مفهوم المسؤولية الاجتماعية
برز مفهوم المسؤولية الاجتماعية في فترة عصر التنوير، وحتى ظهور نظريات التحديث. وبالرغم من أن المفهوم لم يطرح صراحة إلا أنّ الأبعاد التي يشير إليها المفهوم كانت موضع اعتبار وحوار. ويمكن القول بأن التفكير في المسؤولية الاجتماعية تراوح بين تفكير الفرد بتأسيس المجتمع وتنظيمه، وهو ما يعنى مسؤوليته عمّا يحدث فيه. وبين تعيين المجتمع للمسؤولية الاجتماعية للفرد، ولم تعرف النظرية الاجتماعية موقفا يجمع بين هذين الرأيين إلا مع نهاية القرن العشرين تقريبا. في هذا الإطار فإننا نستطيع أن نرصد ثلاثة مواقف نظرية فيما يتعلق بنشأة مفهوم المسؤولية الاجتماعية، ومصادر تحديد هذه المسؤولية.
تنطلق من المسؤولية الفردية بالأساس، وتتسع أو ترتقي لتصبح مسؤولية اجتماعية. ويعبر عن هذا الموقف الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الذي رأى المسؤولية الاجتماعية الفردية لها جذورها في الطبيعة الإنسانية بالأساس، حيث نجده يؤكد على العلاقة بين الغريزة والعقل في التكوين الإنساني، وإذا كان من الطبيعي أن يسعى الإنسان لإشباع حاجاته تعبيراً عن حب البقاء فإنه يتجه إلى تأسيس حالة الاجتماع، لتحقيق إشباع أكثر أمنا واستقرارا لحاجاته الأساسية المهددة بعدم الإشباع في ظل الفوضى البنائية القائمة أو المحتملة (ليلة، 2006، ص 245).
ذلك يعنى احتواء الطبيعة البشرية على عنصرين متناقضين هما الرغبة والعقل. الأولى تدفع إلى الحصول على ما يشعر أنه في حاجة إليه، دون أن يعبأ برغبات الآخرين واحتياجاتهم، وهو ما يدعو إلى صراع بين مصالح البشر وتصادمها. أما العقل فهو الذي يهذب الطبيعة البشرية، وهو الذي يرشد الإنسان إلى حل مشاكله مع الآخرين دونما حاجة إلى التطاحن. ويترتب على ذلك كما يذهب توماس هوبز أنه وإن اتسم سلوك الإنسان بالأنانية التي تهدف إلى منفعة الإنسان الفرد، إلا أن هذه المنفعة تتسع لتتحول إلى نوع من المنفعة الاجتماعية، ويعنى ذلك أن إشباع عواطفنا يتحقق عن طريق إشباع حاجات الآخرين وعواطفهم. وهو ما يعنى أن توماس هوبز يرى أن المسؤولية الفردية التي تسعى إلى تأكيد إشباع الحاجات الفردية استنادا إلى منطق المنفعة، يعد المدخل الحقيقي للمسؤولية الاجتماعية، التي تعنى أن إشباع الحاجات الفردية لن يتحقق إلا من خلال إشباع الحاجات الاجتماعية.
ويتسق الموقف النفعي، مع البدايات التي وضعها هوبز فيما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية، حيث يرى رواد المذهب النفعي أن البشر يسعون بالضرورة لتحقيق مصالحهم، وأن المصلحة هي غاية السلوك عادة، والإنسان مسؤول عن تحقيقها، أو توفير الشروط الضرورية لتحقيقها، وأن الإطار المرجعي للحكم على المصلحة أو تقييم المسؤولية يتمثل في ذاتية الإنسان. وهي الحالة التي تطرح قضية عشوائية الغايات وتبعثر المسؤوليات الفردية إلى حد التصادم، حيث يسعى كل فرد لتحقيق مصالحة، الأمر الذي يطرح مشكلة النظام الاجتماعي من جديد، غير أن الفكر النفعي يتطور من تأكيد سعى الإنسان لتحقيق المصلحة الفردية، ومن ثم المسؤولية الفردية عن تحقيق هذه المصلحة، إلى سعيه للمنفعة أو المصلحة العامة، عن طريق استيعاب البعد الاجتماعي في السلوك الإنساني الذي يعبّر عن مسؤوليته، حيث أشار إلى ذلك جيمس مل حيث يشير جوهر هذا المبدأ الى التأكيد على أن المعيار الوحيد للصواب والخطأ هو تحقيق السعادة القصوى لأكبر عدد من البشر.
الموقف النفعي يتسق، مع البدايات التي وضعها هوبز فيما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية، حيث يرى رواد المذهب النفعي أن البشر يسعون بالضرورة لتحقيق مصالحهم
ارتباطا بذلك نجد أن كمبرلند يذهب إلى أن خير الجميع يعتبر غاية عليا لسلوك الإنسان ومعيارًا أقصى لتقييم مسؤوليته الاجتماعية وتعيينها، ومن ثم فقد أصبح الخبر العام هو قانون الأخلاق الأسمى فيه تتحقق سعادة البشر والجماعة معا. وقد سار في هذا الاتجاه شافتسبرى فربط خير الفرد بخير المجموعة، وقال إن الخيرية لا تكون إلا في نزوع الإنسان من تلقاء نفسه وبغير ضغط خارجي، إلى ترقية خير المجتمع الإنساني وسعادته. وقد طور هاتشيسون هذه الأفكار حينما جعل غاية السلوك هي تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، وذلك يعنى أن الموقف النفعي جعل الحاجات الأساسية للفرد هي الطاقة الدافعة لتأسيس المسؤولية الفردية عن السلوكيات أو الأفعال التي تستهدف إشباع الحاجات الأساسية للإنسان الفرد. غير أنه بسبب البعد الاجتماعي في بناء شخصية الفرد، وهو البعد الذي رمز له بالعقل، الذي يعد نافذة لاستيعاب كل الموروثات الاجتماعية. فإن المسؤولية الفردية لن تتحقق إلا من خلال تأسيس المجتمع المستقر والقادر على إشباع الحاجات الأساسية لمواطنيه (ليلة، 2007، ص ص 47 – 49).
المجتمع يتولى تعيين المسؤولية الاجتماعية
يقف هذا الموقف موقفا مناقضا من الموقف السابق، ويؤكد أن تعيين المسؤولية وتحديد طبيعتها يأتي من خارج الإنسان بالأساس. وإذا كان الإنسان هو الكائن العاقل، فإن تعيين المسؤولية يرتبط بدرجة عالية من العقلانية. وإذا كانت الفلسفة المثالية عند هيجل تؤكد أن الكون رشيد بطبيعته، وأن تطوره يعتمد على نشر العقلانية في الواقع، حتى يتطابق مع مقتضيات العقل الكوني. فإن ذلك يعنى أن عقلانية الإنسان تتأكد إذا تطابقت مع العقل الشامل أو عبر عنه. وأن الرجال العظماء في التاريخ هم الذين تكيفت عقولهم مع متطلبات هذا العقل الكوني أو الفكرة المطلقة. وفى هذا الإطار تستند مسؤولية الإنسان إلى مستوى عقلانيته، وإذا كانت عقلانيته تأتيه من خارجه، فإن ذلك يعنى أن مسؤوليته تعيّن له، أو بالأصح تفرض عليه. ولذلك يرفض هذا الموقف تحديد المسؤولية الاجتماعية باعتبار أن دافعيتها من داخل الإنسان، أو هي عقلانية ومسؤولية محتمة بيولوجيا، أو محتمة بعوامل ليست اجتماعية مرفوضة.
وفى هذا الإطار نجد أن السلوك أو الدور ينجز في ظل شروط موقفية، لا سيطرة للإنسان عليها. وفى هذا الإطار يصبح من أهم لزوميات السلوك العقلاني أو المسؤول، أن يتوفر لدى الفاعل فهم كامل للشروط الموقفية المتصلة بمسؤوليته الاجتماعية وسلوكه (الطويل، 1960، ص 285). وإذا كان هذا الموقف يؤكد على أهمية أن يتوفر لدى الإنسان الفهم الكامل لطبيعة المسؤولية وحدودها التي عينت له، فإن ذلك يعنى أيضا أنه من الضروري أن يعمل وفقا لمتطلباتها. وإذا كان الاتجاه السابق قد ربط العقلانية بمرجعيتها البيولوجية وجعل المسؤولية فردية مرتبطة بعقلانيتها، وهي المسؤولية التي قد ترتقي لتصبح ذات طبيعة اجتماعية. فإن الموقف الأخير يؤكد على أن المجتمع هو المرجعية الأساسية لتعيين المسؤولية الاجتماعية، وذلك باعتبار أن المجتمع هو الذي يحدد القواعد الحاكمة أو المحددة للمسؤولية من خارج الفرد.
فالمسؤولية معينة للفرد، وغاياتها ووسائلها معينة كذلك، إضافة إلى حزمة الحقوق والواجبات المرتبطة بها. وهو الأمر الذي يشكل جوهر الخلاف بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الاجتماعية. وتبعا لذلك فإن نسق الثقافة والقيم في المجتمع هو الذي يتضمن تحديد طبيعة المسؤولية الاجتماعية، التي ينبغي أن يقوم بها الفرد استنادا إلى موقعه في بناء المجتمع، أي استنادا إلى المكانة التي يشغلها والأدوار التي يقوم بها، حيث نجد أن نسق الثقافة والقيم في المجتمع يحدد المسؤولة الاجتماعية للأفراد بصورة مزدوجة، فهو من ناحية يحدد الأهداف أو المهام أو الوظائف، التي تسعى المسؤولية لإنجازها في المجتمع، وهي وظائف أو غايات ذات طبيعة اجتماعية بالأساس. إضافة إلى أنه يحدد مجموعة القواعد التي تضبط وفاء الأفراد بمسؤولياتهم الاجتماعية، ثم يقرر الجزاء الاجتماعي المرتبط بطبيعة وفاء الفاعل بالمسؤولية المعينة له ومستواه (ليلة، دس، ص 169).
المسؤولية معينة للفرد، وغاياتها ووسائلها معينة كذلك، إضافة إلى حزمة الحقوق والواجبات المرتبطة بها
المدخل الحقوقي
مع بداية العقد الأخير من الألفية الثانية برز التنظير الحقوقي كمدخل لفتح أبواب المشاركة أمام الجماهير وتدريبهم على تحمل مسؤولياتهم، وقد ارتبط بروز المدخل الحقوقي مع صعود نجم تنظير المجتمع المدني وخاصة المنظمات الحكومية ودورها في التنمية من أسفل، أي من الجماهير، وتراجع دور الدولة القومية كفاعل تنموي فشلت غالبية تجارب التنمية التي قادتها. ذلك يعنى أن ظهور هذا المدخل ارتبط من ناحية بعدم فاعلية كافة أشكال التنمية المفروضة من أعلى، والتي تجعل بنية المسؤولية الاجتماعية بنية غير متوازنة، حيث تنفصل الحقوق عن الواجبات (ضلعي المسؤولية الاجتماعية) في نطاقها فرضت الدولة على المواطنين واجبات في مواجهة اعتراف ضعيف بالحقوق التي ينبغي أن يحصل عليها المواطنون العاجزون عن مواجهة الدولة العاتية في قوتها. ولهذا السبب ولضعف الدولة وفشل تجاربها التنموية كما أشرت حدث انقلاب في الفكر التنموي، حيث برز تنظير يؤكد على ضرورة أن تبدأ التنمية من أسفل، في هذا الإطار عملت بعض تنظيمات المجتمع المدني باتجاه تطوير وعي البشر بأهمية قيادتهم للتنمية لتحسين أوضاعهم.
وهو ما عرف بالتنمية المستدامة، ولكي يشاركوا في تطوير أوضاعهم، فإنه من الضروري أن يكونوا على وعى كامل بحقوقهم والتزاماتهم. وقد ساعد على تبلور هذا النمط من التنظير وترسخه من ناحية ثانية بتراجع دور الدولة، وتراجع بطشها تحت وطأة رقابة مؤسسات النظام العالمي، حيث أتاح ذلك الساحة أمام المواطنين لأخذ زمام المبادرة، لتطوير أوضاعهم وفرض الرقابة على أجهزة الدولة، وتوجيهها لخدمة مصالحهم بتأهيل وتوجيه من تنظيمات المجتمع المدني. غير أن ذلك لم يتم بصورة عشوائية ولكنه – أي التأكيد على المدخل الحقوقي – تبنى الطابع المؤسسي من طرفين متقابلين، حيث نجد على أحد الأطراف تنظيمات المجتمع المدني، خاصة المنظمات غير الحكومية التي تعبر عن روحه وجوهره، والتي تولت تدريب الجماهير على تحمل مسؤولياتها الاجتماعية، وحتى يمكن أن تتحمل مسؤولياتها الاجتماعية فإنه من الضروري أن يمتلك المواطن الوعي بحقوقه وواجباته، وهو الطرف المقابل في التفاعل مسؤوليته الاجتماعية. ومن ثم فإلى جانب أن تنظيمات المجتمع المدني عملت باتجاه تمكين الفئات الاجتماعية المهمشة اقتصاديا وسياسيا، فإنها عملت كذلك على تطوير وعيها الاجتماعي والسياسي والقانوني، بما يؤسس لديها مسؤولياتها الاجتماعية باتجاه المشاركة الفعالة على كافة الأصعدة.
وتوجد محطات تاريخية شكلت علامات في تاريخ تطور المدخل الحقوقي، بدأت هذه المحطات مع منتصف الثمانينات من القرن العشرين حيث برز الحديث حول حقوق الإنسان المشروطة. وفى نهايتها وبالتحديد في عام 1989 بدأ البنك الدولي يؤكد على صيغة الحكم الرشيد، من خلال إعادة التركيز على الدولة. واستمرار ذلك من خلال دليل التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة حيث انتقل التأكيد التنموي ليركز على الإنسان ومواجهة الفقر. وفى المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا 1993 تم التأكيد على ربط التنمية بحقوق الإنسان. وفى عام 1997 أكّدت عملية الإصلاح التي تبنتها الأمم المتحدة على ضرورة نشر ثقافة حقوق الإنسان.
ونتيجة للتطورات السابقة برز المدخل الحقوقي في منتصف تسعينات القرن الماضي باعتباره يسعى لدمج الإنسان في التنمية البشرية المستدامة، ارتباطا بذلك يؤكد المدخل الحقوقي على أن الهدف الذي تتجه إليه المسؤولية الاجتماعية يتمثل في تحسين أوضاع البشر بالتركيز على احتياجاتهم ومشكلاتهم وإمكانياتهم. ومن هذا المنطلق يرتبط المدخل الحقوقي بنفس القضايا التي تهتم بها معظم المبادرات التنموية التي أكدت على حق الإنسان في إشباع حاجاته الأساسية كالغذاء والمأوى، والرعاية الصحية والتعليم والأمن والحرية لتطوير نوعية الحياة. على هذا النحو يستند المدخل الحقوقي إلى مسلّمة أن للبشر حقوقا ثابتة، وبأن الحرمان من الحاجات يعد إنكاراً لتلك الحقوق (ليلة، دس، مرجع سابق، ص 171). ذلك يدفعنا إلى البحث عن الفاعل الذي يتولى – استنادا إلى المدخل الحقوقي – تطوير نوعية حياة الفقراء بما يجعلها قادرة على إشباع احتياجاتهم الأساسية، من خلال تدريبهم وتنشئتهم وتطوير وعيهم بحقوقهم وواجباتهم.
في هذا الإطار نجد أن تنظيمات المجتمع المدني من خلال مسؤوليتها الاجتماعية عن التنمية الاجتماعية المستدامة، التي تبدأ من الجماهير هي الفاعل الذي يعمل على تطوير إمكانيات الفقراء وقدراتهم، وتأكيد ثقتهم بأنفسهم وأحقيتهم في فرص الوطن، إلى جانب أن هذه المنظمات تعمل على تمكين هؤلاء المهمشين والفقراء اقتصاديا واجتماعيا. إضافة إلى ذلك نجدها تعمل على تطوير وعيهم الحقوقي في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، في مقابل توعيتهم بضرورة الوفاء بواجباتهم كاملة، لأن القيام بهذه الواجبات يعد المدخل الحقيقي للحصول على الحقوق، وأن ذلك يشكل النواة الصلبة لمسؤولياتهم الاجتماعية. فالقيام بالواجبات يشكل المدخلات بينما الحصول على الحقوق يشكل المخرجات من وجهة نظر هذا المدخل.