأة والرجل وتعتبره ضربا من المغايرة (Otherness) الكامنة في طبيعتهما الجوهرية التي تجعل المرأة هي الآخر أو الغير بالنسبة إلى الرجل، والرجل هو الآخر أو الغير بالنسبة إلى المرأة، ولهذا فعدم المساواة بين الجنسين لا يكون حصيلة لعملية تكييف اجتماعي فقط بل يتأسّس كذلك على مفهوم «القوامة» البيولوجية أو ميل الذكر الطبيعي إلى السيطرة على الأنثى واستغلالها واعتبار اختلافها مغايرة ثابتة لا زمن لها ولا تاريخ.
ومن جهة أخرى فإن المغايرة بمعنى اختراع الغير (Othering حسب مصطلح غياتري سبيفاك) هي بمثابة عملية خلق الآخر في الخطاب الإمبريالي.
ترى سبيفاك أن المغايرة التي يمارسها الأب أو الأم أو الإمبراطورية هي جزء من خطاب السلطة والهيمنة. كما تعتبرها عملية إقصاء للآخر تقوم بإنتاج الآخر المستعمر على أساس أنه يمثل في الخطاب الكولونيالي رعية خاضعة لصانعها.
وهذا النمط من خطاب التبعية الذي يقوم على خلق الآخر وإقصائه يمكن أن نشبهه بالخطاب الأصولي الديني القائم على فكرة النص الثابت القومي، أو الماركسي القائم على فكرة الرسالة الأيديولوجية التي تمثل بدورها نصا ثابتا أو شبه ثابت. إنه في الحالتين خطاب مغايرة مستمرة تسلب المرأة الحق في أن تجعل الحيلولة دون اعتبار الاختلاف الاجتماعي والبيولوجي بينها وبين الرجل مسألة اختلاف وظيفي لا تترتب عليه مفاضلة في القيم تستحيل إلى فعل مغايرة يشير إلى علاقة بين تابع ومتبوع.
في ضوء ما تقدّم يمكن أن نطرح السؤال التالي: ما خصائص الخطاب الأصولي تجاه المرأة العربية الآن؟
من المعروف أن النص، والحدث التاريخي، والمؤسسة، كل ذلك يعتبر ضربا من ضروب الخطاب. وبعبارة أخرى فإن المرجعية النصيّة التي صاغت الخطاب الأصولي صارت في هذا الطور النكوصي من تجربة التحرر النسوي العربي تؤكد على علاقة التزامن بين التمثيل وبين الواقع، بين النص وبين آثاره المتمثلة في السلطة والتبعية والجنوسة.
وإذا أدركنا أن السمة الأساسية للتحرر النسوي في الغرب تكمن في النظام المعرفي السائد، وفي درجة تطوره الاجتماعي، أي في شعاره القائل «إن المرأة لا تولد امرأة بل تصبح امرأة»، (سيمون دو بوفوار)، وأدركنا أن المجتمع العربي لم ينجح في تغيير بنيته المعرفية التقليدية أو البطريركية (بلغة هشام شرابي)، فإن من البداهة الاستنتاج أن هذا المجتمع الذي يسيطر عليه الخطاب الأصولي والمرجعية النصية تجاه المرأة، مازال يصر على الفصل بين المبادئ العقلية وبين الحداثة. فهو ينظر إلى هذه الحداثة المؤسسة على العقلانية بوصفها سلعة ناجزة، يكتفي باستهلاكها. فحداثته إذن حداثة سلعة مبتورة عن مرجعيّتها العقلانية، حداثة النتيجة وحدها وليس السبب والنتيجة معا، فكأنها معجزة ليس غير.
يحسن هنا أن نستعرض بعض المحدّدات التي تتعلق بمفهوم التحرر النسوي في ضوء علاقته بالخطاب الأصولي السائد، والتي أوجزها فيما يلي:
المغايرة التي يمارسها الأب أو الأم أو الإمبراطورية هي جزء من خطاب السلطة والهيمنة. كما تعتبرها عملية إقصاء للآخر تقوم بإنتاج الآخر المستعمر على أساس أنه يمثل في الخطاب الكولونيالي رعية خاضعة لصانعها
أولا: بدأ التحرر النسوي مع عصر النهضة بداية مطلبية ذات مضمون اجتماعي، واعتبر أن الاختلاف الجنسي البيولوجي هو الذي يحدد التمايز الاجتماعي الجنوسي.
ثانيا: تطور مفهوم التحرر النسوي في خطاب أيديولوجي متزامن مع العلمنة التي شهدتها الدولة العربية الحديثة بعد الاستقلال.
ثالثا: شهد الخطاب الأصولي صعودا استثنائيا مع نجاح الثورة الإيرانية. وأعقب هذا الصعود تراجع مستمر في إنجازات التحرر النسوي التي أصبحت ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة التحرر السياسي الشامل.
رابعا: كان لعودة النصيّة الدينية وبروز الخطاب الأصولي تجاه المرأة أثرهما على هيمنة النص على الخطاب الأصولي: الرسالي الأيديولوجي، القومي والاشتراكي.
وقد تجلى هذا التأثير على القوى غير الدينية في اتجاهين:
أ- اتجاه آثر تأجيل طرح مفهوم التحرر النسوي خارج النص الديني.
ب- اتجاه آخر استبدل مرجعيته النصية القومية والاشتراكية، وأحل محلها مرجعية النص الديني محاولا التغيير بالتأويل حينا وبالتقويل حينا آخر.
خامسا: لم يعد مفهوم التحرر النسوي تعدديا بل أصبح شموليا لا يتحرك بنصه الأيديولوجي إلا في داخل النص الديني نفسه.
سادسا: طرح الخطاب الأصولي السائد تجاه المرأة رد فعله على الحداثة الغربية، ففصل الحداثة عن المبادئ العقلية التي أسستها في الغرب، وقام بتسليعها، أي الاكتفاء بالنظر إليها كسلعة أو بضاعة للاستهلاك.
وهكذا فإن الإنجازات الإصلاحية للأفغاني ومحمد عبده ومحمد إقبال التي حاولت جاهدة إيجاد طباق بين الفكرين الإسلامي والغربي، لم تلبث أن تسلمت الأصولية الإسلامية الصاعدة مفاتيحها، فاستعادت بذلك المرحلة النصية التي لا تقبل بهذا الطباق. وأحد الأمثلة البارزة على هذه المرحلة تصريح الإمام الخميني في إحدى مقابلاته التي أشار فيها إلى أن الإسلام لا يحتاج إلى صفة أو تعريف كعبارة ديمقراطية مثلا.
ومغزى هذه الإشارة هو الترويج لمرحلة من النقائية (Purism) التي تحيل إلى نص ولحظة تاريخية ينظر إليها باعتبارها ساكنة ثابتة غير قابلة للحركة وتمحو من ثم ما أعقبها من إنجازات مادية حققها الإسلام الحضاري.
سابعا: المرحلة النقائية في الخطاب الأصولي أسفرت عن جملة من المشاريع التي وجدت أن اعتبار الإسلام نظاما شموليا يفتح الطريق أمام «أسلمة المعرفة». فهناك تبعا لذلك أدب إسلامي وعلم اجتماع إسلامي واقتصاد إسلامي وسياسة إسلامية. وهكذا فالنتيجة اللافتة التي تُسفر عنها أسلمة المعرفة هذه هي أسلمة فكرة التحرر النسوي نفسها.
غير أنه لا يمكن على الصعيد الإجرائي، وأنا أتفق في ذلك مع طروحات برايان تيرنر (7) تطوير شيء اسمه علم اجتماع إسلامي للسبب نفسه الذي يحول دون وجود علم اجتماع مسيحي أو علم اجتماع يهودي أو أيّ نوع آخر من العلم الاجتماعي المرتبط بفئة عرقية إثنية معينة. فهناك منطق أساسي ونظرية في العلوم الاجتماعية يجعلها غير قابلة للانضواء تحت لافتة إثنية أو ثقافية أو تاريخية.
ثامنا: انضواء الخطاب الأصولي الرسالي، القومي والماركسي، تحت راية تستمد مرجعيتها من نصية دينية ثابتة يُدخل مفهوم التحرر النسوي في مرحلة يتعذر معها تحرير العقل من النص. وأنا لا أعمم هذا الحكم القيمي هنا وإنما أرى أن الاستثناء لم يعد قادرا على نفي ما أصبح أشبه بالقاعدة. ومن هذه الاستثناءات شديدة الأهمية طروحات نوال السعداوي وهي طروحات تختلف اختلافا بيّنا عن المثال الذي سبق أن سقته قبل قليل، في كتابها المرأة والجنس مثلا.
وكذلك تندرج في هذا التصنيف طروحات فاطمة المرنيسي الجريئة والصادرة من خارج النظام المعرفي النصي وبخاصة تلك التي ظهرت في كتابها «Beyond the veil».
وأخيرا فإنّ أخشى ما أخشاه هو أن تكون المرحلة التي بلغها مفهوم التحرر النسوي قد وصلت إلى ما يدعوه مؤرخو الفلسفة بمرحلة «الغلق» Closure أي مرحلة سيطرة نظرية أو مذهب لديه القدرة على تفسير الظواهر كلها دون أن يترك زيادة لمستزيد.
غير أن هذا «الغلق» يبدو في هذه النصيّة الدينية والايديولوجية صادرا عن هيمنة فكرة الثبات وبالتالي فهو ربما كان يعادل إلغاء العقلانية نفسها.
كاتب من سوريا مقيم في لندن
الهوامش:
1- Collective Nostalgia المصطلح لبريان تيرنر: Orientalism، Postmodernism & Globalism، Routledge، London 1994. P 84.
2- 3- 4- Khamasin، Ithaca، London، May 1980 p. 121.
5- B. Tibi، Arab Nationalism: A critcal Enquiry، St. Martin’s Press.
6- ترجمة المصطلح لكمال أبو ديب: الثقافة والإمبريالية تأليف إدوارد سعيد، دار الآداب، بيروت، ص 2 – 4.
7- Orientalism، Postmodernism & Globalism، Routledge، London 1994. P 8.