مقاربة جديدة لنقد إدوارد سعيد
وقد تجلى الاهتمام الواسع بالكتاب في الغرب والشرق (في مقدمته العالم العربي) في صدور كتب عديدة عنه، بلغات مختلفة، تفاوتت ما بين الدراسات الأكاديمية المتخصصة والدراسات الثقافية العامة، التي ناقشت أطروحته المركزية المتمثلة بأن الاستشراق “سلطة معرفية”، ومؤسسة إمبريالية قامت على تصورات (تمثيلات) أعادت تشكيل حقيقة الشرق على نحو مشوه، ومكّنت الغرب من السيطرة عليه. وبذلك فإن الاستشراق يُعدّ شكلا من أشكال العصاب التوهّمي، ومعرفة من نمط مختلف عن المعرفة التاريخية العادية، وجوهره التمييز الذي يستحيل اجتثاثه بين الفوقية الغربية والدونية الشرقية.
من بين هذه الكتب، التي أيد بعضها أطروحة سعيد، وحاول بعضها الآخر نقضها “من أجل النهم إلى المعرفة: المستشرقون وأعداؤهم” للبريطاني روبرت إيروين، “قراءة في الاستشراق: سعيد والمسكوت عنه” للأميركي مارتن فاريسكو، “إدوارد سعيد: دراسة وترجمات” لفخري صالح، “إدوارد سعيد ناقد الاستشراق” لخالد سعيد، “إدوارد سعيد ونقد تناسخ الاستشراق: الخطاب، الآخر، الصورة ” لوليد الشرفا، “الاستشراق عند إدوارد سعيد: رؤية إسلامية” لتركي بن خالد الظفيري، “إدوارد سعيد: من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف” إعداد وترجمة محمد الجرطي، “الصوت والصدى: مراجعات تطبيقية في أدب الاستشراق” لغسان إسماعيل عبدالخالق، و”إدوارد سعيد: من نقد خطاب الاستشراق إلى نقد الرواية الكولونيالية” للونيس بن علي.
كما أصدرت الجامعة الأميركية في القاهرة عددا خاصا من مجلة الأدب المقارن “ألف” عن إدوارد سعيد بعنوان “إدوارد سعيد والتقويض النقدي للاستعمار”، شاركت فيه نخبة من كبار المثقفين العرب والأجانب، وحذت حذوها مجلات عربية عديدة.
كتاب لونيس بن علي من أحدث الكتب الأكاديمية عن إدوارد سعيد، صدر مؤخرا عن منشورات ميم في الجزائر، ومؤلفه ناقد وأكاديمي جزائري يعمل أستاذا للنقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة بجاية، وله مجموعة إصدارات، منها “الفضاء السردي في الرواية الجزائرية”، و”تفاحة البربري: قراءات نقدية مفتوحة”.
يتناول بن علي في الكتاب الخطاب المعرفي والنقدي عند إدوارد سعيد؛ مؤكدا أن فكرته تتأسس على الإحساس بالحاجة إلى فكر سعيد الذي جابه به الإمبريالية الغربية، بكل جرأة وشجاعة، من أجل فهم آليات اشتغال الثقافة والفكر الغربيين، في ظلّ استمرار الوعي الإمبريالي، الذي مازال يتحرّك داخل إطار المشروع الإمبراطوري، رغم أنّ الشكل التقليدي للاستعمار قد ولّى زمنه، بعد حركات الاستقلال الوطني التي شهدها التاريخ المعاصر منذ خمسينات القرن العشرين.
إنّ كتابات إدوارد سعيد، بحسب بن علي، تحتفظ بتوهجها النقدي، سواء على صعيد ابتكار أدوات جديدة لقراءة الخطاب الإمبريالي (الاستعمار، العولمة، الإمبريالية الاقتصادية.. إلخ) أو على صعيد الأهداف الإنسانية التي كان يروم إليها، وعلى رأسها استعادة هويات الأطراف لكياناتها المستبعدة تاريخيا، وكذا تبني مشروع المقاومة الثقافية في وجه الغطرسة الإمبريالية الغربية، التي مازالت حبيسة جشعها التاريخي والجغرافي.
حاول بن علي، في هذا الكتاب، إبراز أهم الأفكار التي اشتغل عليها إدوارد سعيد طيلة حياته المعرفية الصاخبة بالسجالات المعرفية في قلب الإمبريالية الغربية، فحصرها في ثلاثة محاور أساسية: المحور الأول تعلّق بإبراز الرؤية النقدية لإدوارد سعيد في نقده للاستشراق الغربي، فقد طوّر منهجا حفريا في نقد الاستشراق بوصفه خطابا؛ مبرزا مسارات التلاقي بين المعرفة الاستشراقية بالسلطة الإمبريالية، سواء أتعلق الأمر بالاستشراق العلمي أم بالاستشراق الرمزي.
وقد بين المؤلف الاستفادة التي ظفر بها سعيد وهو يتعامل مع المنظومة المفاهيمية عند ميشال فوكو، صاحب المنهج الأركيولوجي الذي بيّن ما للخطابات من سلطات.
أما المحور الثاني، فكان منصبا على تفكيك جدلية العالم والنص، من خلال الموقف النقدي الصارم الذي أبداه إدوارد سعيد من النظريات الأدبية– النصية تحديدا – التي أسهمت، من خلال نزعتها النصية، في تجريد الممارسة النقدية من بعدها التاريخي، بل وأسهمت في تعزيز حضور الوعي الديني داخل الثقافة، حتى أنّ النقد الجامعي تحوّل إلى نوع من الحقل اللاهوتي الذي يضم مجموعة من الحواريين.
في هذا المحور، ينبثق بوضوح مفهوم “الوعي النقدي” الذي عرّفه إدوارد سعيد بأنه وعي مقاوم لأي شكل من أشكال تغريب الثقافة في المجتمع باسم النصية تارة، وباسم العلموية تارة أخرى. بل إن المسار الحقيقي للنقد أن يكون علمانيا، أي قادرا على إدراك العلاقات بين المعرفة والنصوص بالسلطة مهما كان شكلها، وبذلك نقدها وفضحها.
واشتغل المؤلف، في المحور الثالث، على علاقة السرد بالإمبراطورية من جهة، انطلاقا من أن الرواية الأوروبية لم تكن بريئة تماما من النزعة الاستعمارية، بل كانت مواكبة لأطروحاتها، ومجسدة لها. ومن جهة أخرى، أبرز أهمية السرد– وتحديدا ما يسمى بالسرد المضاد– في منظومة إدوارد سعيد النقدية؛ فقد رأى أن السرد لم يعد محايدا، بل هو أداة من أدوات تحرير الوعي من سلطة الخطاب الاستعماري.