ملوحة البحر ورائحة الغارقين
الصباحُ يوشكُ على مداهمتي، وها هي خطواتي تعبُرُ الممرات الضيقة من شارع الاستقلال وصولاً إلى غلطة سراي حيثُ ينتظرني عبدالرحمن وعمر، أحملُ على ظهري حقيبتي الصغيرة، في هذه الرحلات نختصرُ أشياءَنا إلى الأقل، حيثُ الحياةُ تغدو حقيقةً لا مجازاً هي عبور البحر من ضفةٍ إلى أخرى، ذلكَ العبور الذي كان هاجسي، لا مناصَ من قطعِهِ أبداً، أتذكَّرُ أوراقي البيضاء وأنا أنزوي في ركنٍ قصيٍّ في الباص الطويل الذي سيقطعُ بنا المسافةَ كلها لستَّ عشرة ساعةٍ متتالية وصولاً إلى بودروم، لديَّ مُتَّسَعٌ من الوقت كي أروي ما تبقَّى من القصةِ، قصة ذلك الشاب الذي خاضَ حرباً كان فيها الخاسرَ الوحيد، قضى حرباً أورثتهُ خيباتٍ كثيرة تركَها خلفَهُ لأول مرةٍ على الحدود، تلك الحدود التي تحتضنُ اليوم مجازرَ لا تنتهِ وآلاماً تُدفَنُ مع الجثث المتفسِّخةِ في شوارِعِها، كانت تلك الثورةُ التي أدرنا لها ظهورنا لنعبر البحر، البحرُ كان أقربَ من الثورةِ لنا! سنبكي مراراً على أسماءَ نقرؤُها في فضاء مفتوح لراحلينَ لم يتوقَّفوا في قافلةِ العمر ليشهدوا أحلامَهُم، نحن الخاسرون والمهزومون في كل لحظة وعلى كل الحدود، أولئكَ الراحلون الذين داهموني فجأةً حين غفلتُ مُقفِلاً عينيَّ عن مشاهدِ الجمالِ التي تتمتَّعُ بها المدن التركية الممتدة عبرَ الطريق بين إسطنبول وبودروم حيثُ وجهتنا الأخيرةُ على اليابسة التركية.
بودروم التركية، لا أعرف أصلاً واضحة للتسمية ولكن قيل لي إنها تعني القبو أو الأرض المنخفضة، تتشابه بودروم كثيراً مع تلك المدن التي تعتمد على السياحة الأجنبية والداخلية في كل شيء، عند مدخلها جمع كثيف من الأشجار التي تتمنى لو أنك تقفز بينها لترمي كل حمولة الحرب الزائدة بين أغصانها، تلك المناظر للمياه المنتشرة على كتفيّ الطريق لوهلةٍ تشعر أنها قادمة من الجنة الموعودة المُغَيَّبة، في هذه الحرب أيضاً أُجبِر السوريون على القيام بسياحةٍ حول مدن العالم هرباً من الموت، في ذلك الباص الكبير الذي كان يعبّ الشارع الطويل متّجهاً نحو بودروم كانت مشاهدُ الحرب تخرجُ من بين الأغصان متدفٌّقةً على شباك الذاكرةِ راسمةً لوحةً أخرى، أحاصرُ الألمَ بداخلي وأمضي إلى اللامكان، إنَّهُ طريقُ الآلام الجديد الذي علينا أن نمشيهِ حتى النهاية.
ما إن وصلتُ إلى المدينةِ حتى أدركتُ أنَّها قسمان، الأولُّ يقطنُهُ أكابرُ القوم والآخرُ للمعدمين الذين فرَضَ عليهم القدرُ أن يكونوا أبناء المدينة، بينما وقفَ بينهما العابرون أمثالنا، انتشروا على الطرقات وفي مداخل الأسواق، على أبواب الجوامع القديمة وعلى الأرصفة، كان العابرون هم وجهُ المدينةِ الجديد، منذ سنواتٍ وبودروم تحتفي بهؤلاء، تُلقيهِم للبحر في ظلمةِ الليل وتُكمِلُ نومَها على الشاطئ، منذ سنوات وهي تعدُّ العابرين واحداً واحداً وتتركُهُم بعد أن تودِّعَهُم بصمتِ الذهول من عابرٍ وقفَ قليلاً فتورَّطَ بحبِّ المدينة، نتوقَّفُ في شوارِعِها، أحاولُ أن أبحثَ عن بقاياي هنا فلا أجد، الأصواتُ العربيةُ تذكِّرني بأنَّا عابرون لا أكثر، أتَّصِل بالمهرّب فيخبرني أنَّهُ سيعود للاتصال بي خلال ساعتين، تمتدَّ الساعات ومعها يخبو الأمل ويزيدُ الفراغ، نحاولُ أن نجترَّ تاريخنا الشخصي لمن التقينا بهم صُدفةً، كان الجميعُ يحملُ في داخلِهِ كمَّاً هائلاً من الفوضى والقصص التي لا تنتهي عن تلك الحرب بين الحدود، في انتظار المهرِّب لدينا وقتٌ كافٍ لإعادةِ شريط الحياة، هي أصعبُ اللحظات التي تحكي فيها لعابرين معكَ في رحلةِ البحر عن حياتِكَ، تلك التفاصيل الصغيرةُ التي لا تعنيهِم أبداً، أشياءٌ صغيرةٌ لا تعنيهم أبداً ولكنَّها تعني لكَ كلَّ العُمر، وحدي توقَّفتُ عند عبدالفتاح حينَ قال لي إنَّهُ لا يجيدُ السباحة، نهضتُ لفوري أخبر عمر الذي ذهبَ لإحضار سُتَرِ النجاة ليأتِ بواحدةٍ لعبدالفتاح.
ساعاتٌ طويلةٌ حفظتُ خلالَها أسماء العابرين أو جلَّهُم، أسماءَ أولادِهِم، أماكنَ سكنِهِم، تفاصيلَ رحلتهم إلى هنا، المبالغ التي دفعوها، تلك الأشياء كانت تعنيني أكثرَ من الآخرين، ساعةٌ أخرى وانتصف الليل، رنَّ هاتفي ليخبرني المهرِّبُ أن نتحرك واحداً واحداً نحو مدخل السوق حيثُ تنتظرنا سيارةٌ بيضاء صغيرة يقف أمامها رجلٌ قصير القامة، كان اسمُهُ أبو خالد، ما إن اقتربنا خمسة خمسة نحوه حتى أوحى إلينا أن نقتربَ أكثر فركبنا معهُ مُنحشِرين بقلب السيارة الصغيرة، تعبُّ بنا الخطوات كحصانٍ جامحٍ تمرّدَ على راكبِه، عشرون دقيقة قادَ بها أبو خالد السيارةَ كمجنونٍ هاربٍ من حُقنةِ المُهدِّئ وما إن وصلَ إلى الشاطئ الصخري حتى رمانا جميعاً كمُخلَّفاتِ رحلةٍ بحريةٍ بقيَت أياماً تحت الشمس، الإعياءُ تمكَّنَ منَّا تماماً، وما هي إلَّا ساعةٌ أو أكثر حتى توقَّف قاربٌ خشبي صغير بين صخرتين، يقبعُ فيه رجلٌ تركي استخدمَ هاتفَهُ النقال لثواني معدودة قبلَ أن يصيحَ بنا أن نتقدَّمَ نحوَهُ، كان لزاماً علينا أن نخوضَ في البحر قبل أن نصلَ إليه، لحظتَها بدأ الجميعُ يقفزُ بين الصخور، رأيتُ نساءً ورجالاً لم أرَهُم من قبل، كانوا يُمسِكون الأمل بالنجاة، لحظاتٌ وتوزَّعنا في قلب القارب الصغير، أربعةٌ وعشرون نفراً، أمامنا البحر وخلفنا الأمل، لحظاتٌ عصيبةٌ أخرى، اقترب التركي من شابٍّ وقفَ في مقدِّمةِ القارب، أخبرهُ بعربية ركيكةٍ آليةَ السيرِ فيه وهبطَ في مياه البحر الباردة سابحاً عائداً إلى صخور بودروم، كان السائقُ أوهمنا في وقتٍ سابقٍ أنَّهُ خرجَ في الرحلةِ البحرية مرَّاتٍ كثيرة لنكتشفَ بعد خمسِ دقائقَ أنَّهُ مثلُنا يطمحُ فقط بالوصول إلى الضفَّةِ الأخرى، لحظتها لم يكن يعنينا الانتقامُ من نذالتِهِ بقدرِ ما سعَينا للبحثِ عن حلولٍ بعد أن ابتعدَ الشاطئُ عنَّا وابتلعنا البحر، سمعتُ أصواتَ البكاء بدأت تتعالى، كانت العودةُ مستحيلةً إلى الشاطئ فقد صرنا في عرض البحر وتبدو أضواء جزيرة كوس من بعيد، اكتشفنا فيما بعد أنها أضواءُ باخرةٍ تعبُّ البحر بسبب حركتِها، هنا كان لزاماً أن نفتح الهواتف النقَّالة بعد أوامر صارمة بإغلاقها من قبل المهرِّب الذي تركنا على الشاطئ ومضى، اكتشفنا أنَّ القارب يسير بطريقٍ خاطئ، جلس الجميعُ متوثِّبين فوق بعضهم، لا مكان للمستقبل، إنَّهُ الحاضرُ العبثي، يقودُ القاربَ واحدٌ من النفرات، ساعة أو أكثر ولا جزيرةَ في الأفق، لقد أخطأ الطريق، تلعن الحظَّ، ولكن لا مناص هنا، فالبحرُ ككتيبةٍ عسكريةٍ يحاصر المقاتلين، ينفد الوقود، لحظاتٌ أخرى عصيبة وينقلب القارب، يغوص في الماء، يغيب تماماً، ويبقى الراحلون، يصيحون، يستغيثون، لا أحد، لا أحد، تسع ساعاتٍ متواصلة، أعيدَ فيها شريط العُمرِ مرَّاتٍ ومرّات، أستنجدُ بكل شيء، أتمسَّكُ بالحياة بينما فقدَها آخرون كانوا على متن الرحلة، تسع ساعاتٍ متواصلة حاصرني البحر فيها كما حاصرتُ سوريا بداخلي، سوريا الممتدةُ حرباً بين الحدود، حاصرتُ سوريا المُحاصَرَة بالحربِ بداخلي وحاصرني البحر الكبير، شايف البحر شو كبير، كبر البحر بحبك، لقد كان البحر أكبر من كلِّ تصوراتي السابقة حينَ أقسمتُ مراراً بالحب، في البحر نستعيدُ خيباتنا العشقيّة ونبحثُ عن خيوطَ وهميةٍ تربطنا بالسماء، نستدعي الخالقَ العظيم، نبحثُ عن نقاطٍ مُضيئةٍ في ذلك العمر المديد إلى أن وصلنا في خطواتِهِ إلى النهاية، أنا على مقربةٍ من النهاية ولا شيء أكثر، البحر يحاصرني فأهربُ إلى الغيوم، أستنجدُ بطائرةٍ أراها كنقطةٍ صغيرةٍ في السماء، لا أحد هنا، لا أحد هنا إلا البحر، واجهوا الموت بشرف أيها الغارقون، في الحقيقةِ لا يمكن أن تواجه الموت بشرف، الموت عدوّ جبانٌ أرعن يأتي غدراً ليسرق أجمل اللحظات وأجمل الأشياء التي لم تحدث بعد، يأتي على مهلٍ دون أن يعطيك فرصةً لتقول للذين تُحبُّهم وداعاً لا لقاء بعده، لا يمكن مواجهة الموت فهو مُفترسٌ قاتلٌ مُحتَرِفٌ لا يترك أحداً وشأنه، كيف لهم أن يواجهوا الموت بشرفٍ وهم هاربون من الموت!، يصيحون واحداً تلو الآخر بأسماء الله الحسنى، أراهُم في عباب البحر منتشرين، لقد غابوا كما كل الغائبين لتبقى تفاصيلهُم التي رووها قبل وصول القارب الغارق، أتمايلُ كمطروبٍ بين موجةٍ وأخرى، أحاولُ أن أمسكَ السماء البعيدة، أرى الحقائبَ تنتشرُ بجانبي، حقائبُ الغارقين بينها حقيبتي التي ضمَّت ذاكرةَ المُعتَقَل، حملتُ أوراقي معي لتعبر البحر أيضاً، يعودُ الراحلون جميعاً زبداً في الأمواج، يولدون من الزَبَد ولا أحد، لا أحد إلَّا بقايا الوهم في الوطن الجديد، تسع ساعاتٍ متواصلة، تكوَّرتُ على جسدي ورجوتُ الله أن يأخُذني ولكنّ للسماء اختياراتُها، كما كل الأفلام الغريبة يظهرُ قاربٌ من بعيد، لا سبباً لوجودهِ هنا سوى رحلةٍ بحريةٍ تقومُ بها عائلةٌ إنكليزية، ظهر اليوم التالي كُتِبَت لي النجاة عبر حبلٍ رماهُ العابرون لأكون بعد قليل على ظهر البحر منتظراً وصول الناجين واحداً واحداً، ولا أحد، يروي عمر القصة الكاملة التي لا نعرفها، ما إن غرِقَ القارب في الظلام حتى خلعَ عُمر سترةَ النجاةِ وراحَ يسبحُ تحت الموج، يقاومُ الموجَ بالاحتيال وصولاً بعد تسع ساعاتٍ إلى شاطئ جزيرةِ كوس منتصراً على البحر، ما إن يصلُ عمر حتى يتلقّفَهُ رجل إنكليزي فيخبرهُ عمر بالغارقين، ينتفضُ الرجل متَّصلاً بخفر السواحل اليوناني مخبراً إيّاهُم بوجودِ مفقودين وبأنَّهُ سيقومُ بإحضارِهِم إلى الجزيرة، يرفضُ الإغريقُ وصول الغرقى مهدِّدين الرجل الإنكليزي بإدخالِهِ السجن في حال قام بالفعل، إنسانيتُهُ تنتصرُ ويأخذُ قرارَهَ بجمعِ الباقين، ساعةٌ أو أكثر ويبدأ بجمع الغرقى المنتشرين بين الأمواج، ساعةٌ أخرى وتصلُ بارجةٌ تركيةٌ تقلُّنا عائدين إلى مركز الأمنيات في بودروم.
مركز الأمنيات في بودروم مقر للاعتقال للخارجين بطريقةٍ غير شرعية، تحقيقات سريعةٍ للناجين من الموت، يومٌ عصيبٌ آخر يمتدُّ حتى مطلع الصباح، بلا طعامٍ ولا لباس بعد أن التهمَ البحرُ كلَّ شيء مرَّةً واحدة، بصمتُ بكلتا يديَّ كما آخرين ألا نعيد الكرَّةً مرَّةً أخرى، بعد يومين خرجتُ من مركزِ الأمنيات، ذاكرةٌ جديدةٌ يكتسبُها السوريون أينما حلُّوا، ما إن خرجتُ من باب الأمنيات حتى اتجَهت إلى فندق طومان باي في بودروم.
فندقٌ يقعُ على تلَّةٍ مرتفعةٍ بالقرب من فندق حقَّان الشهير، في ذلك الفندق أو لأقل إنه الدولة الطارئة الصغيرة التي تختصر كل الأحلام والآمال بحياة جديدة ترى كلّ من فيها منتقلاً على مهلٍ دون انتظار ما قد يحدث، إنها الحرب التي سببت عطباً أبدياً لا يزول، إنها الحرب التي أثقلتهم بكل القصص التي من الممكن أن تحدث في السجن وخارجه، لولا هذه الحرب لما مات من نُحِب، ولكنه قضاء الله، نعم ربما سلموا إذا كانوا مقاتلين!!!، ترى النزلاء ينظرون إلى كل شيء باهتزاز، إلى كل شيء دون تركيز، هناك إحساسٌ بالعجز، بالشلل، بانتظار المهرّب الكاذب الذي ينتقل بين الجميع زارعاً بسمةً هنا أو ضحكة هناك ليُنسي الناس وعوده بالخروج هذه الليلة، أو التي تليها، جلسنا في الفندق أربعة أيام متتالية كانت كافية لأسمع الكثير من القصص التي لا تُعد ولا تُحصى عن هذه الحرب، ألم أقل إن كل واحدٍ من النزلاء قصّة كاملة متفرّدة لا تشبه غيرها أبداً!!
في كلِّ خطوةٍ كنتُ أستشعرُ ملوحةَ البحرِ في جسدي، حاولتُ مراراً الاتصال برفقة وداماس التي عبرت جسر الملك حسين باتجاه فلسطين التاريخية، كانت فلسطينُ أقربَ لابنتي من البحر، تعبرُ هيَ نحوَ الوطنِ السليب وأعبرُ أنا نحو اللاوطن، مفارقةٌ كبيرةٌ أن أقفَ مراقباً كلَّ ما يحدُث للحظةٍ واحدة وكأني خارجَ الصورة كلِّها، إنّه الجنون الذي أتى بنا ها هنا، مساءُ السابع عشر من أغسطس لعام 2014 تجوَّلَ أبو حاتم المهرب الجديد بين النفرات مخبراً إياهم بطريقةٍ بوليسية أنَّ السفر اليوم، انتابني خوفٌ كبيرٌ من البحر، البحرُ الذي غدرنا مرَّةً واختطفَ من بيننا آخرين أصابهُم الموت وأخطأنا نحن، محاولةٌ أخرى بذات الطريقةِ، هذه المرةُ كنَّا خمسة وعشرين شخصاً، غاصَ بنا قائدُ المركب الباكستاني ساعتين ونصف في البحر قبل أن يضعنا أمام كتلةٍ صخريَّةٍ مُخبراً إيَّانا أنَّ خلفَها القريةُ اليونانية وليغيبَ في ظلام الليل والبحر، مع الصباح سيكتشفُ الراحلون أنَّهُم في تركيا، جزيرةٌ صخريّةٌ صغيرةٌ تقعُ في مواجهةِ بودروم مباشرةً، يلعنون الحظ ولكن لا مفرَّ من العودةِ إلى مركز الأمنيات بعد يومٍ طويلٍ سيأتي في نهايتِهِ خفر السواحل التركي ليقلَّهُم إلى مركز الاحتجاز، إجراءاتٌ سريعةٌ تُماثِلُ ما سبقها بأيّامٍ قليلة، ولتليها محاولةٌ ثالثةٌ بعد أيام أخرى مع مُهرّبٍ جديد.
فندقُ طومان باي مرةً أخرى يوم العشرين من آب، صارَ العابرون هنا مثل الأثاث، لم تعد تهمُّني أسماؤهُم وتفاصيلهم، كنتُ وعبدالفتاح وعمر، ثلاثةٌ نختزل القصةَ كلها، نكتفي بالحديث عندما تتقاطعُ عيوننا، يتحرَّك الجميع، عائلات وشبابٌ وأطفالٌ ونساء، نحو المرسى أمام الشاطئ السياحي حيثُ توقَّفَ يختٌ كبير، هبطَ في قلبِهِ اثنان وخمسون نفراً، كنتُ بينهم مختبئاً بين أرجلِ آخرين، سبعُ ساعاتٍ كاملةٍ صارعنا الموت فيها كلما تمايلَ اليختُ يمنةً ويسرة، سبعُ ساعاتٍ كاملةٍ مشدود الأعصاب حتى وصلَ اليختُ إلى ساحلٍ رملي صغير ترتفعُ في نهايتِهِ سلسلةٌ جبليةٌ قال لنا السائقُ إنَّ خلفها اليونان ومضى في ظلام البحر، لا شيء هنا سوى البحر و الجبل، صعدنا الجبل لنكتشفَ سلسلةً لا منتهيةً من الجبال الكبيرة، لقد وقعنا في الفخِّ الحقيقي مرةً أخرى، سنموت هنا، صاح الجميعُ ولكن لا صدى للصوت، إنَّهُ البحر الكبير، وشايف البحر شو كبير، كبر البحر بحبك، ثلاثةُ أيَّام كاملة قضاها الجميعُ بين السماءِ والأرض، إلى جوار البحر، ولا أحد، قبلَ أن تكتشِفنا سفينةٌ بعيدةٌ لاحظت لهيب النار التي أضرمَها الناجون على الرمل، في صباح اليوم التالي جاءَ خفر السواحل اليوناني مع قرب انتهاء حياةِ الأطفال ليُعيدوا ضخَّ المياهِ في دورتِهِم الدموية.
كانت الحياةُ تعني أن تأتِ السفينةُ من بعيد ظهر اليوم الرابع لتقلَّ العالقين بين جبلٍ وبحر، كانت الحياةُ تعني قارورةَ ماءٍ صغيرة، السفينةُ كانت تعبّ البحرَ متَّجهةً إلى جزيرةِ تيلوس، إنَّها الحربُ التي دارت رحاها على ساحاتٍ أخرى، هناك تجدُ الانكسار في عيون الهاربين، حالةٌ عصيَّةٌ على الفهم حين تمشي أولى خطواتِكَ باتجاهِ مخفر الشرطةِ اليوناني الصغير في جزيرة تيلوس، يتقدَّمُ الناجون واحداً واحداً للإدلاء ببياناتِهِم، ليلةٌ بالقربِ من البحر في أمانٍ من الخوف قبلَ أن نستيقِظَ صباحاً على وقعِ خطى الشرطةِ وهم يوزِّعون ورقةَ الطرد «الخارطية» التي ستكون هويَّةً لنا خلال الفترة القادمة، كان الطريقُ إلى أثينا معبَّداً بالموج، دخلتُها مرورا برودس في الخامس والعشرين من أغسطس بعد رحلةٍ مريرةٍ استنزفت منِّي الصبر كلّه.
أثينا لا تختلفُ كثيراً عن مدن الشرق العربي، هكذا انطباعي عنها، اعتدتُ الجلوس في مقاهيها، صارت جزءاً من رحلتي، مناطقُها ذات الأبجدية المختلفةِ في أسمائِها صارت سهلةَ النطقِ عندي، كاتوباتيسيا، آخرنون، كومانيتسا، سالونيك، فكتوريا، أمونيا، إيتيكيه، تلك المناطقُ سترسمُ ملامحَ على وجهي، بدأتُ أرى العابرين وقد اتخذوا سبيلَهُم في رحلاتٍ غريبةٍ نحو المنافي البعيدة، حاولت العبور بأوراقٍ مزوَّرةٍ من المطار الرئيسي في أثينا ومن مطارات الجُزُر البعيدة والقريبة، اعتدت الجلوسَ في مقاهي شارع « آخرنون» و»أُمونيا» و»كاتوباتيسيا» و»سانتيغما» و»فكتوريا» قبل أن أهتدي مع آخرين إلى رحلةِ شاحنةٍ بلغاريةٍ، أخفانا سائقُها فوق صندوقِ العدَّةِ بحاجزٍ مُصطَنَعٍ يفصلُ نهاية القاطرةِ عنه بخمسٍ وخمسين سنتيمترا ليمتدَّ على عرضِ الشاحنة، في تلك المسافةِ جلسَ خمسة عشرَ رجلاً، بعضُهُم أصابَهُم الإغماء خلال الرحلة وكادوا أن يفقدوا حياتَهُم، كنتُ واحداً منهم، في لحظاتي الأولى في الشاحنةِ هممتُ بالهبوطِ إلى الأرض ولكن هناك ما دفعني للبقاء رغمَ يقيني أنَّ الموت يتربَّصُ بأطراف الشاحنةِ التي اجتازت خطوط التفتيش في الميناء، ثلاثةُ حواجز خلف بعضها عبرنا منها، كنتُ على طرفِ الشاحنةِ أسمعُ حركةَ الشرطةِ وأحاديثَهُم الجانبية قبلَ أن ندخلَ في مرآبِ السيارات بقلبِ الباخرةِ الكبيرة، رحلةٌ بحريةٌ أخرى، هذه المرة كانت السفينةُ تحمينا من البحر، الرطوبةُ الخانقةُ والظلامُ المهيمن وأصواتُ المحركات الكبيرة للباخرة تقتل الضجيج، وحدهُ الموت بدأ يتسلل عقِبَ مرور خمس ساعات في الرحلة، أحدُ العابرين أصابتهُ نوبةُ ربو، كان القرار بين الجميع أنَّ من يتعب لن ينقذه أحد، سيواجِهُ قدَرَهُ المحتوم، اختناقاتٌ داهمتنا جميعاً بقيَت آثارُها على حديد الشاحنةِ ربما حتى اليوم، نحن أبناءُ الشاحنةِ وأبناء البحر، تسعةَ عشرة ساعةً في الشاحنةِ المُغلَقةِ تماماً من أثينا إلى باري الإيطالية عبر كومينيتسا اليونانية، كان ذلكَ في الخامس من أكتوبر لعام 2014.
في نقطة منسية على الطريق الدولي الواصل بين باري الإيطالية ومينائها الكبير فتحَ السائقُ صندوق العدَّةِ في خلفية السيارة لنهبطَ واحداً واحداً نحو الأرض، كانت الأرضُ تعني لنا الرحمَ الجديد، شعرتُ بعظامي تتفكَّكُ وأنا أفردُ قدمَّيَّ قبل أن أختفي مع آخرين في الغابةِ الممتدةِ على كتفِ الطريقِ الواصلِ بين الميناء والمدينة، تلك المدينةُ تعادلُ ستة كيلومترات أو أكثر بقليل قطعناها مشياً على الأقدام حتى وصلنا إلى المحطةِ الرئيسة للقطارات، كان علينا أن نحجزَ إلى ميلانو حيثُ المحطةِ الكبيرة في إيطاليا التي يتوزَّعُ منها العابرون نحو مدنِ الشتات، القطارُ يمتدُّ بنا ونحن مرميُّون في مقصوراتِهِ خائفينَ من مداهمةِ الشرطةِ للمكان، نحنُ العابرين بطريقةٍ غير شرعية، شرعيو الوجود و الهوية، عادَ بي الشريطُ الذي امتدَّ بين الثاني عشر من أغسطس حتى السادس من أكتوبر خلال سبعِ ساعاتٍ هي المسافةُ الزمنية الفاصلةُ بين كورفو و ميلانو.
تخطيط: حسن موسى
أوراقي البيضاء، أسماء المهربين، الذين لم يحالفهم الحظ بالوصول إلى الضفة الأخرى، فندق طومان باي، مراكزُ الأمنيات، الشرطةُ في كلِّ مكان، جسر الملك حسين، فلسطين، إسرائيل، سوريا، الثورة، المقاتلون، مفرداتٌ كثيرةٌ عادت كلها بعد أن ابتلعها البحر.
في ميلانو بحثتُ عن ذاتي فلم أجدها، هناكَ أنا عابرٌ أيضاً، افترقَ الجميعُ ومضى كلٌّ إلى وجهتِهِ الجديدة، لا شيء يدفعني للانتظار هنا، أزمةٌ قلبيةٌ مفاجئةٌ أوقعتني أرضاً، كان لها أن تحضُر هكذا دون استئذان، يومٌ جديدٌ قضيتُهُ في المشفى بعد أن أسعفني شابان مصريَّان أوجدهما القدرُ بالقربِ مني في مركزِ المدينة، في ميلانو لا مفاجأةَ باللسان العربي، كنتُ حينَها أسيرُ بمحاذاةِ الموت قبلَ أن أهرب من المشفى بعد أن سمعتُ الطبيبَ يتحدَّثُ مع الشرطةِ عن وجودِ مهاجرٍ غير شرعي.
أزقةُ ميلانو اليوم تعرفني وتُدرِكُ أنَّ خطواتي فيها عابرةٌ ككل العابرين، لا أحاولُ أن أتورَّطَ بحبِّ المدينةِ فهنا لا نتورَّطُ بحبِّ مدنٍ لا تجمعنا معها ذاكرة، الذاكرةُ التي احترقت مع مدننا هناك في الشرق، وحيداً أعبرُ بوابةَ المطار الرئيسي في ميلانو بعد أن استخرجتُ هويَّةً مزوَّرةً باسم غريب، عندما تكون مهاجراً غير شرعيّ تعرفُ كيفَ تصلُ لما تريد فقد انتصرت على البحر والبر معاً، عندما تفقدُ بيتكَ كلُّ بيوت العالم تغدو بيتك، وعندما تفقدُ وطنكَ فكل الطرقِ مسموحةٌ كي تحصلَ على أرضٍ جديدة، ناموس العالم وسوريا في ميزانٍ واحد وحينَ خسر العالمُ سوريا خسِرَ نفسه، هذه المعادلةُ في ذهني وأنا أعبرُ بوابةَ مطارِ بروكسل الدولي في الواحدةِ بعد منتصفِ ليل السادس من أكتوبر.
مظاهرِ الإعياءِ تبدو واضحةً عليَّ وما إن أرى الشرطةَ حتى أذهبُ نحوهُم، الأصواتُ في عقلي الباطن تتمازجُ مع بعضها فلا أدركُ حقيقةً ما يقول الشرطي بإنكليزيةٍ ركيكة، حريّة، إسقاط النظام، الثورة، المهرِّب، الشاحنة، الاختناق، البحر، الموج، الجوع، البرد، النار، الأوراق، أصواتٌ كثيرةٌ تعلو قبل أن أفقدَ الوعي تماماً لأصحو بعد بضع ساعاتٍ في غرفةٍ صغيرةٍ مكتوبٌ على جدرانِها عباراتٌ عربية، أدركتُ لفوري أنَّ هناك عابرين مرُّوا من هنا قبلي.
الخامسةُ والنصف فجراً يوقظني الشرطي ويرشدني عن إجراءات اللجوء وضرورةِ الذهابِ إلى مبنى «الكومساريات» في محطة الشمال ببروكسل، لم ينتهِ اليومُ إلا وكنتُ مع آخرين في مخيَّمِ بيرزيت لإيواء اللاجئين.
«أنا في مخيَّم إيواء اللاجئين في بيرزيت»!
ضربٌ من الجنون، إنَّهُ المستحيل تماماً، ذلكَ الذي لم أتوقَّع حدوثُهُ يوماً حتَّى لو أخبرني به هُدهُد سليمان بأنَّهُ خبرٌ يقين، فما الذي يأتي بي هنا أنا السوري الخارجُ من رحمِ الشرق حيثُ جذوري هناك، تلكَ الجذورُ التي ضُرِبَت في سوريا قبل ولادتي بأشهر في مدينةٍ اسمها حماه حيثُ أبصرتُ النور عقِبَ مذبحةٍ اجتاحت المدينة فبدأت حياتي بالخوفِ من الشوارع المُظلمة والمُضاءة في زواريب المدينة، تلكَ التي وشمَها الرصاصُ الذي داهمَ المدينة بعدَ أن حاصرها الموت فظلّت أرواحُ الساكنين والمنفيين والراحلين والقتلى تطوفُ راجلةً وراكبةً وسابحةً بأسماءٍ مُستعارة يُخفيها أهلُ المدينةِ تحت عباءتها.
إرباكُ المكان في ذاكرتي رافقني لسنواتٍ طويلة وها أنا اليوم أخطو خطواتي الأولى في مكانٍ لم أتوقَّع وصولي إليه يوماً، سياحةً أو عملاً، فبعدَ أن أكَلت عمري المنافي وأنا أُكمِلُ عامي الثاني بعد الثلاثين وصلتُ إلى هنا بعد رحلةٍ مجنونةٍ رافقني الموت فيها كظلِّي فكان حارساً للحياة في داخلي، الموتُ كانَ رفيقاً لا يُخطئني رافضاً اصطحابي عبر رحلاتِهِ التي أوقفها للسوريين في كل الأساليب خلال السنوات الأخيرة، حاملاً ذاكرتي المُرهَقَة بمشاهِد الزنازين وساحات المُعتَقل وشوارعَ وإناراتِ وأبنية وروائحَ المُدُن الكثيرة وغرف الفنادقِ رخيصة الثمن التي عبرتها في الشرق والغرب، لم يسحرني مكان فقد ظللتُ خارجَ إطاراتِهِ كلِّها، إلَّا هنا في مخيَّم بيرزيه الذي يُكتَبُ في الفرنسية بيرزيت بلفظٍ مُقاربٍ لمدينةٍ فلسطينية تضمُّ جامعةً أكاديمية عريقة، عندما أخبرني الموظَّفُ في مفوضيَّة اللجوء عن خط سيري الذي يبدأ من العاصمة بروكسل انتهاءً بمحطة بيرزيت، كانت مشاهدُ طريق الآلام الذي عبرته وصولاً إلى هنا تمرُّ حاضرةً فتَزيدُ من إطباقِ الحاجب الحاجز على رئتيَّ، إنَّهُ العبث حين حملتُ حقيبتي الصغيرة بانتظار القطار متتبِّعاً خريطةً مرسومةً بدقَّةٍ سلَّمني إياها الموظَّفُ الذي لا يهتمُّ عادةً بقصص العابرين، كنتُ أودُّ لو أصرخ بوجهِ كلِّ من قابلت: لقد أتيتُ بالبحر، لقد غرق قاربنا وسبحتُ أربع عشر ساعةً متواصلة، لقد مات آخرون وأنقذني الموت من الوقوعِ فيه!، ولكنِّي اكتفيتُ بمشاهدةِ الطريق عبوراً إلى المحطّةِ الأخيرة.
قررتُ منذ اللحظةِ الأولى لصدمتي ألّا أتعاملَ مع المكان كسائحٍ جاء لالتقاط الصوَرِ، لستُ عابراً في رحلةٍ ستأتي بعد أسبوع، ذاكرتي تُحاوِلُ استنهاضَ نفسها وأمام ذلكَ أمارِسُ دكتاتوريتي عليها قامعاً إياها مُعيداً إحساسَها إلى اللحظةِ التي أعيشُها الآن حيثُ بدأتُ أهبِطُ بهدوءِ من أيقَنَ أنَّ لا عودةً أبداً لكلِّ الأماكنَ التي عبرها يوماً، من ضفَّةٍ إلى أخرى كنتُ أنتقلُ رفقةَ آخرين لم أحفظ أسماءَهُم وصولاً إلى سيارة بيضاءَ تحملُ شعارَ الصليب الأحمر الدولي، وقفَ أمامها شابٌّ يحملُ أوراقاً تتضمن أسماءَ الواصلين الجُدُد مع حلول الظلام تماماً حيثُ لم أستطع استكشاف المكان والسيارةُ الكبيرةُ تعبُّ الشارعَ كحصانٍ عرَفَ مضاربَ قبيلته.
عشر دقائقَ أو أقلَّ من ذلكَ كان جسدي يحاول مراراً خلالها التخلُّص من ملوحة البحر ورائحة الغارقين فيه إلى أن عبرنا بوابة ما سيُعرَف لاحقاً «الكامب»، شارعٌ طويلٌ لم أتميَّز جوانبهُ ليلاً لأقف بعد لحظاتٍ أمام موظَّفةٍ حاولت بكلِّ اللباقةِ الممكنةِ التخفيفَ من وحشةِ المكان وغربته الأولى من خلال طرحِ بعض القوانين الأساسية للحياةِ في أرجائِه الواسعة، لتقودني بعد ذلكَ إلى غرفةٍ تشاركتُها مع خمسةِ أشخاصٍ غيري، كانت الليلة الأولى الأشدّ رهبةً ووجعاً فقد قطعها سيلٌ من الكوابيس المتلاحقة في غرفةٍ تمتدُّ لستَّةِ أمتار طولاً وخمسةٍ عرضاً توزَّعت بها الأسرَّةُ فوق بعضها البعض، لينقسمِ قاطنوها إلى أعراقٍ لا تتحدَّثُ أبجدبَّةً واحدة فكنتُ خلال الوقت المستقطعِ بين كابوسين أتلصَّصُ على الآخرين، أُراقِبُ هيئاتهم ناظراً إلى جدران هذه الغرفة التي عبرها آخرون قبلي من عشرات السنين، كلُّهُم كانت لهم قصصٌ عن القدوم وأحلامٌ عريضةٌ للمستقبل، من هنا كان مفتاحُ اكتشاف المكان، قرّرتُ أن أتعامل معهُ مجدّداً كعابرٍ يسعى لأرضيَّةٍ ثابتة فرُحتُ صباحاً أمشي في شوارعِهِ المتوازية طولاً الملتفَّةُ في نهايتِها حول سبعةِ أبنية حملت أرقاماً متنوِّعة بينما كانت هناك في نهايتِهِ أكواخٌ متراميةٌ تقطنها العائلات.
لم يستغرق الصباحُ طويلاً لأكتشِفَ أنَّ الكامب كانَ مقرَّاً لوحداتٍ عسكريَّةٍ قبلَ أن يتحوَّل إلى مركز لإيواء اللاجئين من كلِّ بقاعِ الأرض، ولأنَّ علاقتي مع الحياةِ العسكرية تقومُ على التضاد والتنافر زادَ ذلكَ الأمر وحشةَ المكان في داخلي، فكلَّما مررتُ بالقربِ من سارية العلم تخيَّلتُ أولئكَ اللابسين للبدلة العسكرية في الشرق حيثُ يعيثونَ فساداً ونشراً للموت في فضاءاتِهِ الواسعة، رائحةُ الذكورةِ أزكمت أنفي فتفاصيلُ الجيشِ لا تحتملُ الأنوثة في عقلي الباطن وفي محاولةٍ لبناءِ علاقةٍ مع المكان ذهبتُ إلى مكتبِ الاستقبال وطلبتُ دفتراً وقلماً وشرعتُ بكتابةِ روايةٍ جديدة!
محاولةٌ لبناءِ مكانٍ جديدٍ على الورق يضمُّ بين جنباتِهِ الجانب المضيء من الحمولة الزائدة للذاكرة وأحلامَها الوردية في اتِّصالِها الأولِّي مع القارَّةِ الأوروبية، أرضُ الحريَّات، صفحةٌ، اثنتان، خمسة، عشرة، لأتوقَّفَ نهائياً بعد أن اكتشفتُ بمحضِ الصدفة المطلقة أنَّ هذا المكان كان أيضاً مقرَّاً للنازيَّةِ خلال الهولوكست، الهولوكوست الذي حمَلنا وِزرَهُ رغمَ أنَّ لا علاقةَ مُباشرةً لنا به، رائحةُ شواء الأجساد تسيطر على المكان من جديد، صرخاتُ الضعفاء المكلومين، أطفالٌ، رجالٌ، نساءٌ، شيوخ، الكذبةُ التاريخية للهولوكست، هل حدَث، لم يحدُث، أسألُ الترابَ، النصب التذكاري للمحرقة، أنظُرُ في وجوهِ الموجودين، لا أحد يعلم، لا أحد يهتم، وحدي كنتُ أحاولُ اكتشافَ كل التفاصيل التي يكمُنُ فيها الشيطان، التفاصيل لم تكن تعني سواي، تلك التفاصيل التي ستتوهُ لاحقاً في زحمةِ المكان وتراخي الزمان، الزمان مكوِّنٌ آخرَ للمكان يمرُّ هنا ثقيلاً بطيئاً من المُمكِنِ إمساكُهُ في وجوهِ العابرين وفي قصص الحبِّ الرخوة والعداواتُ التي لا سبَبَ لها، إنَّها اختناقات المكان وتضاؤل الزمان، وحدَها الثرثرةُ تبقى في موجات العدد الهائلِ للقابعين في هذا المكان.
على عجلٍ تُبنى الصداقات بين الأشجار العالية المحيطةِ بالمكان، وسريعاً يبدأ البوحُ عن أحلامِ المستقبل والشوقِ للقيا الغائبين، كنتُ كلَّ صباحٍ أنظر إلى المرآةِ أسألُ نفسي عن حالِها، أُلاحظُ بعض الشعرات البيضاء التي بدأت تشتعلُ في رأسي، وزني أيضاً انخفضَ إلى النصف، أنا جزءٌ من المكان الآن مهما حاولتُ التجرُّدَ منهُ وافتراض كونه مرحلة عابرة سيليها ما أُريد، في الواقِعِ لم يكن كذلكَ فقد أحرقتني بقايا الجمرُ في أفران الهولوكست الضائعة.
الأيام تتشابَهُ فيما بينها في تلك القطعة الجغرافية التي تقعُ في مدينة لييج بين مركزَي «أونص» و»ورام»، طوابيرُ الطعامِ في الوجباتِ الثلاث، الثقافاتُ الاجتماعية وعاداتُها المختلفة بين شعوب الأرض الطارئة على هذه الأرض، اللهجات والألسنُ التي ستُحاولُ مراراً حفظَ كلماتِ التحيَّةِ فيها وستفشل مراراً لأنَّ الأرضَ مهزوزة غير ثابتة ومستقرة، ستحاولُ أيضاً أن تُغيِّرَ من عاداتِك وستفشل، مثلاً ستجرِّب أن تتكلم بصوتٍ منخفِض ولن تضبِط نفسك، ستحاولُ أن تضحكَ بطريقةِ الابتسام ولن تنجح، جغرافية الفكر في المكان ستفرِضُ نفسها عليك ولن تستطيع إخراجَكَ من جلدك مهما حاولت التصنُّع فأنت طارئٌ هنا لا أكثر ولا أقل.
العلاقةُ مع القائمين على المكان أيضاً جزءٌ من الجغرافية، تلكَ الرحلةُ التي تبدأ بترتيب الأوراق والمقابلات والفحص الطبّي وصولاً إلى محاولاتِكَ بناءَ علاقاتٍ صحيَّةٍ تمتدُّ طويلاً مع العاملين فتصطدِم بقوانين صارمةٍ تُحذِّرهُم من لقائكَ خارجَ المكان الذي لا يراكَ إلا تفصيلاً عابراً فيه بينما ترى نفسكَ حين يسكن الليل طريداً وحيداً دون صداقاتٍ لتناجي الراحلين البعيدين وتسأل نفسكَ كعربيٍّ مراراً «لماذا أبوابُ مخيَّم إيواء اللاجئين في بيرزيت أقربُ لي من أبواب مكَّةَ المكرَّمة»، لن تجدَ جواباً واحداً وإلَّا فماذا تعني العروبة؟
مراراً و أنت تقطَعُ الطريقَ ذاهباً وعائداً إلى العاصمة بروكسل لإنجاز الأوراق المطلوبة للاعتراف بكَ كجزءٍ من المكان، ستسأل نفسَك «لو قالَ لكَ أحدُهُم منذ خمس سنواتٍ أنَّكَ ستكون هنا في مخيّمٍ لإيواء اللاجئين، لرددتَ عليه فوراً: ما كلُّ هذا الجنون»، ستبتسمُ وتخبِر نفسَكَ أنَّ الجنونَ غدا حقيقةً وصار واقعاً وعبَرتَ ككلِّ العابرين من ذلكَ المكان الذي مرَّ عليهِ آخرون وتعاقبَ عليهِ اللاجئون.
لن تكون انتقائياً في ذاكرتِكَ مع ذلك المكان، مثلي تماماً، ستفتحُ الذاكرةَ على مصراعيها لتُشبِعها بكلِّ الصور وحين سيمرُّ بعد ذلكَ ذكرُ الكامب ستأتي المشاهدُ دفعةً واحدةً كالصلوات التي لا يُمكنُ تأديتُها بنقصان، فكيفَ لي أن أنسى أنِّي استقبلتُ ابني حمزة في المنفى بينما وُلِدَ هوَ في منفى آخر بعيداً هناك حيثُ حمَّلتُهُ وجعَ غيابي الأوَّل حين أبصرَ النور، كيفَ لي أن أنسى أنّ الكامب كان شاهداً على فصول روايتي الأخيرة «طريق الآلام»، كيفَ لي أن أختزلَ كلَّ تلك التفاصيل وأحلُمَ بعودةٍ وكلُّ الذينَ أُحبِّهُم ماتوا في الحرب.
لم أُخبِركُم أيضاً أنِّي وصلتُ الكامب «مخيَّم إيواء اللاجئين في بيرزيت» في السادس من تشرين، أكتوبر لعام 2014م، السادسُ من تشرين الذي ارتبطَ في عقلي الباطن بحربِ تشرين على الجبهةِ السورية والمصرية، والسادسُ من تشرين هوَ يوم زواجي، وقد صادَفَ حينَ وصلتُ إلى بيرزيت يومَ الوقوفِ في جبل عرفة حيثُ يؤدِّي المسلمون فريضةَ الحجِّ في مكة!!
وصلتُ إلى المخيَّم بحقيبةٍ صغيرةٍ اشتريتُها من بروكسل، لم أضع فيها شيئاً سوى ملفّ اللجوء الذي حملَ رقمي واسمي الكامل وورقةً فيها صورتي الشخصية وبياناتٌ أوليّة لأكون رقماً في متتاليةً عبرَت وستظلُّ تعبُرَ ذلكَ المكان الذي شهِدَ الهولوكست على أرضِهِ ويشهَدُ نتائجَ الهولوكست الذي يحدُثُ على أرضِ آخرين، قناعةٌ واحدةٌ نقلتُها معي في كل الشواطئ التي غزوتُها، قناعةٌ واحدةٌ ظلَّت عالقةً فوق ملوحةِ البحر هي أنَّ: كل الأوطانِ أرضُنا بعدَ أن ضاعَت سوريا.