مكان‭ ‬في‭ ‬الذاكرة

الخميس 2015/10/01

هل تنفع شهادة الشاعر في الزمن الداعر؟ الشاعرُ ضميرُ الأمة، نعم‭.‬ ولسان حال صمتها ونهضتها معا هكذا تعلمنا‭.‬

كان المثقف بصورة أشمل ضميراً كاملاً يتحرك داخل الوسط الوطني المندفع بجملة المُثل والقيم، وبما يؤمّن له تلك المكانة‭.‬ هكذا يمكننا أن نصف الشاعر ذات يوم بعيد‭.‬

أما اليوم فالسؤال يبدو أصعب وأكثر استحالة على الإجابة‭.‬ ذلك لأن الوطن لم يعد وطنا، والأمّة لم تعد أمّة، فيما الضمير الشاعر ظل يراوح في محله، يبحث عن وطن بالمفهوم الذي كان عليه، عن الأمّة التي كانت من المحيط إلى الخليج‭.‬

متوالية الحروب الإقليمية والطائفية، وبروز الإسلام السياسي وقيام الدولة الطائفية-القبلية بأغطيتها الديمقراطية الواضحة وانغلاق العقل العربي الإسلامي على نفسه غيّرَ من مفهوم الوطن والمواطنة، بل غيّر من مفهومنا للشعر ذاته، لم يبق عند ذلك إنما تجاوزه إلى استعداء الآخر المسالم، الحالم بقيم التسامح والمساواة‭.‬

لذا أصبح الشاعر والمثقف بشكل عام في قلب المحنة، جزءاً من نسيج إشكالية كبيرة‭.‬ فهو يبحث عن دور لم يئن له أن يولد فيه، عن مكانة تشوّهت صورتها‭.‬

هل نتذكر صورة شاعر السلطة في العراق، أيام الحرب العراقية الإيرانية كمثال هنا‭.‬ قد يصحُّ ذلك عند البعض وقد لا يصح عند البعض الآخر‭.‬ هكذا تولد الإشكالية، وهكذا تختلط المفاهيم‭.‬

حين نتحدث عن ضمير شاعر، علينا أن نتحدث عن مفهوم متواز للوطن وللمواطنة، تقول معركة الحرية‭.‬ نعم هي الحرية ذاتها التي مزقت جسد الشاعر ذات يوم، إن لم تكن الصخرة التي تحطمت عليها سفن آماله وأحلامه، إن لم تكن الموجة المجهولة التي أبحر باتجاهها ليلقى مصيره هناك، مع من أبحر هارباً من النهايات الوطنية والقومية المؤجلة دائماً‭.‬

نحن نحاول نسيان ما تعلّمناه على مقاعد الدرس من مقاصد وغايات، بعد أن أصبحت الأوطان طاردة لنا‭.‬

ذات يوم سألتُ الشاعر سعدي يوسف عن البصرة، موطنه الأمّ، وما إذا كان في نفسه شيء منها، زيارة متعجلة، أو إقامة قلقة فقال: البصرة عندي اليوم هي مكان في الذاكرة‭.‬

ما الذي ظل من فلسطين بعد أكثر من 60 سنة من عمر القصائد والأناشيد التي كتبت عن فلسطين، ومثل ذلك نقوله عن القصائد التي كتبت في العراق وسوريا وليبيا ولبنان، مثل ذلك يمكننا قوله عن الذين قضوا في سجون الأنظمة، أو أجهزت المنافي والمهاجر على فتوتهم وأوطانهم، أو الذين قضوا في حروب الطوائف والقتل على الهويات‭.‬

تُرى عن أيّ دور للشاعر نتحدث؟ أنا وبكل ما في روحي من ولاء للإنسان، بكل ما في ضميري من صدق وقوة غير قادر على تحرير جواب للسؤال الصعب هذا‭.‬ ما يحدث في أوطاننا أكبر من أن يقف بوجهه كتاب شعر أو قصيدة ما‭.‬

لقد أجهزت الأنظمة الدكتاتورية بالأمس والإسلامية الطائفية اليوم على قيم الجمال في ضمير الإنسان العربي، قتلت في روحه المعاني النبيلة لجملة (حب الوطن من الإيمان) مثلاً‭.‬ ووجّهته لصالح حب المعتقد والمذهب والطائفة والقبيلة، غذّت مخيلته بقيم البداوة والصحراء التي منها التكفير وغضب الآلهة على المنادين بالحريات‭.‬

جعلت من روحه مقبرة للكراهية والبغضاء‭.‬ الشاعر، الإنسان بمفهومنا عن الشعر وقيمه هو غير الشاعر الذي يملأ شاشات المسابقات الأدبية اليوم‭.‬ حين تصبح أوطاننا قبلة لنا، سكناً أبدياً للروح والجسد وغير طاردة لنا سيأتي الشاعر الذي يُجيب على سؤالك يا صديقي‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.