من اللعنة إلى التسبيح
المادة الوثائقية التي نشرها الشاعر نوري الجرّاح بعنوان اعترافات أنسي الحاج في العدد 49 في شهر فبراير 2019 من مجلة “الجديد” تمثل مناسبة طيبة لقراءةٍ استعادية لبواعث شعر أنسي الحاج ورؤيته ومحطات تجربته في كتابة قصيدة النثر بشكل خاص. وللتعرف على مشغّلات تلك التجربة ومصادرها ومؤثراتها وتأثيرها أيضاً.
تبدو كلمة “اعترافات” استباقاً عنوانياً لما يريد نوري الجراح أن يوجّه به قراءة القارئ، في تصنيف أقوال أنسي خلال جلسة لندنية مغلقة لم يمنع مرور على وقوعها أن تظل ذات أهمية كبيرة، واستعادتها ذات توقيت دال لما يثار في مجال قراءتها من تساؤلات وجدال، فأسئلتها تظل حاضرة وضرورية ومشروعة.
ثمة نقطة جوهرية هنا تتصل بتحولات أنسي مما أسماه “اللعنة” التي تمثلها تجربته في ديوانه الأول “لن” 1960 إشارة إلى تمرده، و”التسبيح” النوراني بالحب الذي تنطوي عليه قصيدته الطويلة أو ديوانه “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع″ 1975.
وقد حسبتُ أن الاعترافات وصف من نوري الجراح، لكني وجدت أنسي نفسه يستخدمه في مواضع عدة من الوثيقة، بينما تتردد كلمة “شهادة” كذلك في وصف نوري الجراح في تقديمه للنص أو في كلام أنسي أيضاً.
الاعترافات تهيئ القارئ لتسلّم ما يخرق العادة والأعراف السائدة. وهذا جزء من الظن بأن ما فعله أنسي في الشعر خرق كبير، ما حدا بنوري الجراح أن يصفه بأنه “مؤسس″ وأن تجربته “فاتحة” لأنه الشاعر “الأكثر راديكالية وطليعية في العربية” وهذا موضع نقاش دون شك، لكن أنسي لا يكفّ هو أيضاً عن نسبته لنفسه ضمن التركيز على أناه وذاتية تجربته وذلك من حقه كواحد ممن اجترحوا هذه القصيدة التي هي من عمل شاعر ملعون حر يخترع اللغة، ويضيق بالعالم، وهي بنت عائلة من المرضى بالحرية “كان رامبو أولهم” كما جاء في مقدمة “لن” التي نالت شهرة أقلقت أنسي نفسه لأنها ظلت تلاحقه رغم تغير الكثير من قناعاته بعد كتابتها.
استوقفني تشخيصه الجريء والذكي لمشكلات قصيدة النثر وأزماتها الجمالية. فيرى “أن مشكلة قصيدتنا أنها تتشابه مع أنواع ليست منها”، ويسمّي من تلك الأنواع المقالة والخاطرة
ربما وصلنا من طبيعة الاعترافات الفضائحية كما هو في أفق القراءة والتقبل تصريحه بأنه كتب قصائد في صفحات نسوية كان يحررها، ووقّعها باسم “ليلى” كي يسدّ النقص في المساهمات النسوية. وكذلك “اعترافه” بأن الحب هو المحرك الأول لكتابة نصف ديوانه الأول الأشهر بين إصداراته. فيما كنا نظن أن التمرد الذي يذكره هو أيضاً في النص كان لافتة الديوان المتميز بالتوتر اللغوي والعاطفي والثورة الشكلية في الكتابة الشعرية.
شاعر حب: هكذا يريدنا أنسي أن نقرأه. “الحب مرَضي والحب شقائي والحب موتي” كما قال مرة. وهنا يركز على هذه الثيمة التي انتقل شعره من التمرد إلى التسبيح بسببها. هنا يربط بين تحوله العاطفي ونضج علاقاته بالمرأة، وبين تطور كتابته الشعرية.وهذا ما لم يلتفت إليه النقاد كما يقول.
بعد قضية الحب كمفتاح لقراءة قصائده يلفت أنسي قارئه إلى صلته بمجلة “شعر” التي لم يكن صدورها عام 1957 حدثاً عابراً في الصحافة الثقافية، بل كانت مدرسة وتياراً وتجمعاُ ذا مشروع تحديثي، تأسس على قاعدة قصيدة النثر، لكنه شمل شعراء من منابت شعرية أسلوبية مختلفة؛ فالتمَّ في فضائها وحول مناخها شعراء نثر شعري وقصيدة نثر ووزنيون وشعراء شعبيون ومترجمون ونقاد شعر. وهو يعترف هنا بفضل المجلة على انتشار شعره ونمو علاقاته بالشعراء.
واضح هذا في قوله إن “لن” لم يكن لينال شهرة وانتشاراً لولا صدوره عن منشورات مجلة “شعر”. لكنه يناقض نفسه حين يقول عن تجربته في الديوان من بعد “إن إحساسي بأنني أُقدم على كتابة عمل لم يُكتب سابقاً”! وهذا يتسق مع تكراره بأن تجربته شخصية لا أثر لأحد فيها، وشعره شخصيّ جدا. وأن جذوره عربية رداً على من ربط شعره برامبو أو آرتو، ربما كانت تلك المكابرة بدافع ردّ بعض الكتابات النقدية التي تعلن أنه متأثر بجبران الذي قال في الندوة إنه كان يشعر بالضجر منه ويصفه بأنه “كاتب يخيم عليه السكون”. مع أن تأثيرات جبران جليةً في مجمل كتاباته لاسيما بواكيره. وهو ضرب من محاولة قتل الأب الشعري لأن جلَّ تأملاته في الحب والشذرات التي كتبها من بعد في “خواتم” مثلاً فيها أصداء جبرانية واضحة في النورانية المغلفة بالمحبة والعشق المطلق والتأمل الكوني واللغة التي تحولت إلى الشفافية بل الغنائية أحياناً. ولنلاحظ هنا أن أنسي يدافع عن الغنائية “التي تلحق الشفافية وحين تكون شفافاً تصبح مثل النهر السلس ولا تعود صادماً ووعراً”، وهذا جزء من تشخيصه الصريح والجريء لانتقاله ممّا يسميه “الوقاحة” أو اللعنة والشتيمة إلى التسبيح، فهدأ الحصان الجامح الهائج فيه وانصاع لما يسمّيه الضوء.
وثمة مفارقة أخرى، فهو يقول إن شعره شخصي جداً “لم يتأثر بأيٍّ كان، طلعتُ لوحدي وأنا أنا”. فيما كرّر في النص تسمية شعراء مؤثرين قرأهم مثل فؤاد سليمان وإلياس خليل زخريا واطّلع على أشعار منشورة لجبرا إبراهيم جبرا والماغوط وتوفيق صايغ.
وتكتمل المفارقة عند حديثه عن قصيدة النثر كشكل، فهو لا يوافق على القول بأن قصيدة النثر “نص شخصي”، فذلك يضيّق حدودها كثيراً كما يقول. فيما وصف شعره قبل ذلك بأنه شخصيّ جداً، وأرى هنا خلطاً بين الشخصي والذاتي. الذاتية هي التي يقصدها أنسي بدليل أنه يضعها قسيماً ضدياً للموضوعية، ويستشهد بقصائد له يصفها بأنها موضوعية في ديوانه “ماضي الأيام الآتية”.
ولا بد لي أن أشير إلى تشخيصات مهمة تدلّ على وعي متفرد بالكتابة الشعرية لدى أنسي الحاج عبر تجربته وثقافته وفكره. وسأذكر هنا رأيه في الموسيقى والوزن والإيقاع، فهو يسبق زملاءه في التفريق بينها. وهو منتبه لوجود موسيقى أو إيقاع خاص في قصيدة النثر. فكما أن الأوزان وضعت استناداً إلى قصائد، فإن إيقاعاً ما أبعد مما عُرف بالموسيقى الداخلية موجود في قصيدة النثر التي يقول إنه كتبها قبل معرفته بأنها قصائد نثر، أي أنها سبقت المصطلح والمفهوم والتداول. وبناء على ذلك يرى أن ثمة أوزاناً لا إيقاعات فحسب في قصائده النثرية، وهو وإن لم يبين ذلك بوضوح في الندوة نظراً لطبيعة اللقاء الصحفية ووقته المتاح، فإن إشارته بحاجة لدراسة إيقاعية تتحرى ما رأى أنه موسيقيّ وزنيّ في شعره حدَّده بأنه أوزان شخصية وغير تقليدية.
وأحسب أنه يتحدث هنا عن إيقاعات ممكنة في قصيدة النثر كإيقاع التضاد أو التوازي أو إيقاع التكرار مثلا، وقد قمت شخصياً بتحليل قصيدته “خطة” إيقاعياً وخطّياً، وبما يكشف بنية منتظمة جداً في نصوصه، وهيكلية مدروسة في جمله الشعرية مزاوجاً بين النظام والفوضى بشكل متقن؛ فلا يحسبه القارئ المتعجل ذا استراتيجية ما، بل منصاعاً لفوضى لغوية وهوس بالغرابة والغموض. وذلك منشور في كتابي “مالا تؤديه الصفة”، وأخرى هي “فتاة-فراشة-فتاة) في كتابي “حلم الفراشة: حول الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر”، وتوصلت حتى في دراستي عن قصيدة من ديوانه “ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة” إلى تعيين بعض إيقاعاته، لكنني لم أعثر على تلك الوزنيّة الخاصة التي يعنيها لأنها غير متعيّنة في قصيدته.
واستوقفني تشخيصه الجريء والذكي لمشكلات قصيدة النثر وأزماتها الجمالية. فيرى “أن مشكلة قصيدتنا أنها تتشابه مع أنواع ليست منها”، ويسمّي من تلك الأنواع المقالة والخاطرة والفكرة والقصة القصيرة- يقصد هنا القصيرة جداً، أو الومضات بدليل ربطه لها بزكريا تامر- ويرى أن علينا أن نزيل الالتباس والإبهام المحيط بها. ولذا يعلّل كتاباته الغامضة، وبنى قصائده ولغتها بأنها محاولة منه لتصعيب قصيدة النثر على الابتذال، وعلى من يتوهّم أنّها مجرد نثر يمكن كتابته بسهولة. وهذا مأزق قائم حتى الآن، وهو سبب انتشار النّصوص الهابطة المتوهمة أنّها تنتمي لقصيدة النثر.
ويبرّر مطلبه ذاك أيّ إزالة الالتباس عنها بكونها تفتقد لما يسميه الحماية الخارجية التي يوفرها الوزن للقصيدة التقليدية التي أرى أن كتابها وقعوا تحت وهم أن الوزن كافٍ لخلق قصيدة، في موقف مضاد لوهم كتاب قصيدة النثر.
أما المعالم غير الواضحة لمسائل تتعلق بإيقاعات قصيدة النثر ودلالاتها وصلتها بالسرد وسوى ذلك فيجد أنسي أنها سوف تتبين بتراكم النصوص وما تفرزه من تلك الملامح. وهذا يعني أن تتاح الفسحة الكافية لقصيدة النثر القصيرة عمرياً قياساً لعمر الأنواع الشعرية التقليدية. ولا بد من التنبيه على ما فهمته من تفريقه بين “الشعر” بكونه كتلة ذات قواعد وتقاليد، و”القصيدة” التي تؤسس تقاليدها وتنزاح عن الشعر السائد.
سيكتشف القارئ أنه مخدوع في قراءة شعر أنسي؛ وأن أوهاماً كثيرة سادت الحكم على تجربته ومكانته بين كتاب قصيدة النثر، لأنه يفهم مآزق كتابة قصيدة النثر وعيوبها الجمالية دون حماسة مجانية، بدليل أنه يخلص إلى القول بأن الشكل لا يهمّه بل يهمّه أولاً “أن يكون ما تكتبه شعراً”، وأن نصوصه تستجيب للإيقاعات رغم فوضاها الظاهرية.
لا يقدم أنسي في “اعترافاته” هذه مؤلفاً عن قصيدة النثر، كي نمضي في التدقيق حول تاريخيتها وتسميتها التي يقول إنه وأدونيس قد أثبتاها أولاً، ولا حول الوزنية الافتراضية أو حقيقة عمق العاطفة ووجود المرأة عنده، والتحول بصدد العلاقة بها، ولا التأثرات بالشعر الغربي، فهذا مما يتطلب وقفة حِجاج وتفاصيل وشواهد.