موت الأب
توفي والدي شابا. فجأة، وبلا مقدمات، وجدتني أقف وحيدا في العراء. لا أعني بالوحدة الشعور المدمر بالفقدان وعدم وجود أقرباء محيطين. هؤلاء كانوا كثيرين. ثمة أقرباء كانوا يحيطون بي إحاطة السوار بالمعصم كما يقولون. أعني بالوحدة ما يمكن أن أدعوه اليوم بـ»التوحد» بدلالتيه النفسية والميتافيزيقية.
كان هذا التوحد المفعم بإحساس الرعب والعزلة وفقدان بوصلة الاتجاه، طاغيا. وعندما أنظر اليوم بعين النوستالجيا، إلى ذلك الماضي البعيد، محاولا استعادة ما حدث، تلمع على شبكة ذاكرتي بروق تشتعل هنا وتخمد هناك. ووراء هذه الالتماعات يرتفع صوت عازف كمان يقف في حديقة منزلنا بحي بستان الرئيس وسط دمشق. وأما المستمعون المنصتون بلا هوادة، لذلك العزف المبكر، فقد كانوا ثلاثة: أنا ووالدتي وعصفور في قفص يتدلى من سلك معلق وسط الحديقة.
العازف هو والدي. وكان عزف الكمان هوايته التي يمارسها كطقس يومي قبل الذهاب إلى عمله في وزارة «الاقتصاد الوطني» باعتباره خبيرا درس علم الإحصاء في باريس وكلّف من قبل الأمم المتحدة بتأسيس معهد خاص به في بغداد.
كان العصفور ينصت للعزف ويردّ على العازف بزقزقة تحاكي إيقاع الموسيقى. ومنذ اختفاء العازف لم يعش، بإصراره على عدم القبول بالطعام إلا من يد والدي، سوى أيام.
هذا الشّعور الطاغي بالعزلة عبّر عن نفسه خلال سنوات المراهقة بالذهاب دوريا إلى «المكتبة الظاهرية» مشيا على الأقدام، والإدمان على مطالعة ما تحتوي عليه من كنوز. آنذاك لم يكن يُسمح باستعارة الكتاب وإخراجه خارج المكتبة. ولهذا صار المكوث فيها ساعات طويلة هو في حقيقته بمثابة استبدال للحياة كما يمارسها الأولاد والشبان من جيلي، بحياة أخرى تملأ فراغ العزلة عن العالم باستمرار.
ولكن الإحساس بالعزلة لم يلبث أن تحول عندي إلى شعور مسيطر بالعبث، وبالطبع لم تكن هذه المفردات متأصلة في نفسي قبل اطّلاعي على الفكر الفلسفي. وأذكر أن كيركفارد وفلسفته الوجودية المعايدة لهيغل كان لها أثرها المبكر في تكويني المعرفي. وكانت قراءاتي لمختارات مُستلّة من كتابه (إما / أو) بجزأيه متعة حقيقية. فقد أعجبت بمناهضته النقدية للهيغيلة التي كانت تزعم أنها تملك مفاتيح الجواب على كل تساؤل فلسفي. كما افتتنت بالدور الذي تلعبه الإرادة في فكره، فضلا عن نقده لتفاؤل هيغل التاريخي.
وبهذا الإطار الفكري تمكّنت في وقت لاحق من الإحاطة بفكر نيتشه كمفكر حداثي بامتياز. والحال أن إعجابي بأعمال كيركفارد وشوبنهاور ونيتشه لا يعود فقط إلى الدور المركزي الذي يلعبه مفهوم الإرادة في فكرهم، بل يعود فضلا عن ذلك إلى كونهم أدباء مبدعين إذا ما نظر إلى أعمالهم من منظور أدبي صرف.
كما أن الإعجاب بهذا التزاوج المفهومي لديهم، بين الفكر والأدب، سبقه تعلقي المبكر بأدب تشيخوف ودوستويفسكي وتولستوي. وهناك عبارة لتشيخوف كنت قد سجلتها في دفتر صغير وأنا في سن المراهقة، ولم أستطع مقاومة إغراء حفظها عن ظهر قلب، إذ يقول تشيخوف «في الطبيعة تتحول اليرقة المثيرة للاشمئزاز إلى فراشة جميلة. ولكن عندما يتعلق الأمر بالكائنات البشرية فإن العملية تجري باتجاه معاكس: الفراشة الجميلة تستحيل إلى يرقة مثيرة للاشمئزاز».
وفي وقت لاحق سجلت في دفتر مذكرات، التعليق التالي «إذا كان تشيخوف قد عبّر عن مأساة النوع البشري على هذا النحو المثير للخجل والرثاء، فإن دوستويفسكي، أحد أبناء عمومته الذي وصلت حساسيته تجاه الأشياء إلى حد الهستيريا والجنون لا يتردد في الإمساك بالمفتاح وإدارته في القفل ليكتشف الأعماق دفعة واحدة. بل إن هذا الملتحي الروسي المتشبه بالأنبياء يطلب منّي في إحدى رواياته، أنا القارئ البائس، أن أقوم بتجربة بسيطة: أن أمطر ذلك الكائن البشري بالنعيم وأن أغرقه في بحر من السعادة، وأن أمنحه الرفاه الاقتصادي بحيث لا يكون لديه ما يفعله سوى النوم والتهام الحلوى والانغماس في التناسل حفاظا على النوع. وعند ذلك يتنبأ دوستويفسكي أن ذلك الكائن لا بد أن يبادر آنذاك، انطلاقا من الجحود والرغبة في المناكدة إلى ارتكاب حيلة قذرة يعرّض فيها حلواه للخطر. بل إنه يلقي بنفسه عن عمد في تهلكة الرغبة بالحصول على أشد القاذورات إيذاء، وعلى أشد المكاسب الاقتصادية خواء من المعنى، فقط من أجل أن يفسد عقله بهذا العنصر الخيالي المهلك!».
وفي صفحة أخرى من المذكّرات سجّلت الكلمات التالية «عندما أصبح صديقي الدمشقي الرائع الذي كان يشبع رأسي بالكلام عن ضرورة الانسجام بين السلوك والعقيدة، مسؤولا يحتفي بالمسؤولين الكبار الآكلين لحوم شعوبهم أشبه بحامل المنشفة في حمام تركي، أدركت أن البهلول الذي عرفته قد تحول كالحرباء المدربة إلى بهلوان نموذجي.
ولكن صديقي يصرّ على أن ولاءه للمبادئ ثابت لا يتغير، وأنه يدرك أن الانهيار الذي وصلت إليه جمهورية العرابين والعيارين والشطار واللصوص لا يمكن الدفاع عنه بأيّ حال.. ولكن ما العمل؟».
ومقابل هذا الاعتراف البسيط والخطير يصر على الدعوة إلى تفهم ظرفه الوجودي الحرج. فهو على حد تعبير أحد الفلاسفة أشبه براكب منطاد طائر لا يشعر أنه يصعد في السماء وإنما هو يرى الأرض تغور وتغوص تحته باستمرار.