مقدمات أولية نحو بناء مشروع ثقافي عربي
في اعتقادي أن هذه المبادرة تنضم إلى عدد من رؤوس أقلام مشاريع فكرية وثقافية مطروحة في الساحة الثقافية والفكرية العربية منذ ما يقرب من قرن من الزمان ولكنّها بقيت مجمدة في الأرشيف، ومطبوعة في الوقت نفسه بطابع الجهدي الفردي الذي لم يتطور إلى عمل جماعي من جهة، وإلى سياسات ثقافية وطنية موحّدة في إطار المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم التابعة للجامعة العربية.
قبل مناقشة بعض المشكلات التي تعترض المشروع الثقافي العربي، وقبل الإشارة السريعة إلى عينات من التجارب والمقترحات لتكوين الوحدات الثقافية في أوروبا، وأميركا والصين، أرى أنه من الضروري التذكير بسرعة بعدد من المساهمات التي حاولت أن تقدم التحليل النقدي للبنى الثقافية العربية كما هي في تراثنا وفي السجل الرمزي المعاصر لدينا، إلى جانب تحليل المشكلات الناجمة عن عدم إجراء المثاقفة الجادة والمستمرة مع ثقافات الجوار العربي، ومع ثقافات الاثنيات بداخل فضائنا الجغرافي وكذلك مع السجل الثقافي والفكري وتجلياته في الحياة اليومية لشعوب المعمورة وخاصة في المواقع التي تسود فيها الثقافة العليا المتطورة وتطبيقاها وكذلك الثقافة الشعبية المتقدمة بعد تحديثها وإخراجها من أنفاق الخرافة، وأشكال الفلكلور المبتذل، والذهنية الاسطورية وهلمَ جرا.
إضافة إلى ما تقدم فإن ثمة مشاريع للثقافة العربية ينظَر لها في إطار العالم الثالث، أو في إطار الكونية الاسلامية، أو في إطار النسب العرقي، أو الطائفي الديني، أو في فضاء الكومنولث الإسلامي الواسع والرومانسي كما نجد ذلك في أطروحات المفكر الجزائري مالك بن نبي. لا شك أن عنقود هذه المشاريع الثقافية تحتاج كل واحدة منها إلى دراسات خاصة لغربلتها والوقوف عند نقاط القوة أو الضعف فيها ويدخل هذا في اعتقادي في منظور الشروع في بناء التصور المتكامل للمشروع الثقافي الوحدوي بكل تنوعاته، وأسسه وروافعه التاريخية على طريق إبداع مخطط ثقافي قابل للحياة والتطبيق. لا بد هنا من الإشارة المقتضبة إلى المواثيق الثقافية العربية التي خصصت مكانا للمشاريع الثقافية التي تتميز غالبا بالتمركز القطري المحلي والتي تبقى دائما ضحية للخيارات السياسية الوطنية من جهة، وللتغيير أو للإلغاء بمجرد تغير الحكام في سدة الحكم من جهة أخرى.
لو مات هذا الكيان لما بقيت أوروبا، بل تحولت إلى مجرد كتلة من البشر تتكلَم عدة لغات مختلفة، ولما بقي ثمة مسوغ لأن يستمروا في التكلم بلغات مختلفة لأنهم لن يجدوا بعد شيئا يقال إلاَ ويمكن قوله بنفس الإجادة بأيّ لغة، أو باختصار لن يبقى لديهم شيء يقولونه في الشعر. وقد أكدت من قبل أنه لا يمكن أن توجد ثقافة أوروبية إذا انعزلت أقطارها المختلفة عن بعضها البعض، وأضيف الآن أنه لا يمكن أن توجد ثقافة أوروبية إذا طبعت هذه الاقطار بطابع واحد. فنحن نحتاج إلى تنوع داخل الوحدة..”.
هذا هو تصور إليوت لوحدة الثقافة الأوروبية الذي نختلف معه في مسألة مركزية وهي كونه ينظر إلى أساسها في الدين المسيحي لأن المسيحية ليست أساسا للثقافة الأوروبية فقط وإنما هناك مجتمعات أخرى تدين بهذه الديانة وتستمد منها بعض أعرافها وطقوس حياتها وقيمها. أما في الوقت الراهن فإننا نجد صموئيل هنتنغتون يوسع دائرة الانتماء الثقافي حيث يضع فيها أوروبا وأميركا على نحو خاص جدا وذلك في كتابيه “صدام الحضارات” و”من نحن” مع العلم أن أطروحة هذا المفكر الأميركي الاستراتيجي يطابق الهوية الثقافية بالعرق حينا، والدين المشترك حينا آخر، وبطبيعة الصراعات على النفوذ والقطبية العالمية حينا آخر وهو ما جعله لا يدرك علاقة الهوية بالتحول في التاريخ، وعلاقتها أيضا بالهجنة التي أصبحت تسم مجتمعات العالم بميسمها بنسب مختلفة طبعا.
هناك نموذج آخر، ضمن نماذج أخرى من الصعب تأملها وفحصها ودراستها بالتفصيل في مقالة واحدة، وهو نموذج الصين الشعبية الدولة الوطنية التي لم تستكمل بعد سيادتها الجغرافية الكاملة والتي يبلغ عدد القوميات فيها 55 قومية ذات لغات وقيم وانتماءات روحية/دينية متنوعة. في كتابه المهم “الصينيون المعاصرون: التقدم إلى المستقبل انطلاقا من الماضي” يقترح الناقد الثقافي الصيني البارز وو بن رؤية منهجية للمشروع الصيني الثقافي للبحث عن القواسم الثقافية المشتركة للمواطنين والمواطنات الصينيين والصينيات في النقاط التالية وهي: الأحوال النفسية، وعقيدة المعاني والمفاهيم الثقافية، ووجهة النظر إلى القيم، والفكر الأخلاقي، وأسلوب التفكير، والشخصية. بعد تقديمه لهذه المنهجية فإنه يقترح أيضا ما يدعوه بنظام المراجعة لدراسة الصينيين فيقسمه إلى هذه النقاط: 1- الصينيون التقليديون، الإنسان العصري في الصين، 3- الأجانب، وهنا يدعو إلى دراسة معمقة للتكوين الثقافي والقيمي والروحي لكل فئة من هذه الفئات من أجل سبر الأبنية الثقافية التي تنتمي إليها وتعبر على أساسها كل واحدة منها باعتبار تلك الأبنية المشتركة ناظما ثقافيا ونفسيا للهوية. في هذا الكتاب يلح الناقد وو بن على أن سنوات الثورة الثقافية قد كبتت الصين وأبعدتها عن الانفتاح على الثقافات العالمية وخاصة المتطورة منها وكانت هذه التجربة السلبية عبئا ثقيلا وحائطا حال دون تمثل تلك الثقافات والنهل من نقاط قوتها الابداعية.
على ضوء ما تقدم يبدو لي أن الانطلاق في وضع اللبنات للتصور الخاص بالمشروع الثقافي الجماعي لبلداننا ينبغي أن يستلهم روح منظور ومنهجية هذه التجارب المذكورة وليس استنساخ مضامينها الخاصة بها والمميزة لها.