مكيافيلية شبكات التواصل الاجتماعي
قدّم العالم السيميائي سعيد بنكراد إلى القارئ العربي، حديثا، ترجمة عربية لكتاب “شبكات التواصل الاجتماعي – حرب التنانين” للفيلسوف روبير ريديكير. ويعد هذا المؤلَّف، الذي ينبش في تاريخ أزمنة عالم الرّقمية والتكنولوجيات الحديثة وحاضرها، بحثا ونقاشا فكريا فلسفيا يحاول الإجابة عن أسئلة تخصّ صناعة إنسانٍ رقميّ فاقدٍ لخصخصته، ويتابع فوضى تحرّك شبكات التواصل في الأجهزة التكنولوجية وانزلاق القرارات السيادية نحو المحافل الجديدة وتجاهلها وإقصائها للحدود الجيوسياسية وحربها من أجل القوة والهيمنة على العالم، كما يقارب رغبة الإنسانية الفائقة في القضاء على الإنسان وتدمير الرّوح المقاوِمة في الفلسفة.
يعود بنكراد، في المقدمة التي خصّ بها ترجمته لكتاب “شبكات التواصل الاجتماعي – حرب التنانين”، إلى مؤسس السِّبرانيّة نوربيرت فيينر، الذي أسندها في نهاية العقد الرابع من القرن العشرين إلى مستويات ثلاثة مترابطة راغبة في تأسيس مجتمع مثالي يتساوى فيه الناس في العقل والأهواء وحاجات المعيش، متطلبة بلورة أنثروبولوجيا تستوعب إنسانا جديدا يتحرك ضمن دائرة حياتية مستقلة تعتبر التواصل قيمة، وتتمحور حول ما يسميه الباحث فيليب بروتون “إنسان التواصل”؛ إنسان يغدو شكلا، وبالتالي يمكن التحكم فيه وتعديله وتغييره. ويحتمل أن تقود هذه العملية أو هذه المرحلة إلى المزج الكلي بينه وبين الآلة، في توجّه ثقافي أيديولوجي يسعى إلى تدجين الكائن البشري ليصبح مستهلكا يعيش وفق ما هو حسيّ فقط.
يؤكد المترجم أن السِّبرانيّة ليست غريبة عما تقدمه المعلوميّات وكل وسائل الاتّصال في الألفية الثالثة، وأن الثورة التكنولوجية الجديدة ممثّلة في نظام الإنترنت وكل الشبكات التواصلية المنبثقة عنه قد بسطت تأثيرها في كلّ الاتجاهات، مضيفا “لقد وجدت الإنسانية نفسها فجأة أمام شكل جديد من الروابط والعلاقات اتخذت من الفضاء الافتراضي موطنا بديلا عمّا يعاش في حقيقة الحياة؛ ففيه يمارس الناس اتصالا لا ينتهي أبدا… فالناس، كلّ الناس، المثقّفون والمتعلّمون والعامّة، بل والمهمّشون وسفلة القوم ودهماؤهم، يعبّرون في الفضاء الافتراضيّ بكلّ حرّية عن (آرائهم) ويتداولون في كلّ شيء، في السياسة والاجتماع وفي الموت والحياة والفضائح. وهم في الغالب من يحدّدون معايير الخير والشرّ والصّدق والأمانة والخيانة والمحظور والمسموح به، واستنادا إلى هذه المعايير يحكمون على القاطنين في فيسبوك أو من يوجدون خارجه”.
حِراسةُ الجُوّانيّة
يذهب مؤلف “شبكات التواصل الاجتماعي – حرب التنانين” إلى أن ممارسة شبكات التواصل الاجتماعي يكون فيها خرق للجُوّانيّة والحياة الخاصة، وأن في القضاء على هذه الحياة الخاصة تخلّصت أوروبا من أوروبيتها وامتدّ فراغ داخلها، وإليه تسرّبت رأسمالية جديدة وصلت مداها اليوم، وقد كان أول من أدركها ـ حسب روبير ريديكير ـ هو ميشال فوكو الذي اعتبر امّحاء الإنسان مشكلة طرحت على المعرفة الإنسانية. ومع المرحلة الرّقمية للعولمة التقنية التجارية، لم تعد الرأسمالية في حاجة إلى طبقة البرجوازية وإلى إنسانها، ظاهرة كتب عنها فوكو في كتابه “الكلمات والأشياء” ويُطلق عليها “نزع الطّابع الأوروبي عن العالم”.
ويحيل روبير ريديكير اختراق النظام التكنولوجي الرقمي للعالم وقيامه بمراقبتنا إلى ما تحدث عنه جورج أورويل في روايته “1984“ فيما تعلق بتنازل الدولة في الكثير من البلدان الغربية للغافام وكيف أوكلتها مهمة الرقابة والتبليغ عن الكلمات التي ينظر إليها بأنها غير أخلاقية. فتحتَ التطورات التي عرفتها الإعلاميات يجد ريديكير أن داخلنا سكت وأصبح امتدادا لأشياء أخرى، لغوغل وأمازون والكون الرقمي؛ لتتحكّم الغافام فينا عن بُعدٍ، وعبر عالم “السمارت وورد” الذي تبنيه نصبح خدما لها عكس ما يبديه الظاهر.
فوضويّة تقنيّة
“كيف يكون العالم بلا مبدأ؟ بلا مبادئ؟” متسائلا ريديكر، ثم مجيبا في “شبكات التواصل الاجتماعي – حرب التنانين”، “سيكون عالما تزدهر فيه المبادئ المزيّفة، وهي مبادئ اعتباطية وذاتية تقتتل فيما بينها. عالم تتحرّك فيه، في تنافر كلّيّ، أشباه مبادئ، ويتحرّك فيه مُدّعو المعايير، غير القادرين على فرض شرعيّتهم على الجميع… مجتمعا لا يمكن للمبدأ أن ينمو فيه. إنه العالم الرقميّ الفوضويّ”.
يورد مؤلف الكتاب أسبابا لانتصار فوضى العالم المعاصر، تلك التي عقبت فوضى مختلفة سبقتها على شكل تيار فلسفي وسياسي ظهر في نهاية القرن التاسع عشر بأفكار أصليّة وقضية وقانون موجّه؛ فالفوضى التي هي الوضعية الثقافية العامة السائدة في الغرب بداية القرن الحادي والعشرين، فوضى فقدتْ فيها المبادئ الممكن مواجهتها كلّ شرعية، فوضى مقلوبة، كعنكبوت يزحف إلى الخلف، تقوم بتفكيك كلّ ما خاطه الغرب على امتداد ألفيتين، في عملية قلب لتاريخه، قلبٌ يجسّده استيلاء شبكات التواصل الاجتماعي على السلطة وإطاحتها بالمبادئ.
يوتوبيا الرّقميّة
لتطور شبكات التواصل الاجتماعي تبعات على الحياة السياسية لم ننتبه إليها بعد، حسب مؤلف الكتاب؛ فمن الصعب تحديد مضمون ثورة في الحياة العامة ونحن ما زلنا في بدايتها. ويجد ريديكير أننا بدأنا نتعرف على بعض القرائن الدالة على إعادة تشكيل خطاطات هذه الحياة السياسية وبنياتها، ليظهر ذلك كما لو أننا نلج نظاما جماعيا جديدا.
يرى روبير ريديكير أن الثورة التكنولوجية/الرقمية الحالية ترفض التنظيم البرجوازي للحياة الجماعية كما كانت في الماضي، وأنها تهيّئ لانتصار الإنسان أحاديّ البُعد، وبفعلها لن يتمتع الناس بحدائق سريّة لأن أزهارها ستكون سامّة، مشبّها شبكات التواصل الاجتماعي من قبيل تويتر وفيسبوك ومستنسخاتهما بالوحش الذي خلقه فرانكشتاين، العالِم الذي انقلب عليه المخلوق الذكي الذي أنشأه؛ فلقد تحوّلت هذه الشبكات إلى أجهزة تقنية تسعى إلى الحسم في الأخلاق وإلى إقامة قانون محلّ المؤسسات التقليدية سواء سياسية أو فلسفية أو دينية، وهي تضع اليوم نفسها فوق الدول، تريد سيادة حقيقية وذاتا سياسية جديدة، تشكّل تنينا صاعدا مخالفا للتنانين القديمة.
حربُ التنّين
للتنين الجديد، حسب روبير ريديكير، قيم تسندها الثقافة المابعد حداثيّة، وهي قيم ذاتانيّة متطرفة؛ فالقلب الفلسفي لشبكات التواصل الاجتماعي يتجسّد في ثقافة الإقصاء وفي ذاتانية تحالفت فيها التقنيّة مع الذات. ويمكن القول إنها فقدت عقلها وتحرّرت من كلّ القيود التي كان يمثلها الاعتراف بالتفاوتات الاجتماعية في المؤهلات، وتراتبية المعرفة، وشرعية المؤسسات والنظام الاجتماعي.. وانتقلت الذاتانية بعد ذلك إلى السعي نحو التخلّص من كل الحبال خارجة عن طوع الكون، وفاقدة الموضوعيّ فيها، غير معترفة بأية شرعية.
انطلاقا من تعريف وافٍ ودقيق للذاتانية، خلص ريديكير إلى أنها تغلق على الإنسان في سجن جسده وإثنيّته وبيولوجيّته وأهوائه واعتباطيّته؛ فهذه الرقميّة أو النيو قيم تكشف إعادة تشكّل الإنسان عن الترقيع الأنثروبولوجي، الذي يحاول التنين الجديد من خلاله تدمير ما بقي من إنسية الإنسان، لتقود حرب التنين هاته البشرية نحو “الإنسان المندثر”.