ملاك من ورق

ثلاث قصائد
الثلاثاء 2019/01/01
لوحة: أمل بشير

القصيدة الحرة، تُغلق بعشر نوافذ، مصفودةً بالغيب، تلقى حتفها في نهر الحقيقة، في زنازين اللغة، كصحراء تجرفُ المدن النيلية، كجفافٍ في موسم الخريف، إنّها خرافة الفكرة. كأن تزرع الحلم يقطيناً والأرض لا تثمر إلا عناكب الخيبة، كأن تحبل الأنثى ملاكاً من ورق، كلما ارتعش الجسد جسد اللغة، تحيا شاعرية العالم بموت الشعراء، أنظروا إلى كل هذا الدم المراق! والحرائق في سهول الحبر، وغابات الورق، وميديا الهلاك.

نوافـذُ الرُّؤيـة

(مقاطع)

(1)

برقّة الوقت

أصنعُ عشر نوافذ للحياة

ولي من السراب رؤيته، بماء العين

فأنا لا أشعرُ بالحزن فقط،

بل أراه من نافذة الرُعُونة الثامنة

الجّسد؛ مُعافًى بصحة اللقاء

والروح؛ بالعناقُ الطويلْ

ويكمنْ الله بينهما في الرّعشة

(2)

في الليلة الأولى، إلى النافذة التاسعة

أجلسُ بمُحاذاة الباب وأبكي

نكايةً بهذا العالمَ الذي خلفي

نكايةً بألم، لا معنى لمعناه

دموعي الساخنة وقرت بقلبي

فشعرت أيضاً بروح الله.

(3)

كنت غيمةً كثيفة

أطلُّ من نافذةِ السماء السادسة

كشجرةٍ وحيدة في قريةٍ فقيرة

فقدت موسم إثمارها

(4)

عصيٌّ على اللغة وصف حالي

فخذوني على محملْ التفصيل

في المعنى.

(5)

في الباب الأول

كنت أخفي معالم الألم

ليستتر وجهي زاهياً

في حديقة النفاق الكبيرة

أمّا في البستان المجاور

أجلسُ قرب النافذة الخامسة

أتوسّط الموت..

كأن يموت جسدي

وتحيا الروح لتدفنه في قبر الغيب

قلبي اليافع ينمو بالبؤس من جديد .

(6)

أنا بنتُ البتول، والموسيقى

ورابعة العدوية، والغناء

أنا التي خرجت من عشرة أبوابٍ للحياة

وخانتني الطريق.

في لُجــةً مِن سَـــديمْ

تخطيط: حسين جمعان
تخطيط: حسين جمعان

(مقاطع)

أقفُ عند نهاية العالم

وراء الأُفق/ والأرض مِطمار

أقفُ/ كاستقامةِ خطّ الاستواء

بالشاقول..

أتربصُ بالسماءِ/ ريثما يأتي الليل

فأقبض بكفِّي الكواكب،

وبصيرة القمر البعيد.

(2)

لي من اللهفة/ ترويضُ الرياح

تُحدثني زائرة الروح،

بانعكاس الرؤية،

في صلاة استمطار المحبة

أنا:

الميكروفيزيائية لغيمة اللقاء

والأرض ميثاقُ العدم.

(3)

يا هلاكي في التّرقب

يا نديدي في التضاد، والعجز

وما يعتري الفلوات

يا قلاع النزق وغريم الضياء

في عتمة الوردة المجهولة

بحديقة النسيان..

أتربصُ بالأمل

حين يغفلُ القدر المُسمى

بالمشيئة!

بإشارةٍ منك في ورطة اللغة

في جُنح الليل، في سُهادي الأبدي

في وحدتي من دوني!

(4)

أذوبُ مع الهواء، والتَّرائبِ

علّها/ تأتيك قارئة كف السفر

اسّكبني بكأسك،

واسكرني في القصيدة

فمن يذكُر مدينة النيل

بعد طَوفَان العناق سوى الغرق؟

(5)

السّماءُ مجلوّة بالوصل

بغفران القسوة

ومن هُدْنة التعذيب اللذيذ

من وقع أقدام التّمني الكفيفة

من تراتيلْ النوافذ

نافذتي للحياة

في أبد الغياب.

فنتــازيا الذّاكِــرة

(1)

الحياة شمسٌ حارقة

وجلدُ العالم ناعمٌ شفاف

حنجرتي تموت في النداء

والحب مأزق.

(2)

لوحة: أمل بشير
لوحة: أمل بشير

بيدي، أصنع القوارب

فينجو البحر من سطوة الضفاف

وأغرق في سديمْ الظلام

روحي تمور بخفة الوقت

تستجيب لحنين الذاكرة

الليل يعقبه ليلٌ آخر

والصباح خرافة.

(3)

تسكرني رائحة الشوارع

نكهة الهواء الذي يأتي بعطرك

أسيرُ، فيبتلعني ضوءٌ خافت

أًمهّد لوحدتي،

لغيبٍ؛ مقصده غيبْ

لرحلةٍ متاعها في طريق الوصول

لحياةٍ بعيدة، أجترح المساء.

(4)

أصنعُ من الهواء جناح النجاة

أسقط في بلدةٍ مهجورة

أدخل من نافذة القِدم

من فوقي لُجة سحاب

من أطرافي وتحتي

بياضٌ كثيفٌ يبتلعني.

لا أملك إرادتي

وأنا في وحدتي هذه، تغيب عني معالم الحياة، وهذه الأبدية المتجذرة فيِّ كنظامٍ خالد لا يرجو الخلاص. لا يمكنني أن أتدارك هذه الفعالية الأخّاذة، كلّما أدركت أنني لست جزءاً من جسدي، أبدو حينا كالغيم الذي لا يقترف فادحة الانتماء، كما لا يمكنني أن أستخفّ بقدرة القدر، التي تراود قدرتي على مشيئتي الذاتية. حياتي تمرّ عبر نفقٍ طويل، وبما أنني أرى أحيانا أكثر مما تتيحه الطبيعة فهذا النفق بلا نهاية، وهذه العتمة المتساقطة من سماء جوانحي، ما يعتمله السكون لسلوك الحياة المضطرب خارج الكون.

أحاول أن أثقبْ جدار الرؤية لقشرة الكرة الأزلية، إلا أن قدرتي على الإدراك أقل بكثير مما تستحقه هذه التعويذة.

لم أكن أعتقد بالقول فقط؛ إنما هناك فعالية تُحدِث رتوجاً في جسدي، أذوب في خيالي، فأبدو كسّرٍ من الماضي يُخشي إفصاحه، شيءٌ ما يفصلني عن الواقع، هذه المناظر الهائلة، الأماكن المعتمة، الأنفاق الطويلة بلا نهاية، الرهبة وأنا الفراغ الدخيل، الريح البطيئة، الرؤية الكامنة لعُرى الأشياء أنا في وحدتي هذه لا أملك إرادتي لقابلية البقاء أكثر في الحياة، كما أنه لم تؤثرني فكرة الموت أبدا، أجدني مشغولةً باكتشاف حيوات أخرى، كحياة العناكب الصغيرة في الجدارات الطينية القديمة والمهجورة، كما تستلهمني حياة الطحالب بعد أن تتشرّبها الشمس.

كنت أفكر لو كانت وحدتي هذه شبحا عظيما، يأتيني على هيئة كل الذين سقطوا من الذاكرة، والأشخاص الذين آذوني وتسببوا في جرحي كذلك. لو أن وحدتي هذه شبحٌ عظيم يمكنني ترويضه.

مازلت أمرّ بأوقاتٍ عصيبة من الشدة، ولحاجتي بأن أعرف نفسي أكثر..

عن طريقٍ لا يفضي إلى المأساة والبؤس، عن حياة تعتمل فيِّ، عن إدراكٍ حسيِّ دائم، وفكرٍ حرّ بفعالية.

وأنا في وحدتي هذه، أسمع كل صباح جُملا مختلفة، تُصيبني بالإغماء، أو النوم الطويل:

كمرج البحرين يلتقيان – بينهما برزخٌ لا يبغيان، أشعُر كأني الّمس السماء، فتتلبّسني مرات. ثم أسمعُ مرةً أخرى:

(فإذا انشقت السماءُ فكانت وردةً كالدّهان)

يطفو جسدي كالخطايا بروحٍ إنسانية تعيسة، ونفسٌ تشتاق لعناقٍ أبديٍّ رحيم، فأدرك أنني لست جزءاً من جسدي!

أنا الجانب الآخر لشخص لا أعرفه.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.