من يجرؤ على السكوت؟

 فواز حداد وروايته "السوريون الأعداء"
الجمعة 2022/07/01
لوحة: ​أحمد كليج

من بين العديد من الروايات والأعمال الأدبية التي حاولت تشريح حالة الخراب التي طبعت حكم الأسدين في سوريا، برزت رواية “السوريون الأعداء” للروائي فواز حداد، الصادرة في طبعتها الأولى عام 2014، بجرأة خطابها، وعمق رؤيتها، وقوة طروحاتها إزاء تشريح الحالة الطائفية التي عانى منها السوريون لعقود طويلة وما زالوا.

فقد سعت هذه الرواية بالكثير من الجدية والصرامة إلى ينابيع الخراب الأساسية التي طبعت الحياة السورية خلال نصف قرن كامل، فدمرت بنية الدولة، وأضعفت قوة القانون، وأحالت قوى المجتمع إلى ظلال باهتة لحياة منهكة القوى، تقودها سلطة مستبدة، لا تضع نفسها فوق سلطة الشعب الاعتبارية وحسب، بل فوق كل السلطات التي يفترض أن تحكم مسار الدولة وإرادتها، وقدرتها على تحقيق أهدافها الأساسية، في تأمين حد معقول من التنمية، وصياغة عقد اجتماعي قادر على تحقيق تطلعات الشعب واحتياجاته والذي تحكمه في العيش الحر الكريم.

لقد كانت طائفية الحكم هي كلمة السر في صناعة الخراب السوري، وقد تضافرت بكل صورها وتجلياتها ومنعكساتها لتوفر بيئة مثالية للفساد، الذي تحول إلى قوة تحرك عجلة الحياة في سوريا، فإذا ما حورب هذا الفساد، أو جرى تقليص حضوره، أو حاولت أي جهة – حتى من داخل السلطة نفسها – الحد من وجوده وأثره واستمراريته، وجدت نفسها تحارب عجلة الحياة الدائرة نفسها، وتعطل حركة الإدارات وتشل المؤسسات وأجهزة الأمن وسلك القضاء، بل وحتى آلية عمل مؤسسة الرئاسة بشكل من الأشكال.

ذلك أن الممارسة الطائفية للجماعة التي تستأثر بالسلطة، وهي تتحالف تلقائياً مع قوى الفساد أو تسهم في صنعها، تبتكر أساليبها الخاصة والتلقائية في تجنيد الأتباع وكسب الولاءات، وتشكيل بنية الدولة العميقة التي تختبئ داخل الدولة لتخلق منظومة مصالح لا تتحقق إلا على أنقاض سيادة القانون وقيم العدالة والنزاهة والمساواة.

تبتكر الممارسة الطائفية رواية جماعية لمظلومية مُضخّمة ومتوارثة، لا تفتأ تذكّر الأجيال المتعاقبة بها، كي تحفّز لديهم الشعور الدائم بالخطر، فيما إذا فكروا أن يتخلوا عن عصبيتهم الطائفية في مواجهة “الآخر” الذي لا ينتمي إلى الطائفة بالمولد والمعتقد، وانطلاقاً من هذا الاستعداد النفسي والأخلاقي لتسويغ كل الخروقات والجرائم التي تُرتكب باسم الطائفة ومن أجل حمايتها، يغدو أيّ تعارض مع المصلحة الوطنية تعارضاً مشروعاً ومباحاً  بل ومباركاً، ما دام أنه ناتج عن الاصطدام بمصلحة الطائفة، وحماية أبنائها من الخطر المؤكد الذي يتربص بهم إذا ما فقدوا عصبيتهم وتمسكهم بالمظلومية التي توحدهم خلف إرادة القائد الذي تمثل إرادته، إرادة الطائفة ومصلحتها العليا.

ولأن القائد لا يخطئ، ولا يُشكّ بإخلاصه، يستقيل العقل الطائفي من مهماته.. ويغدو إيمانه المطلق بحكمة القائد وحنكته، هو عنوان الولاء المطلق، الذي لا يسأل ولا يعترض ولا يحتجّ ولا يفكر بمستقبل ولا بمصير. وبوحي من هذا الإيمان تصبح الامتيازات الممنوحة لأبناء الطائفة على أساس الهوية المذهبية وحدها، هي برهان حرص من القائد على مصلحة الطائفة ورعاية أبنائها، مهما صغرت تلك الامتيازات أو بدت فتاتاً.

لقد خاضت رواية “السوريون الأعداء” مواجهة شجاعة مع هذه الحالة الطائفية، وتحاول هذه الدراسة النقدية أن تحلل سمات هذه المواجهة.. من خلال دراسة ضمائر السرد، وبنية الشخصيات الروائية وانتماءاتها، ومحاور الصراع الدرامي وتجلياته في سياق الحدث الروائي العام الذي يقوم بدوره على حالة مواجهة اجتماعية تقودها السلطة لجعل الممارسة الطائفية هي القاعدة، والحالة الوطنية هي الاستثناء.

وتهتم هذه الدراسة أيضاً بمناقشة عوامل تماسك الحالة الطائفية في سوريا وتحليلها كما شخّصتها رواية “السوريون الأعداء”، فسبرت أغوارها وصورت طبيعة تموضعها وأنماط صراعاتها روائياً، سواء داخل بنية الطائفة نفسها، أو مع باقي مكونات المجتمع السوري كي تنفذ إلى فهم متلازمتها الأخرى: الفساد.

فمما لا شك فيه، أن الفساد الذي تنتجه الطائفية، لا يشبه حالات الفساد الأخرى الناتجة عن تحالفات قوى متكافئة ومتقاسمة تجمعها المصالح، وتوحدها الأهداف المشتركة في منظومة التحايل على القانون أو الإثراء غير المشروع.. ذلك أن الطائفية تصطفي حُماة منظومة الفساد التي تنتجها على أساس الانتماء المذهبي الذي يصنع عصبيتها، وبالتالي تغدو قوة قاهرة مقاومة لأيّ عملية إصلاح..  حتى إنْ كان الهدف منها، تحرير أبناء الطائفة الحاكمة نفسها من الاستغلال.

وإذا كان فواز حداد قد وُفّق في تشريح هذه البنية من خلال عمله الروائي الأخّاذ “السوريون الأعداء” واضعاً إصبعه على أكثر جراح السوريين عمقاً وإيلاماً، فإنني آمل من خلال هذه الدراسة أن أوفَّق في تحليلها نقدياً، وأن أقدّم للقارئ الذي قرأ هذه الرواية الاستثنائية الهامة، أو يسعى لقراءتها، جهداً تحليلياً وبحثياً يضيف إلى متعة القراءة، متعة الإبحار عميقاً في عوالمها الثرية والقصية في آن معاً.

إنها ليست محاولة للتفسير أو الشرح… بل مقاربة تستهدف إثراء وجدان القارئ، وتعميق إحساسه بطروحات الرواية في إطار منهج تحليلي يقرأ بنية الخطاب، ويدرس عناصره وسماته، وقيمه الموضوعية وجمالياته الإبداعية.

التمرد على  أدب إنكار الواقع

كتب

في أربعينات القرن العشرين وخمسيناته، سادت الأدب السوري تيارات متنوعة ومتصارعة، وتنقّل الروائيون والشعراء والقصّاصون بين اليمين واليسار، بين الميلودراما الاجتماعية والواقعية النقدية حيناً، وبين الواقعية الاشتراكية أحياناً. كانت الأعمال الأدبية تقيَّم بناءً على موهبة كاتبها، وعلى فرادة رؤيته الفنية، وخصوصية معالجته لموضوعاته، وموقفه الفكري إزاء التيار الأدبي الذي ينتمي إليه ويؤمن به. وكان طبيعياً حتى في الخمسينات أن يخرج من اليسار الذي كان ممثَّلاً برابطة الكتاب المتطلعة إلى التمسّح الأيديولوجي بتوجهات وإرشادات “الاتحاد السوفييتي الصديق”، أن يخرج من ينتقد نزار قباني ويصفه بأنه يمثل في شعره “أدب المرأة الفاجر”.. كما كتب الشاعر شوقي بغدادي، أحد أدباء تلك الرابطة، في مجلة “الأحد” عام 1957:

“لنبدأ قبل أن يستفحل الأمر، ويحلّ أدب المرأة الفاجر محلّ الأدب الذي يجب أن يرتفع إلى مستوى الأحداث، ويكون انعكاساً لحياة الناس الشرفاء.. قبل أن ندخل في عصر ينظُم فيه شاعر كالقباني القصيدة التي لم تُنظَم بعد في… الطمث”.

وكان طبيعياً أن يخرج من يردّ على هؤلاء، ويسخر من شعاراتهم، ويستمر في الدفاع عن القيم الجمالية في الأدب، والتصدي للوثة الأيديولوجيا وهي تحاول أن تفرض زياً موحداً ترى أن على الجميع أن يرتدوه كي يتم الاعتراف بجدارتهم الموضوعية والتعبوية وترويج أدبهم وتسويقه، وحض الجماهير على قراءته.. فكتب الناقد محيي الدين صبحي، الذي كان اسماً ناشطاً منذ خمسينات القرن العشرين يقول “فمنذ أن دخلت بدعة الواقعية عَدِمنا الصدق في أدب الناشئة. وهم لكثرتهم فقد سيطروا على طرق النشر في سوريا، فطووا ما يكرهون، ومنعوا المواهب من أن تنشط والأزهار أن تتفتح، وتطاولوا على كبار كتابنا يُلقونهم بتهم الرجعية والفجور” (1).

الأدب في قبضة البعث

كانت المنتديات والمجلات الثقافية الكبرى مسرحاً لتلك السجالات وهذا التنوع، الذي ظل طبيعياً ومشروعاً بغض النظر عن التموضع مع هذا الطرف أو ذاك، حتى جاء انقلاب البعث في الثامن من آذار عام 1963، ليقضي على الصحافة الخاصة، ويلغي امتيازات الصحف والمجلات، ويصادر آلات ووسائل الطباعة، ويمارس رقابة متشددة على كل رأي مختلف، ويفرض رؤيته العقيمة على كل ما في الحياة.. فيُستعاض عن السجالات الحرة بقرارات المنع وتعميمات الحجب والإغلاق، وعن التصنيفات النقدية الأدبية بمصطلحات ثورية شعاراتية فارغة من قبيل “أدب رجعي” و”أدب تقدّمي”. وكان من أوائل من سخِروا من هذه التصنيفات ورفضوها، الشاعر محمد الماغوط في مقال له عن الحياة الثقافية السورية نُشر في إحدى المجلات اللبنانية عام 1965 قال فيه “إن من يزعم بأن هناك أدباً تقدمياً وآخر رجعياً، وأن هنالك فناً ثورياً وآخر انتهازياً هو مخطئ، وموغل – دون أي حجة تاريخية – في غابة الأخطاء. إذ ما من أديب حقيقي أو فنان حقيقي، في كل حقبات التاريخ، شرقياً كان أم غربياً، جنوبياً أم شمالياً يهلّل للجوع، ويبشّر بالظلم، وينادي بالرقّ وجَلد الأحرار. إن الأدب الحقيقي والفن الحقيقي شيء واحد مستقل، كالقدر، كالله، فوق كل شيء ولكل شيء. ولا يمكن ترويضه داخل حلبة الدقيق والخضار وإبرام الاتفاقيات” (2).

فيما بعد كشف مصطلح الأدب الرجعي شيئاً فشيئاً عن أبعاده الطائفية والمناطقية.. صار معظم ما يكتبه أدباء الأقليات في مهاجمة ثقافة المكوِّن السنّي وعقائده وقيمه، والسخرية من مرجعياتها الدينية والاجتماعية “أدباً تقدمياً”، وصار من السهل كما يقول الماغوط في المقالة ذاتها أيضاً “اتهام أي قصيدة أو رواية أو مسرحية وجدانية بأنها إنجاز يميني بورجوازي”(3).

كما كان من السهل اتهام أديب بارز كعبدالسلام العجيلي بالرجعية، بل إن كاتباً شعبياً اعتُبر أبا الدراما الإذاعية كـحكمت محسن لم يَسلم من هذا الاتهام ومن هذه المطاردة، ولم يُفلت من المتابعة الأيديولوجية، فاعتُبر كاتباً رجعياً لم يفهم التغييرات التي حدثت في مجتمع ما بعد الثورة (انقلاب الثامن من آذار) كما جاء في حيثيات التضييق عليه و”تطفيشه” من إذاعة دمشق، التي بنى بنصوصه أمجاد دراماها في خمسينات القرن العشرين وستيناته.

السجال الأيديولوجي يستعر

سُحق اليمين في الحياة السياسية السورية كما في الأدب. لم يكن المستهدَف اليمين الديني فقط، بل حتى اليمين المدني الوسطي الذي يؤمن بقيم العمل والانفتاح بعيداً عن الشعارات الكاذبة وأيديولوجيا اليسار الشمولية. صارت البرجوازية شتيمة، والدفاع عن قيم الأكثرية السنّية تخلّفاً، ومحاولة “تثوير” المجتمع بوسمه بالتخلف والرجعية لأنه لا يستسيغ شتم الذات الإلهية وازدراء الإسلام مهمة الأدب التقدمي الجديد، وربما كانت المعركة التي أثارها كتاب “الأيديولوجيا والأدب في سورية” لبوعلي ياسين ونبيل سليمان، عام 1975، خير مثال على هذا التوجه الاستئصالي، والغريب أنه تم تحميل الأدب مسؤولية هزيمة حزيران التي صنعها حزب البعث الحاكم نفسه، ووزير الدفاع حافظ الأسد الذي قاد الجبهة السورية حينها وأعلن ببيانه الشهير سقوط الجولان، فجاء في تقديم الكتاب المذكور “لقد دلت الهزيمة الجديدة على انتهاء دور طبقة بكاملها في حركة التحرر الوطني والاجتماعي، وتحولها إلى طبقة معيقة للتقدم والاستقلال، عدوة لقوة العمل، متحالفة أكثر فأكثر مع الرجعية القديمة، متصالحة أكثر فأكثر مع الإمبريالية العالمية. لقد آن الأوان لصعود طبقة جديدة بمصالحة وأديولوجيا جديدة… آن الأوان لصعود البروليتاريا، وصعود الأدب البروليتاري وانتشاره” (4).

وقد اعتبر الكتاب أن البرجوازية التي يجب سحقها لم تنتهِ من بلادنا، وأن الليبرالية هي وجه من وجوهها، وتابع مؤلفاه قائلين “من الحق أن نقرّ أنه لم يزل للرأسمالية غير الكومبرادورية والمعاداة للإقطاع، وهي المسماة ‘ليبرالية’ ما تقوله للناس، ذلك لأن الثورة البرجوازية لم تنم في بلادنا. وأشهر ممثلي هذا الاتجاه في الأدب: نزار قباني وغادة السمان. أما دعاة المجتمع القديم، أمثال عبدالسلام العجيلي وبدوي الجبل وألفة الإدلبي، فليس من جديد عندهم، لولا تلك النزعة المعادية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني. وفي كل الأحوال فإن قلة عدد هؤلاء الأدباء مؤشر آخر على أن دور الرجعية قد قارب على الانتهاء” (5).

صراعات جديدة يتجاهلها الأدب

أجل.. بهذه اللغة الاستئصالية والعدوانية السخيفة التي كان يُنظر لها في تلك الأيام على أنها فتح جديد في عالم النقد، وبهذه الرؤية كان يُكتب عن الأدب في سوريا، وكأنّ الخلاص من أمثال عبدالسلام العجيلي ونزار قباني وغادة السمان وألفة الإدلبي دليل على أن شمس الرجعية قد قاربت على الغروب، والثورة حققت أهدافها، مع أن هؤلاء وسواهم ظلوا أكثر حضوراً ممن بشّروا بموت أدبهم واضمحلاله.

وعندما احتدم الصراع السياسي الطائفي أكثر بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة واندلعت المواجهات في نهاية سبعينات القرن العشرين، صار مطلوباً من الأدب أن يعالج هذا الصراع بهذا المنظار، وبمعزل عن أسبابه الحقيقية. وسواء تحت ضغط الرقابة الرسمية، أو أهواء “الثقافة التقدمية” وشلل اليسار الثقافي المُناكِف للبعث والمتقاسم الهيمنة على الحياة الثقافية السورية معه، تشكّلت صورة لأدب يهجو الرجعية ويطالب بسحقها. وعندما اتسعت رقعة السجون ودائرة الاعتقالات لتطال بعض “اليسار” أيضاً، راح هذا الأدب يتحدث عن السجون وعن الاستبداد والقمع وعن الصراع مع السلطة، لكنه لا يعترف أن هناك مشكلة طائفية حقيقية، وأن هناك أقلية تستولي على الحكم وتستأثر بالامتيازات، أما مجزرة حماة فكان ذِكرها في الأدب السوري – إن ذُكرت لاحقاً – يتماشى مع وصفها بالمدينة المتخلّفة الرجعية، التي استخدم حافظ الأسد القسوة المفرطة، لتطهيرها من المتطرفين ومسلحي الإخوان المسلمين الذين أخذوا المدينة رهينة. جرى الحديث عن الاغتيالات التي طالت شخصيات رسمية وحزبية في حماة، بوصفها سبباً لا نتيجة لممارسات سابقة وأجواء مشحونة ساهمت السلطة على الدوام في تأجيجها عن عمد. ومن تحلّى بقليل من النزاهة اعتبر أن ما جرى هو نوع من القمع الذي يمارسه حكم شمولي ونظام دكتاتوري، لم يكن المستهدَف منه أهالي حماة رغم رجعيتهم وتشددهم، لكن الجريمة وقعت بدافع “الضرورة” الوطنية، أو الطبيعة الاستبدادية.

استثناءات لا تغيّر المشهد

لوحة: أحمد كليج
لوحة: أحمد كليج

رغم ذلك سعت بعض الأعمال الروائية التي صدرت في مطلع القرن الحادي والعشرين، لملامسة حالة الصراع الطائفي التي تسم استبداد السلطة، كما في رواية “مديح الكراهية” لخالد خليفة الصادرة في طبعتها الأولى عام 2006، والتي تحدثت عن الصراع بين نظام حافظ الأسد والإخوان المسلمين في حلب في ثمانينات القرن العشرين وصوّرته باعتباره صراعاً بين نظام أمني مع جماعة أصولية منغلقة دفع السوريون ثمنه، مع ربط  امتداداته الأصولية بأفغانستان وتنظيمات خارج الحدود، وهذا ما جعل رقابة نظام الأسد تتساهل مع هذا العمل الأدبي.. أو رواية “مدائن الأرجوان” لنبيل سليمان، الصادرة في طبعتها الأولى عن مجلة “دبي الثقافية” عام 2013، والتي كُتبت على ما يبدو بعد اندلاع الثورة ضد حكم بشار الأسد، وعادت إلى ثمانينات القرن العشرين وأحداثها الدامية في مدينة اللاذقية لتعالج جانباً من الصراع الطائفي الذي عكرّ صفو المدينة. وقد تجرأت الرواية المذكورة على تسمية الأشياء بأسمائها الصريحة، إنما بانحياز فجّ ومكشوف ويبلغ حدّ التزوير أحياناً، لرواية السلطة ولتراث المظلومية العلَوية المزعومة، وسعت لتبرئة السلطة الاستبدادية – على نحو ما – من جرائمها، وتبرئة الطائفة من الاستفادة من هذه السلطة كذلك.

في “السوريون الأعداء” يتمرّد فواز حداد على كل هذا السياق الذي كبّل الأدب السوري طويلاً، حين تنطلق أحداث روايته من مجزرة حماة التي ارتكبها نظام حافظ الأسد في شباط 1982.. ففي تلك المجزرة بلغت المواجهة الطائفية ذروتها من حيث التوحش واكتمال الجريمة.. ووجدت في مدينة “حماة” مكانها المناسب أو المفضل، كي تتفاعل رواية المظلومية مع درامية المكان في الذاكرة العلوية، فتشحن النفوس بأحقاد لا ينفع معها أي “انحرافات” إنسانية قد تخفف عصبية الأحقاد الضرورية لجعل المجزرة درساً مثالياً في الانتقام، ودرساً نموذجياً في تأديب المدينة… بل وسائر المدن السورية الأخرى.

وإذا كان “ليس كل ما يُعرَف يقال” فإن فواز حداد لا يميز بين ما يُعرف وما يقال.. يقول كل ما يعرفه وكل ما يعرف الجميع أنه الحقيقة المَعيشة والماثلة للعيان التي لا يمكن لسوري تجاهلها، لا يخشى اتهاماً بالطائفية أو التطرف أو الانحياز، لكنه يخشى أن يأتي من سيقول بعد نصف قرن أو قرن من الزمان: ما بال أدباء تلك المرحلة التي عاشوها وعاصروها، لم يتحلّوا بشرف الجرأة في القول والشهادة على الواقع الذي خَبِروه؟

الضمير.. تلك هي المسألة

في الصفحات الأخيرة من “السوريون الأعداء”، يندهش رجل الأمن الذي عمل في القصر الجمهوري لعقود، من موقف المعارض العلوي “عارف” الذي أعلن بعد اندلاع الثورة ضد حكم بشار الأسد، أنه سيقف مع النظام، يسأله “ألن يكون موقفك ضدك كمثقف؟” يرد عارف “بالعكس.. الثقافة تزوّدك بالمبررات والذرائع لأي موقف تتخذه”.

إن ما يفعله فواز حداد على مدار نحو خمسمئة صفحة هي حجم هذه الرواية الملحمية الطويلة، أنه سيرمي كل هذه المبررات والذرائع التي تمنحها له الثقافة كي يكون صادقاً فيما يكتب، حادّاً وجارحاً ومتألماً ومكلوماً ويائساً وآملاً و”متشائلاً”.. لكنه أبداً لن ينساق إلى أن يكون مبرِّراً أو مُداهِناً أو مُتعامياً، ومنذ الإهداء الذي صدَّر به الرواية، يكتب “هذا كتابي.. عن الضمير تلك هي المسألة” حتى الصفحة الأخيرة من الرواية،  يفي فواز حداد بمقتضيات الإهداء كله، فكأنّ الضمير هو الراوي وهو السارد، وهو الرائي الذي يصنع الرؤية التي ستشكل اختراقاً حقيقياً في الأدب السوري خلال نصف القرن الأخير، الرؤية التي تقول، إن الكتابة عن الواقع بوضوح ودون مواربات ومحاولات هروب، أكبر من كل “برستيج” الأدب التقدمي التبريري والذرائعي، أكبر من التنظير الأجوف، والتعالي عن معاينة واقع على درجة عالية من الصفاقة اللاوطنية، أكبر من أن يتّهمك كاتب يساري أو آخر طائفي حتى النخاع بدائه ثم ينسلّ، وهو يرى القشة في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عينه!

 

* المنشور مقدمة وفصل من كتاب “ضمير المتكلم: المواجهة الطائفية في رواية السوريون الأعداء” يصدر قريبا عن دار موزاييك للدراسات والنشر في إسطنبول.

 

هوامش:

(1) محيي الدين صبحي: الوضع الأدبي في سوريا: مخلصون ومزيفون – مجلة (الآداب) بيروت: كانون الأول/ديسمبر 1957.

(2) محمد الماغوط: صفر على اليمين مجلة (حوار) العدد (18)، بيروت: تشرين الأول/أكتوبر 1965.

(3) المرجع السابق.

(4) بوعلي ياسين، نبيل سليمان: الأدب والأيديولوجية في سورية ص (11)، ط2، دار الحوار، اللاذقية 1985.

(5) المرجع السابق ص (13).

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.