من دمشق إلى حيفا
كانت الجبهة السّوريّة في الشمال قد سكنت، والانفجارات قد توقّفت، كان المهندسون الإسرائيليون قد أنهوا تمهيد الطريق المنطلق من خندق آلون عبر السهل حتّى الطريق المؤدّي إلى خان أرنبة، ثمّ إلى طريق دمشق. كنتُ أراقبهم من مرقبي العالي غير المرئي منهم، أو هذا ما ظننت، حتّى قال لي فيما بعد أسابيع المحقق مرَّة: وماذا كان بإمكانكَ أن تُسبِّب لجيشنا من أذى وأنتَ الأعزل المراقَب جيِّداً من الجانب الآخر للسهل الأعزل، لا تملك إلا جهاز لاسلكي، كنّا قد قطعنا التواصل بينه وبين غرفة العمليات في دمشق، وكانت، جملته هذه هي الصفعة القاسية لما ظننتُهُ عوناً لجيشي في حربه ضدّ المستعمرين الأشكيناز، وكانت صدمة الإحساس بالسخافة والدونكيشوتية، كان لا بدّ منها للعودة بي إلى الأرض حتّى لو كان ثمن اصطدامي بالواقع المُرّ كسر ساقيّ أو صلبي.
كنتُ أتمزّق غيظاً من رؤية الشماتة في عيون زميلَيّ في المخفر، أو هذا ما تخيّلتُهُ مغموراً بالوحدة والخوف وتخلّي العالم عنّي، كان السؤال المُلحّ عليّ في أكثر الأوقات: أهذه هي المكافأة على إقامتي في المخفر، أدافع بوجودي تحت راية الأُمم المتّحدة عن الأرض السّوريّة؟
كانت علاقتي مع الأُمميَّيْن قد اختُصرت حتّى التّحيّة الصباحية أو المسائية، وحين كانا يجعلان من غرفة المراقبة التي كانت مزجَّجة من جوانبها الأربعة مكان راحة مُكيَّفاً بهواء الخريف المعتدل، يشربان البيرة، وهما يثرثران في استرخاء في أُمسيَّات تشرين، أمّا أصوات التفجيرات التي تُسمَع في البعيد تقول إن الحرب ما تزال قائمة، وشعرتُ بالحَرِّ الشديد، ولستُ أدري أكانت بداية لحمّى داخلية؟ أم أنه الإحساس بالغيظ والخسارة؟
وفي إحدى المرَّات، وكنتُ أعود إلى بَرَّاكَتي، فاجأني النقيب الهولندي يحمل إليّ فنجان كافيه أوليه، ولكني اعتذرتُ شاكراً، واتّجهتُ إلى البَرَّاكَة، أحاول الراحة حين خرج من الغرفة الزّجاجيّة قائلاً: لماذا يبدو عليكَ وكأنكَ غاضب من أمر فعلْناه، أنتَ لا ذنب لكَ، ونحن لا ذنب لنا. تعال نُثرثر قليلاً، وشدَّني من ذراعي، فانسقتُ معه، فلقد سئمتُ الصمت المحيط بي وبالمخفر.
كانت علاقتي مع الأُمميَّيْن قد اختُصرت حتّى التّحيّة الصباحية أو المسائية، وحين كانا يجعلان من غرفة المراقبة التي كانت مزجَّجة من جوانبها الأربعة مكان راحة مُكيَّفاً بهواء الخريف المعتدل
جلستُ. ناولني النقيب فنجان النسكافيه الكبير، وكان ما يزال يُحرِّك ملعقة فيه لاستكمال ذوبانه، ثمّ وضعه أمامي على طاولة صغيرة، وعاد إلى الجلوس، وما كدتُ أجرع الجرعة الأولى حتّى قال الهولندي: حاولْنا الكثير من أجل خروج سليم من هذا الفخّ. نظرتُ إليه في جمود، لا أفهم إلامَ يريد الوصول حين قال: عرضْنا على القيادة في جيروسالم إخراجكَ من المخفر في سيَّارة الأُمم المتّحدة، وحتّى رأس الناقورة على الحدود اللّبنانيّة مع إسرائيل، ونظر إلى الإيطالي، وكأنه يستنجد به، ثمّ تابع بعد صدمتي بالنظرة الجامدة للرائد الإيطالي: وبهذه الطريقة، تخرج من الفخّ تحت راية الأُمم المتّحدة.
ولكنهم في جيروسالم تردّدوا في قبول الاقتراح، حين ردّ رئيس البعثة هناك: الإسرائيليون يعرفون بأن السّوريّ ما يزال في المخفر، وبوجوده في المخفر يبدو وكأنه في “عتليت“، وكانت صدمة الجهل في أني لا أعرف عتليت، ولا أعرف مدلول الاسم، واستمررتُ في صمتي، أجرع الكافيه أوليه، تابع الهولندي: ولن يسمحوا لكم بإخراجه في سيَّارة الأُمم المتّحدة، وتحت أنظارهم، ثمّ ماذا لو قبضوا عليه معكم، قبل تهريبه من إسرائيل رغماً عنهم؟ هل تريدون إدانة الأُمم المتّحدة في سعيها إلى التّدخّل غير السِّلْميّ في السياسات المحلِّيَّة؟
وأخيراً قال الهولندي بهمس المتآمر معي: ما رأيكَ لو خرجتَ في سيَّارة الأُمم المتّحدة، ودون إبلاغ السلطات الإسرائيلية، أي نائماً في المقعد الخلفي مُغطّى ببضع ثياب مُلقاة في إهمال؟
ولا أدري إن كنتُ حسن الحظّ حين رفضتُ ذلك المعروف، وأصررتُ على انتظار الحلّ من الحكومة السّوريّة، أم سيِّئ الحظّ كالعادة.
الحرب تترك المخفر الأُممي في سلام
في اليوم التالي عدتُ إلى الكراج المرتجَل في المخفر، لأجلسَ على كرسي الميكانيكي الملوَّث بشحم السَّيَّارات، أتأمّل القرية التي كانت تضجّ بالحياة قبل أيّام فقط، وهي اليوم ميتة، لا تعرف متى تبعث فيها الحياة! وعاد الضابطان الأُمميان إلى السُّكْر، والنوم في الملجأ محتميَيْن بمقولة الإيطالي “هذه حرب ليست حربي، ولا أريد الموت المجّاني فيها”، وفي انتظار نجدة ما تأتيهم من دمشق، أو من تلّ أبيب، كانا يقضيان على زجاجات الخمرة بالترتيب غير العنصري، فالمشروبات كلها، بغضِّ النظر عن مصنعها وصانعها، سواء، ولم أكن على جرأتهما في الاستهانة بدماء البسطاء، فأقضي ساعات الحرب سكران.
كنتُ أشرب القهوة في مجلسي في الكراج، أتأمّل القرية، ولا أراها، فما كنتُ مُهتمَّاً برؤيته لم أره، وما كنتُ أشتهي رؤيته من نصر يستحقّه جيلي، لم يسعدني الحظّ بنواله. وفجأة، وقبل أن أنفض رأسي محاوِلاً الرفض، أو التّأكّد ممّا أرى، رأيتُهُ أو بالتدقيق لم أره، بل رأيتُ غباراً يتحرّك على طريق المخفر القادم من القرية، غباراً يصعد إلى الأعلى، ويثيره شيء ما يمشي على الدرب التّرابيّ، خرجتُ من لامبالاتي ونعاسي، أحاول التّأكّد ممّا أرى، وفي عصفة ريح عابرة كشفتُ الغبار، فرأيتُهُ، كان كلباً ضخماً، كلباً؟ لا، بل كان أكبر من الكلب، بل هو أضخم من الكلب، ولم أستطع الجزم، فقد اندسّ في الغبار الذي أهاجه ثانية، وأخذت كتلة الغبار في التّقدّم نحو المخفر.
اهتممتُ لمرأى الكلب الضخم يتقدّم باتّجاه المخفر، وبحثتُ عن سلاح أدفعه به عنّي، ولكنْ، لا سلاح، فانحنيتُ إلى الأرض، وحملتُ حجراً ضخماً كما كنّا نفعل صغاراً، وفجأة سقط الحجاب الغباري، وبدا الكلب، كان كلباً جميلاً قوياً، وكان يدلي لسانه نحو الخارج في ظمأ واضح، قرّرتُ سقايته، سكبتُ من برميل في الكراج ما يملأ سطلاً صغيراً، وحين سمع صوت الماء يكركر في السطل اهتمّ، وانتبه، حاولتُ تجاهله، حين التفتُّ إليه، رأيتُ تكشيرته المرعبة عن أسنان صفر، فوضعتُ السطل على الأرض بعد خَضِّ الماء فيه، ولكنه شخر بقوّة وهرّ، فارتعبتُ، فلو قرّر عَضِّي، فليس هناك مَنْ يدفع عنّي، وليس لديّ في الكراج سلاح، أيّ سلاح بما فيها السّكّين.
قرّرتُ الانسحاب، فالمواجهة خطيرة، وشديدة الخطر، وما يدريكَ أن من الممكن أن يكون مسعوراً مكلوباً، وعضّته تعني الموت البطيء في هذه الصحراء الخضراء الخاوية من كل حياة، فالأحياء الوحيدون فيها سكارى كالأموات؟!
كنتُ قد قرأت مرَّة أن التحديق في وجه الحيوانات المفترسة قد يؤدّي إلى هجومها عليكَ، فالتحديق في العيون تحدٍّ على السيادة، ولم أنظر في وجه الكلب مباشرة، وإن تخيّلتُ حجمه وتقاسيمه، فخطر لي أنه ليس كلب رعاة، بل كلب من سلالة طيِّبة مُقدَّرة عند مربِّي الكلاب، وبرز السؤال: ولكنْ، ما الذي جاء به إلى هذه القرية التي رأيتُهُ يخرج منها؟
سمعتُ صوت لعق متعجِّل، فالتفتُّ لأكون في اتّجاهه، ورأيتُهُ يلعق الماء بسرعة العطشان من السطل، فكّرتُ بإطعامه، ولكنْ، ليس لديّ ما يصلح لأكله إلا علبة مارتيديللا، تُرى هل سيستطيبها؟ وبدأتُ زحف الأقدام خارج الكراج، ولكنه شعر بحركتي، فرفع رأسه عن السطل، وأطلق هريراً، سمعته شديد القوّة، ما دفع الرعشة إلى عمودي الفقري، فتوقّفتُ مرعوباً، أنتظر خطوته التالية، ولكن ذلك الكلب لَمْلَمَ نفسه، وخرج إلى البعيد، حيث اختار جذع شجرة صغيرة، واستلقى تحتها وهو ينظر إليّ، حينها أحسستُ بأنه لن يغادر، وبأنه سيتحوّل إلى عنصر أساسي من جماليات هذا المخفر البرّيّ.
الحمائم ترفض عقابيل الحرب
تمطّيتُ سَئِماً من الأرق الطويل، وصوت الانفجارات تغطّي الأفق السّوريّ فقط، ولو بعيداً في الأرض السّوريّة التي لا أراها، رفضني السرير، فقمتُ، وأعدتُ التّمطّط، ثمّ خرجتُ من البَرَّاكَة، وتأمّلتُ قرية جباتا الخشب التي فرضوا على سكّانها الهجرة إلى الداخل السّوريّ، والتّخلّي عن أشيائهم البسيطة وحيواناتهم وطيورهم شبه البرِّيَّة، وكأنها لم تسكن من قبل.
لاحظتُ أن الانفجارات قليلة باتّجاه قرية جباتا الخشب، فعدتُ إلى البَرَّاكَة، أعدّ لنفسي فنجاناً كبيراً من القهوة بالحليب، وربّما استهلك تنظيف فناجين النسكافيه وكؤوسها وقتاً، لم أحسبه قبل وَضْع الماء البارد ليغلي على البوتو غاز، فحين خرجتُ من البَرَّاكَة أحمل فنجان القهوة بالحليب، كانت الشمس أو نورها المنكسر قد أضاء الحقول أمامي، فاتّجهتُ إلى غرفة الكراج المَحميّ جيِّداً براية الأُمم المتّحدة. جلستُ على الكرسي العتيق، وبدأتُ رشف قهوتي.
نظرتُ ثانية إلى القرية المهجورة، حيث تتبدّى القرية، كانت الحمائم الكثيرة، والتي لم يستطع سكّان القرية اصطحابها، فتركوها لنصيبها، كانت تطير طيرانها الصّباحيّ على عادتها، وكانت أصداء الانفجارات قد توقّفتْ لسبب ما، فانتهزت الحمائم من بيض، وسود، وحمر، ومختلط الألوان، لتطير سعيدة بالسلام والهدوء، كانت تطير في مجموعات كبيرة، تُرى هل استعادت سلامها الخاصّ؟ ترى هل للحمائم سلام بعيداً عن تدخّل الإنسان، وتدريبها الذي يجعلها تُنهك الحمامة الضّالّة عن مطارها، ثمّ تحطّ، فتحطّ الحمائم جميعاً، بما فيها الحمامة الضّالّة، مطيعة لصاحبها الذي أطعمها وجوَّعها للأنثى، وأطلقها مُقيَّدة بشهوتها لشيء واحد فقط، للأنثى؟
كانت فرحة رؤية الدَّبَّابات السّوريّة تتقدّم لعبور معبر آلون الفخّ، وتتقدّم عند سفح تلّ الشيخة، أو عند تلَّة الأرانب، هذه الفرحة كانت قد انقضت، وبدأت الإصابات في دبَّابات الجانب السّوريّ
فجأة انفجرت القذائف والقنابل والصواريخ دفعة واحدة، واستجاب الطرف الآخر، واندلع تبادل القتال من جديد، تُرى كيف يفكّر السّكّان الآمنون في سوريا الآن؟ كيف يتصرّف البسطاء الساعون إلى جَلْب الخبز لأطفالهم الآن؟ الفول؟ الحمّص؟ فطور الصباح العادي؟
يبدو أن أُذُنَيّ اعتادتا التفجيرات، واعتادتا تجنُّب الطَّرَفَيْن لمواقع الأُمم المتّحدة، فلم تقربنا حتّى اليوم قنبلة ضالّة، ولا رصاصة عيار خمس مئة طائشة، ولمفاجأتي كانت غيوم الحمائم تعلو مرعوبة من انفجارات لا عهد لها بها، كانت تعلو، وتعلو حتّى تصبح لطخة ملوّنة في السماء الصّباحيّة، لا يمكن تمييزها، جرعتُ جرعة مطمئنّة في مخبئي في الكراج المؤقّت لسيارة قوّات الطوارئ، ثمّ تحوّلتُ بنظري إلى الغيمة الملطّخة باللون الأحمر المبكّر حين رأيتُ قطعة صغيرة تتسلّل من الغيمة، وتهوي باتّجاه الأرض، تهوي وتكبر وتهوي وتكبر حتّى استعادت حجمها الحمامي.
وتوقّفتُ عن جرع النيسكافيه مشدوداً إلى مغامرة الحمامة المنفصلة عن الغيمة، وفجأة غابتْ عن ناظري، وقبل أن أقف لأتابع حركتها الغريبة، سمعتُ صوت ارتطام بالصفيح المغطّي للكاراج، ولم أستطع فَهْم ما جرى حتّى رأيتُ الحمامة تهبط ساقطة عن باب الكراج المفتوح على طريق جباتا الخشب، اقتربتُ من الحمامة الساقطة، أحاول تهييجها فتطير، ولكنها كانت ساكنة، فتجرّأتُ، ورفعتُها عن الأرض، ولكنها كانت دافئة دفء الموت القريب، وفزعتُ من لقاء الموت على هذا الشكل، ولكن استمرار الانفجارات والقذائف جعلني أنظر إلى غيمة الحمائم في خوف، وإذ بي أرى الشهب تنفصل عن الغيمة، وتهوي، وارتعبتُ ممّا أرى، فدخلتُ إلى الكراج أحتمي من شهب الحمائم التي لم تخيِّب ظنّي، إذ علت فجأة أصوات ارتطام الحمام الميت رعباً وتعطّشاً إلى الأرض، بالسقف الصّفيحيّ، ثمّ صوت ارتطامها بالأرض، بالبساتين البعيدة، بالحقول المهجورة، وظلّت تتساقط وتعلو هاربة غريزيَّاً من القذائف والقنابل، والصواريخ حتّى لم أعد أراها في السماء الصافية تُلطّخ نقاءها الأبيض المُزرَقّ.
كانت تلكم هي المرَّة الأولى التي أشاهد فيها حُلْماً سورياليَّاً حقيقياً، لن تراه لا في فيلم سينما تلّ بونيول، ولا في لوحة تلّ سلفادور دالي، ولا في قصيدة لأندريه بروتون، كان كابوساً سورياليَّاً ممّا تنتجه الحروب عادة في وضح النهار.
سكبتُ ما تبقّى من النيسكافيه على التراب، وغادرتُ الكراج إلى البَرَّاكَة، لا أعرف ما أصنع، وعندئذ سمعتُ صوت عَدْوٍ لاهث على الطريق من جباتا، فخرجت مُستطلِعاً لأرى فَرَسَاً حمراء رائعة تعدو متّجهة إلى المخفر، وكان يتبعها عن قرب مهرٌ يماثلها لوناً إلا أن نهاية ساقَيْه الأماميَّتَيْن كانتا محجَّلَتَيْن بالبياض، وقفتُ مشيراً إليهما بالقدوم وأنا أُصفّر صفيراً خافتاً، ومُلوِّحاً بغذاء لهما في ذيل قميص بيجامتي المَطوِيّ، وكأني أحمل طعاماً لهما مُتظاهِراً بامتلاكه، كما كنتُ أشاهد رعاة الماعز يتظاهرون لاجتلاب الماعز الضّالّة إليهم، كانا يعدوان مقتربَيْن، وفكّرتُ بسرعة في إيوائهما في المخفر غير مبال بالسَّكرانَيْن الأُمميَّيْن.
وصلت الفَرَس الأُمّ قريباً من المخفر، وكان الذعر يسيطر على حركاتها، والقنابل التي اعتادت أُذُناي على وَقْعها تُثيرها حتّى الهلاك، وفجأة، وفي أثناء اقترابي منها مشيراً، بفضل بيجامتي الرّياضيّة أني أحمل إليهما الطعام، كشّرت الأُمّ فجأة عن أسنانها، ووقفت على قائمَتَيْها الخلفيَّتَيْن، وأخذت في الصهيل الجريح، لم أجرؤ على مزيد من الاقتراب، بل وقفتُ مذهولاً أتأمّل هذا الجمال المتوحِّش الواقف على ساقَيْن خلفيَّتَيْن تصهل في ذعر من أصوات الحرب المميتة.
فجأة هبطتْ متَّكئة على السوق الأربعة، وبدأت العَدْوَ، فعدا مهرُها من خلفها، حاولتُ اللحاق بهما، لأعرف اتّجاههما، ولكني ما إن وصلتُ إلى الأرض المتصلِّبة للدرب المؤدّي إلى جباتا الخشب حتّى كانا يتّجهان إلى ما خلف المخفر ككل، فَعَدَوْتُ في إثرهما إلى المرقب أرى اتّجاههما، ولكني ما كدتُ أصل إلى المرقب حتّى رأيتُ المهر يلحق بأُمّه، أي إلى الجهة الأخرى من المخفر.
رجعتُ إلى الكراج، أنتظر وصولهما، ولكنهما كانا يَعْدُوَان في اتّجاه الجيش الإسرائيلي، ثمّ انتبهتُ إلى أنهما يطوفان حول المخفر، يرجوان عوناً من إنسان ما، يطمئنّان إليه.
استمرّا في دورانهما اللّاهث حول المخفر، يقفان بين الحين والآخر، ليُطلقا صهيلاً متضرّعاً أن يتقدّم أحد ما إلى نجدتهما دون أن يستجيب لهما إنسان، ولم أفكّر ثانية في خداعهما المكشوف بالتلويح بطعام، لا أملكه، وأمان لا أدعيه، كانا يَعْدُوَان استجابة لأصوات القنابل وحسب إرعابها الصوتي، وفجأة وصلتْ وانفجرتْ قنبلة كبيرة ربّما كانت من عيار الخمس مئة كيلو، فتوقّفت الأُمّ مذعورة وهي ترى غيمة الحجارة والتراب تعلو، فتغطّي كل ما يرى، ثمّ، وبهدوء أخذت الحجارة الصغيرة الطائرة، والغبار في النزول على الأرض في استسلام.
استدارت الفرس الحمراء تعدو في اتّجاه القرية المهجورة “جباتا الخشب“، لاحقتُهما بأنظار زائغة، ولكنهما اختفيا في المَدّ الغباري المهاجم، وآملاً في رؤيتهما ثانية، وقفتُ في خضمّ الأصوات الجهنّميّة، والغبار القادم من الجحيم حتّى انجليا، وبحثتُ عنهما في كروم القرية، وبين أشجارها، ولكنهما اختفيا، ترى هل نَجَوَا؟ وكيف ستعرف إن نَجَوَا، أم هلكا؟ وسمعتُ نحنحة الميجور الذي استيقظ أخيراً، فألقى عليّ بالبونجورنو، ومضى إلى كابين التواليت، حيث غاب حتّى عدتُ إلى المرقب، واتّخذتُ مكاناً مَحميَّاً، وبدأتُ في مراقبة ما يجري هناك في حقل يوم القيامة.
وكان يوماً عاديَّاً لا يُميّزه إلا الانفجارات من العمق السّوريّ. كانت حرب تشرين التي انطلقت في السادس من تشرين الأوّل 1973 تُبشِّر السّوريّين بنصر وتحرير كبير للأراضي المحتلّة عام 1967، كانت فرحة رؤية الدَّبَّابات السّوريّة تتقدّم لعبور معبر آلون الفخّ، وتتقدّم عند سفح تلّ الشيخة، أو عند تلَّة الأرانب، هذه الفرحة كانت قد انقضت، وبدأت الإصابات في دبَّابات الجانب السّوريّ، وتخلَّيتُ عن مراقبة مسيرة الحرب الساذجة منذ أن أسقط أحمق في عشّ لطرد الطائرات المعادية في الجيش السّوريّ، طائرة سورية، كانت تقصف مصفاة نفط ميرون في إسرائيل، فطاردتْهُ طائرات الميراج الإسرائيلية بعد إنجاز مهمّته وعودته باتّجاه سوريا، فلمّا اقترب من الحدود السّوريّة أخذ يرفرف بجناحَيْه مشيراً إلى السّوريّين على الأرض، يُعلمهم أنه صديق حسب التعليمات الدّوليّة، ولكن جنديَّاً سوريَّاً كان في عشٍّ لرشاشات الخمس مئة، وهي رشّاشات لم تصبْ طائرة في أثناء تحليقها يوماً، فلقد كان أقصى ما يمكن لها القيام به هو طَرْد الطائرات المُغيرة بتهديدها بالإصابة.
هذا الجندي ما كاد يرى الطائرة المنخفضة الطيران حتّى رماها بصلية من رشاشه، فأُصيبت في خزَّان وقودها، ورأيتُها تتوقّف مصدومة في الهواء غير مُصدِّقة أن إصابتها كانت في أرضها وبين ناسها، توقّفت بعد إصابتها في الهواء، وكأنها عاقلة لا تُصدِّق، أو طير أصابه الصياد بمقتل، ثمّ تنقلب على قفاها، وتأخذ في الانزلاق الشّراعيّ المميت نحو الأرض غير الحنون، كان السهل محاطاً بالتلال الصَّخريَّة، ولا أمل للطَّيَّار في إعادة الصعود للنجاة من صدم الأرض. تابعتُها بنظري العاجز تبتعد، ورأيتُ اصطدامها بالأرض منقلبة على قفاها، رأيتُ ارتفاع موجة من غبار إلى السماء، تلاه وهج نار قوية، واستدرتُ مبتعداً، فلم أستطع تحمّل هذا المصير.
سوف أتذكّر هذه الحادثة المؤلمة في منزلي في دمشق، أي بعد الشهور التي قضيتُها في إسرائيل، والتي لم تجب عن أسئلتي الكثيرة، حيث زارتْني امرأة في السواد، وكانت أخت الطَّيَّار الشهيد، وسألتْني إن كنتُ أعرف شيئاً عن أخيها الشهيد، فكل ما تعرف وقد أخبرها بذلك عاملون في الصليب الأحمر بأن آخر عمل قام به هو ضرب مصفاة ميرون في إسرائيل، ولم أجرؤ على إخبارها عن نهايته المفجعة على الصُّعُد كلها.
إسرائيل التي لا أعرفها
كانت سيَّارة الجيب تتحلزن صاعدة التَّلّ الذي يجثم على قمّته مخفرنا، وكان صوت السَّيَّارة أوّل صوت نسمعه منذ أيّام، أي منذ اندلاع الصوت الأوّل لقنبلة، أو سماع صفير رصاصة.
كانت الحرب قد أحرقت سبعة أيّام لنا، ونحن في حصارنا بين الموت والحياة، بين القذائف والحمام المتساقط، هذا العبث كله الممتزج بالدهشة، كانت علامات العجلات من خلف السَّيَّارة تشير إلى أنها قادمة من المعبر الواقع بين تلّ وردة وتلّ الشيخة، وأُصبتُ بالارتباك، وتساءلتُ سرَّاً: هل يمكن أن تكون سيَّارة الجيب هذه إسرائيلية؟ وإلا فكيف يجرؤون على السَّيْر دون قوّة عسكرية تحميهم؟ أو فلمَنْ هذه السَّيَّارة؟
وكيف تعبر المناطق الملغومة دون خوف؟ وذكرتُ السَّيَّارات الإسرائيلية التي كانت تقوم بتنظيف الحقل من الحجارة المتناثرة لأيّام مضت، والتي رأيتُها خلال اليومَيْن الماضيَيْن، وعرفتُ أن الطريق قد مهّدت لعبور السّيّارات التي تقوم بمهمّة ما. وذكرتُ ما حدّثونا به مراراً، أن كل موقع سيجده العاملون في قوّات الطوارئ، وفيه جندي سوري واحد، هو بمثابة فيلق سوري يدافع عن الأرض السّوريّة، وذكرتُ محاولة الأُمميّيْن إقناعي بالهروب في سيَّارة الأُمم المتّحدة، ورفضي لهذه المغامرة مُفضِّلاً تدخّل الجيش السّوريّ المسؤول عنّي لإنقاذي من فخ تلّ الهوى إلى حيث الوطن. وهرعتُ إلى البَرَّاكَة، وعلى الطريق إليها، لم أر أيَّاً من الرائد الإيطالي أو النقيب الهولندي، فاندفعتُ أحلق لحيتي التي لم أحلقها منذ المتفجّرة الأولى عند الموقعة العظيمة التي دارت.
ثمّ خمدت الأصوات الحربية لاحقة بمواكب الدَّبَّابات الإسرائيلية في اتّجاه الداخل السّوريّ، وكان جزء من حاسة السَّمْع لديّ منصرفاً إلى الخارج يتسمَّع الأصوات الممكنة، ولكن سيَّارة الجيب ما تزال بعيدة.
غسلتُ وجهي ونشرتُ قليلاً من الكولونيا، ثمّ غيّرتُ الثياب الرّياضيّة التي أرتديها في المخفر عادة ببدلة عسكرية أنيقة، ممّا كنتُ ألبسه في الطريق إلى الجبهة، وسمعتُ من البَرَّاكَة صوتَيْن مختلفَيْن، أوّلهما صوت سيَّارة الجيب المقتربة، وثانيهما حركة أقدام على الحصى المفروش في الباحة.
في طريقي إلى الخروج من البَرَّاكَة، وقع بصري على صورتي النصفية. في المرآة، كنتُ أنيق اللباس أناقة تليق بمحاور كفء للإسرائيلي، وحليق اللحية كَمَنْ يمضي إلى لقاء عزيز، أو عزيزة، ويريد أن يبدو بالشكل الأجمل، وخرجتُ. كان الضابطان الأُمميان يقفان إلى جانب الكارافان يُدخِّنان، والغريب أنهما فُوجِئا بأناقتي، بل برؤيتي أخرج لِلِقاء الإسرائيلي.
حيَّيتُهما، فحيّياني في ارتباك، كان صوت سيَّارة الجيب يعلو مقترباً، أخذت الأفكار تهاجمني: كيف يبدو الإسرائيلي؟ أهو يشبهنا؟ أم أنه شيء مختلف؟
صوت السَّيَّارة الجيب كان يقترب، وحرصي على رؤية الإسرائيلي الذي لم أره من قبل إلا عبر المنظار المقرِّب، ولم أعرف من اليهود إلا جورج أشكنازي في مصر وإبراهيم الذي نسيتُ اسم عائلته منذ تركتُ مدرسة العازارية في دمشق.
دخلتْ سيَّارة الجيب إلى المخفر، تحمل العَلَم الإسرائيلي، هبط منها عسكري يشبه السّوريّين في قامته، وفي ملامحه، وكان لا يضع رتبة تدلّ على كَتِفِهِ، بل كان يلبس زيّ العمل والتدريب فقط.
تأمَّلَنا بسرعة وكأنه يريد التّأكّد: أيّنا السّوريّ؟ وأيّنا الأُممي؟ وقبل أن يسأل، أو يخمّن تقدّم الرائد الإيطالي مُقدِّماً نفسه وشريكه في قوّات الطوارئ، فقال العسكري دون رتبة في عربية ملكونة متقدّماً منّي: أنتَ الملازم الذّهبيّ؟
ولمّا أجبتُ بالإيجاب، قال: أنتَ على أرض يحتلّها جيش الدفاع الإسرائيلي، ولمّا حاولتُ الاحتجاج قال: وسترافقنا الآن إلى مركز القيادة.
نظرتُ باتّجاه الضابطَيْن الأُمميَّيْن مستنجِداً، ولكنهما استدارا متَّجهَيْن إلى الكارافان، كأن لا علاقة لهما بما جرى ويجري، أشار العسكري دون رتبة إلى سائق الجيب، فتقدّم مُسلَّحاً برشّاش عوزي، قال العسكري دون رتبة:
أرجو ألا تُسبِّب لنا أو لجيشكَ أيّ إحراج، فتفضَّلْ معنا، وهتفتُ فيما يشبه الهمس المحرج مخاطِباً الرائد الإيطالي:
ميجور، ولكنه أغلق باب الكارافان، واختفى.
فجأة انفجرت القذائف والقنابل والصواريخ دفعة واحدة، واستجاب الطرف الآخر، واندلع تبادل القتال من جديد، تُرى كيف يفكّر السّكّان الآمنون في سوريا الآن؟ كيف يتصرّف البسطاء الساعون إلى جَلْب الخبز لأطفالهم الآن
تقدّم الرجل الإسرائيلي دون رتبة، وقال: أعتقد أنه من الأفضل تركنا نقوم بمهمّتنا دون إحراج لأحد. وأمسكَني من ذراعي بقوّة، فنظرتُ من حولي أبحث عمَّنْ يمكن له نجدتي، ولمّا لم أجد كان الإسرائيلي دون رتبة يشدّ على ذراعي مانعاً لي من الحركة، ويشدني باتّجاه سيَّارة الجيب، حيث بدأتُ رحلة معرفة اليهود الذين لم أعرفْهم من قبل.
تلفَّتُّ من حولي ناظراً أو مودِّعاً تلّ جباتا الخشب، والغريب أني لاحظتُ اختفاء الكلب المخيف، وتقدّم منّي الجندي سائلاً إن كنتُ أحمل سلاحاً، وأجبتُهُ بالنفي، فمدَّ يَدَيْن مُدَرَّبَتَيْن فتَّشتا أجزاء الجسم كله حتّى العِجَان، بسرعة أكّدتُ له أني لا أحمل سلاحاً، والتقتْ عيوننا ثانية، فقال: أرجو أن تركب معنا بالسّيّارة.
التفتُّ مُجدّداً إلى ممثّلي الأُمم المتّحدة اللَّذَيْن عادا مُجدّداً، أطلب معونتهما، ولكن الهولندي قدّم لي كفَّهُ بوجه جامد لا يتسامح في إبداء التعاطف، وقال: ستنطلق إشارة بعد دقائق من مركز الـ”إيسماك في دمشق” إلى أورشليم ونيويورك وجنيف لتُبلغهم بأن الجيش الإسرائيلي اعتدى على حيادية مخفرنا في الجولان، وأنهم اصطحبوا معهم الضابط السّوريّ الممثِّل للجيش السّوريّ إلى حيث لا نعلم. وقال الإيطالي وهو يصافحني مُودِّعاً: ستتّصل المفوّضية بالحكومة السّوريّة، ليرسلوا مَنْ يستلمكَ من نقطة الناقورة اللّبنانيّة، ثمّ وقف وقفة انتصاب عسكرية مُحيِّياً، واستدار بحركة عسكرية، وانصرف. أحسستُ بكفِّ الجندي الإسرائيلي تلامس كَتِفي طالبةً منّي مصاحبتهم.
ودّعتُ المخفر السّوريّ بتنهيدة داخلية، واصطحبوني إلى سيَّارة الجيب الكبيرة، حيث سارت بنا مباشرة إلى سفح محجوب عن أعين القائمين على المخفر، وعن أعين الأُمم المتّحدة، وقبل أن يعصبوا عينَيّ، نظرتُ إلى السائق الذي لم يغادر السَّيَّارة، واحتفظ بالمحرّك يعمل، وأحسستُ بيد تلامس زندي، لأكتشف أن الجندي دون رُتب يقوم بتقييد رُسْغَيّ بقيد بلاستيكي، ثمّ أسدل على رأسي كيساً أسود، حجب عنّي كل خارج، ودخلتُ إلى الجولان.
اللقاء مع الإسرائيلي مرَّة ثانية
سمعتُ صوت محرك سيَّارة قادمة إلى المخفر، وكما سمعتُ الصوت، سمعه الكلب الذي بات رفيقنا الحاضر الغائب في جوار المخفر، التفتُّ إلى خارج الكراج بعد تحذيري بتكشيرة مرعبة، كشفت عن أسنانه القوية، واستدار عَادِيَاً باتّجاه القرية، ولكن طريق جباتا لم يكن عليه سيَّارة قادمة، وأحددتُ السَّمْع، ولكن صوت المحرِّك ما يزال يُدوِّي، فدخلتُ إلى المخفر، وقفزتُ عدّة قفزات إلى السور المطلّ على السهل الواسع الذي دُمِّرت فيه عشرات الآليّات، وعندئذ رأيتُ السَّيَّارة تعبر الطريق الذي فتحوه بالأمس، وفرشوه بالحصى، ثمّ بالإسفلت سريع التّصلّب تحت أنظاري الغاضبة، كانوا يتصرّفون مطمئنّين إلى أن أحداً لا يراهم أو يعترضهم، وهاهم اليوم قادمون إلى مخفرنا، ترى ماذا يريدون؟
غيّرتُ ثيابي بسرعة، فلبستُ بزّة عسكرية سورية، كنتُ قد جئتُ بها من البيت، ونظرتُ إلى وجهي في المرآة، وكانت لحيتي لم تُحلَق منذ بداية الحرب واختفاء الضابطَيْن الأُمميَّيْن في الملجأ، وبسرعة حسبتُ المسافة الصاعدة من السهل أسفل التَّلّ وحتّى المخفر، فقرّرتُ حلاقة لحيتي بالسرعة المستطاعة، وبسرعة، كنتُ أبلّ لحيتي، وأبدأ الحلاقة، وسمعتُ حركة داخل المخفر، فتطاولتُ برأسي الملوّث بالصابون، فرأيتُ الإيطالي في ثياب الخروج العسكرية، صاحياً دون تمايل السكارى، ويبدو أنه سمع صوت الباب الصدئ المفاصل للبَرَّاكَة يئنّ، فالتفتُّ إلى حيث الصوت، وفاجأني بوجهه الحليق يقول: بون جورنو. وفي ارتباك أجبتُ على تحيته، واختفيتُ في غرفتي، أُكمل الحلاقة.
وبينما كنتُ أُجفِّف وجهي، سمعتُ صوت سيَّارة الجيب تتوقّف عند المدخل، فوضعتُ حذائي العسكري النظيف، وغادرتُ البَرَّاكَة، لأراهما يتهامسان، ولم أفهم ما يعدّان لي، بل وقفتُ في فتحة البَرَّاكَة أنيقاً في كامل ثيابي العسكرية التي لا يسمحون لنا بلبس غيرها إلى الجبهة.
سمعتُ حركة عند باب المخفر، فالتفتُّ. لأرى جنديَّيْن يسدّان باب المخفر ببنادقهما القتالية القصيرة، يمنعون الحركة من المخفر إلى الخارج، والخارجين من الدخول، كان يتقدّمهما جندي في بدلة عمل، لا يحمل شارة رتبة عسكرية. التفتَ القادم منّي، فقد لاحظ جمود حركة الإيطالي وهو ينظر إليّ، فتقدّم المتقدّم منّي، ووقف على مبعدة، تسمح له بإيصال الكلام إليّ دون مخاطرة، وقال، دون تحيّة، بالعربية، وبلهجة فلسطينية تعلّموها، بلا شكّ، من معلّمين عرب فلسطينيّيْن: “سيّدي، أنتَ تقف على أرض تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأنا مضطرّ إلى اصطحابكَ إلى حيث قيادتي، ليروا رأيهم في هذه المخالفة“، والغريب أن ألاحظ أنه كان يشبه مُوجِّهاً في مدرستي في الحسكة التي تركتُها لألتحق بالخدمة العسكرية.
نظرتُ إلى الإيطالي مُستنجِداً، ولكنه استدار إلى حيث غرفة المراقبة الزّجاجيّة التي سقط زجاحها متأثّراً بصدى القنبلة الكبيرة التي نزلت بدورها قريباً من المخفر، وصعد الدرجات الثلاث، ليختفي فيها؛ ولكنه ظلّ مَرئيَّاً بينما أشار العسكري في بدلة العمل إلى الجنديَّيْن اللذين يسدّان باب المخفر، فتقدّما في اتّجاهي، وفجأة سمعْنا صوت باب معدني يُفتَح، فيصدر الصوت القبيح للحديد الصدئ، فالتفتْنا جميعاً، لنرى الكابتين الهولندي في ثياب الخروج العسكرية الكاملة، وتقدّم في اتّجاهنا، فتنفَّست ملء رئَتَيّ: إذنْ، لن تتخلّى الأُمم المتّحدة عنّي، واقترب، فاضطرّ الإسرائيلي إلى تحيّته، بضرب حذاءَيْه ببعضهما البعض شادَّاً صدره، وقال بالإنكليزية: لدينا مهمّة بنقل الضابط السّوريّ إلى معسكرنا، فلا يجوز بقاء سوري عسكري على الأرض المحتلّة من قوّاتنا الإسرائيلية، ورنّ كلامه في وعيي مُرعِباً: إذنْ، فقد تحوّلتْ هذه الأرض إلى أرض إسرائيلية؟ فأجابه الكابتين الهولندي غير مكترث لوجودي اسْمَع: معكَ حقّ، يمكنكَ اصطحابه، ولكنْ، لا تنسَ أنكَ وهو تقفان على أرض أُمميَّة، ثمّ التفتَ إليّ مُطمئِنَاً: ربّما سينقلونكَ إلى رأس الناقورة، حيث يعيدونك إلى أرض سورية، ومدّ كفَّاً يُودِّعني، والغريب أني شعرتُ بالنفاق الكامل في لغته، وفي مدِّه كفّه يريد استخلاص غفران لخيانته لي، تماماً كما شعرتُ بالإيطالي الذي تهرّب من كل حديث معي، وفرّ، وما يزال، إلى عربة المراقبة المهشومة الزجاج.
كان صابون الحلاقة منتشراً على ما تبقّى من لحيتي، يغطّي وجهي، حيث لم أتمكّن من مسحه أو غسل وجهي بالماء لشدّة ذهولي وعدم قدرتي على استشراف كل ما يجري من خيانات الأصدقاء الأُمميّين المفترَضة، إلى مواجهتي لأوّل مرَّة بالإسرائيلي، إلى سماعي الإسرائيلي ينطق باللغة العربية وباللهجة الفلسطينية أيضاً، ولكن الأهمّ كان هو إدراكي أن كل ما كسبه الجيش السّوريّ من أراض، خلال الأيّام الأولى من الحرب، عاد وخسرها، بل وإن الجيش الإسرائيلي تقدّم مُتوغِّلاً في الأرض السّوريّة باتّجاه دمشق، ولم يتوقّف إلا عند سعسع.
هذا كله كان يجري والكلب يجري من اليمين إلى الشمال، بقلق وتوتّر في خلفية هذا المشهد العبثي، دون أن ينبح أو يفرّ هارباً، حينما سأصعد معهم إلى السَّيَّارة، سيكون آخر ما سأنظر إليه في تلك الأرض الخضراء هو ذلك الكلب الذي كان الوحيد الذي يزمجر غاضباً وقلقاً ممّا يجري معي.
معسكر صفد
توقّفت السَّيَّارة بركّابها الأربعة، وكنتُ منهم، في مكان يضجّ بأصوات الشّبّان، فعرفتُ تخميناً من الوقت القصير في المسير أننا قد توقّفنا في معسكر صفد، القريب من الجبهة السّوريّة، وأحسستُ بيد الجندي دون رتبة تمسك بيدي، وتساعدني على النزول من السَّيَّارة، ونزلتُ، لتستقبل عَضُدِي يد الجندي الآخر، يمسكني بشدّة، وكأنهما يتصوّران أنني سأقوم بعمل ما في عشّ العسكرية الإسرائيلية في صفد.
كانت ضوضاء تجمّع الشّبّان في الجيش الإسرائيلي تعلو مُعلِنَةً أن هنالك حالة من الارتياح لديهم، والتي لا بدّ أن تخلق مثل هذه الضوضاء.
تقدّم الجندي المصاحب، وشدَّني من ذراعي، فانسقتُ معه وبهدوء. ميّزتُ صوتاً نسائيَّاً بين الأصوات الشّبابيّة، وما لبث الصوت أن تزايد، وعرفتُ بناء على قراءات سابقة أن النساء يشكّلنَ كمّيّة معقولة من الجند في الجيش الإسرائيلي
تقدّم الجندي المصاحب، وشدَّني من ذراعي، فانسقتُ معه وبهدوء. ميّزتُ صوتاً نسائيَّاً بين الأصوات الشّبابيّة، وما لبث الصوت أن تزايد، وعرفتُ بناء على قراءات سابقة أن النساء يشكّلنَ كمّيّة معقولة من الجند في الجيش الإسرائيلي، وفجأة تّذكرتُ أن هؤلاء الشّبّان والشَّابَّات ربّما لم يروا عسكريَّاً سوريَّاً من قبل، وأن صورة العسكرية السّوريّة لا ينبغي لها أن تكون في عسكري مُتهدِّل الثياب والجسم، يمشي خزيانا في ضعف، ودون أن أقرّر، اشتدّ الجسم منّي في إعلان رجولي عالٍ، وأخذتُ أضرب الأرض بحذائي كما علّمونا حتّى تكاد ضربة القَدَم تفجّر المياه الجوفية وانبثاق الماء منها، كنتُ أمشي في اعتداد، كما كنّا نمشي في حلب في أثناء التّمرّن على المشي الاستعراضي، وكان صوت الرائد عزّام في مدرسة “طارق بن زياد” يحدونا “وح اتنين وح اتنين”.
كنتُ أمشي مشية الفاتح، يستعرض قدرته وقوّته على الأرض المفتوحة، وكان صمتٌ غريبٌ قد أَصْمَتَ الشّبّان والشّابّات، وسعدتُ، فها هم يتفرّجون على العسكرية السّوريّة التي لم تنهزم، وسعدتُ لصمتهم، فهاهم يترقّبون حدثاً كبيراً ما.
فجأة أحسستُ بيد تلمس مؤخّرتي، فعرفتُ أن واحداً أو واحدة يحاول أن يُنفِّس هذا البالون “أنا “، ودون أن أقرّر، أو أعزم، وجدتُني أضرب ما خلفي بشدّة، فدرتُ في المكان أكاد أسقط على الأرض، ولم أصبْ أحداً، وعَلَت القهقهات النّسائيّة والشّبابيّة. وأمسك العسكري المصاحب لي بي بشدّة، يمنعني من الحركة، وسمعتُهُ يهمس في توتّر إلى الفتاة:
“كفاكي، يا فتاة”. “الآن عرفتُ أن الباعص لي كان فتاة“، وعَلَت القهقهات النّسائيّة من جديد، وشدّني الجندي المرافق بشدّة، يُبعدني عن القهقهات والمقهقهات بينما علا صوت يطلب من العسكريات الصمت “شيكت“، والتي تعني اسكتوا أو اخرسوا باللغة العبرية. كان نوع من اضطراب يهزّني دون إعلان: أكانت هذه، إذنْ، نهاية العسكرية السّوريّة؟
دار الجندي المرافق بي حول مكان ما، وسمعتُ صوت جند جدد، وتنصتُّ مُتعمِّداً، فلم أسمع قهقهات نسائية، بل صوت شبّان يثرثرون كما في الازدحامات الشّبابيّة كلها، وعلا صوت الحارس دون رتبة يقول، وقد عاد: بأن الكولونيل نهاري قد خرج من الكارافان، وسيعود بعد قليل، وحلّ الصمت، وساد المكان سكونٌ بعد ابتعاد خطوات العسكري دون رتبة، وبعد قليل، تبعه السائق والجندي الجالس إلى يساري سابقاً في السَّيَّارة، وحلّ صمت ما.
أخيراً تعبتُ من الوقوف، وكنتُ قد تحسّستُ جذع شجرة قريباً، فجلستُ محتبياً مسنِداً ظهري إلى الشجرة، وعبر الصمت، سمعتُ من بعيد أصواتاً ناعمة طرية، كانت غريبة عن مسمعي منذ “الصدام اللعين” مع إحداهنّ.
كانت الأصواتُ المُصَهْصِلَة عذبةً، وكان من بين هذه الأصوات ولا شكّ صوت اللعينة الباعصة، وقد حفر عميقاً في أُذُنَيّ، ولكني تغلّبتُ على الصوت غير المرغوب بسؤال أخذ يعبث بي متسلِّلاً: مَن الذي سيتقدّم إليّ باعتذار، ويأمر بنَقْلي إلى مطار بن غوريون، لأعود إلى بلدي؟
كان هذا هو الحلّ الذي تبدّى لي فجأة، إعادتي إلى بلدي مع اعتذار أن جنديَّاً جاهلاً ارتكب خطأ القبض على واحد من المعيّنين ممثِّلاً للدولة المضيفة، والمَحميّ بالعمل مع هيئة الأُمم المتّحدة، ثمّ أقول في أسف: ولكنْ، مَنْ كان يتصوّر أن الحرب ستقع، ويتصوّر ما سيحصل للضّبّاط السّوريّين الممنوعين من حَمل السلاح، ومن الانحياز لطرف في الحرب.
في تلك اللحظة، فجأة، انزاحت تلك الأفكار كلها من رأسي، وكأن غمامة ما يجري مرَّت، وأدركتُ أنني أجلس لأوّل مرَّة في حياتي على تراب الجليل الفلسطيني، أسند ظهري على شجر من أرض كنعان، من خلف ظهري، أمسكتُ حفنة تراب، أتحسّس فيها تراب صفد، كان مشابهاً لتراب الغوطة وحلب وحمص، ولكن ذلك الإدراك الجميل وإحساس أن ظهري مسنود بشجرة جعل عينَيّ تدمعان، هل كنتُ أذرف من دفق العاطفة؟ أم من حجم الخذلان الكبير الذي هبط على كَتِفي؟ هل ستسقط دمشق؟ ما الذي سيجري لزوجتي وابنتي الصغيرة؟ ما الذي سيجري لبلدي؟ ما الذي يريده منّي هؤلاء الشّبّان والشّابّات اليافعون، الذين يضحكون ويتراكضون، وكأننا في ملعب من ملاعب الصيف؟
كم تمنّيتُ أن يكون هذا حُلْماً سيِّئاً، أو غفوة عن الواقع، وأن تكون عيناي تلك المغمضتان بالـ”طمّاشة” مغمضَتَيْن في سريري في بيت القنوات الدّمشقيّ، أو تحت إحدى شجيرات المشمش في بساتين كفرسوسة الحبيبة في نهار ربيعي، ولكن ذلك الكابوس لم يبدأ بعد، ولم يكن هناك ما يُنذر به سوى زمجرات صديقي الوحيد الذي تركتُهُ في المخفر.