مولانا أبو خروف
مشهد لا يفارقني
كنتُ صغيرًا في يد والدي -رحمه الله- حين زرتُ شارع النبي دانيال، وأذكر أني تحدثت عن ذلك في مرات وفي مقالات، ولا أعرف لماذا كلما تكافئني الكتابة أتذكر ذلك المشهد، حين يستحثني على تصوير المشاهدات وتخزينها في ذاكرة الروح قبل أن تظهر «الذاكرة الديجيتال» ذلك الوالد الطيب الجميل؛ لتنطبع أكشاك باعة الكتب على مرّ تاريخي وعلاقاتي المتأرجحة مع تلك المدينة شديدة البعد، واللصيقة في آن واحد، ولتتحوّل علاقاتي بها إلى نوع من الجدل الدائم، وكثيرًا ما ولّد أكثر ما أنتجته كتابيًا وفنيًا فيها ولأجلها.
ربما كانت روايتي «لا للإسكندرية» محاولة للانتصار على تلك المدينة التي سيطر مشهد شارعها -النبي دانيال، قريبًا من مقر عمل والدي في شارع فؤاد- وصار نقطة أعود إليها كلما طاوعها بحرها على هزيمتي أو انتكاساتي، وأنا رجل بطبعي قلوق جدًا، أشبه بحرها الذي لا يهدأ إلا في أوقات خاصة لمن يعرفه ويعرفها جيدًا.
عكس الاتجاه
أعجب ما في انتقالي إلى المدينة كان عكس ما تتجه عادة الناس في مصر حيث المدن الكبيرة والمركزية، إذ ولمّا كانت نشأتي في قرية للصيادين تمخّضت عنها هجرة إلى القاهرة، والتي ابتلعتني وملكت شغافي، إلا ولأنّه كما قلت، ولأنّي قلوق بطبعي، قررت في لحظة من لحظات القلق تلك التوجه نحو تلك المدينة القريبة من مسقط رأسي، والبعيدة نوعًا عن كل توجّهاتي، بل إن علاقاتي الإنسانية والنفسية بها ليست بذات حظوة في نفسي، فكما تركت في روحي مشهد أكشاش بيع الكتب وفرح لم أره في حياتي يومها، تركت كذلك مشهد سيارة الإسعاف التي تحمل نفس الرجل -والدي- المسجّى في ثوب أبيض، عرفت فيما بعد أنه كفن الموتى.
هكذا عوّدتني الإسكندرية وشكّلت روحي نحوها، واستمرت على ذلك الحال حتى انتهت إقامتي بها منذ عقد وسنوات. لا تعطي صديقًا إلا وأخذت في المقابل من مجموع أصدقاء آخرين كنتُ أظنني أدّخرهم للزمن والغربة. نعم، الغربة. وربما حتى وقت قريب كنت فيها بروح الغريب الفزِع.
هكذا صار حالي بين العطاء ثم الأخذ، ورحت أتربّص بها بعدما باتت تترصّدني قبلاً. فلماذا ترصّدتني الإسكندرية؟ ولماذا لم تفلح أن تمحو المشاهد المترادفة للفقد التي توالت عبر رحلتي فيها -وإلى الآن- طوال سنواتي التي تخطت الأربعين بقليل؟!
مشّاء الإسكندرية
سأعترف هنا اعترافا، ربما يندهش له البعض، حين أقول بأنني بعد معرفتي بتجربته وعلاقته بالإسكندرية؛ سعيت إلى شخص «الشاعر علاء خالد» -البديع- ذلك المشّاء الذي يستثمر في المكان قدر جهده الإنساني والأدبي والفني، لتتلبّسه تلك المدينة وتتصالح معه، أعترف أنني حاولت التقرب منه في بداية معرفتي به إذ ربما أجد عند الرجل ما يبرر لي صلحًا نهائيًا مع مدينته؛ تلك التي لم تهدأ في شدها وجذبها معي طوال سنواتي. قابلت الرجل، وتابعت كتاباته، ومقالاته في هدوء وببعض المواربة، فتسللت مدينته من جديد نحو روحي عبر سمت الرجل وكل ما يكتب ويقول، وأعادتني إلى أكشاش الكتب طفلا صغيرًا يعبر من شارع فؤاد إلى شارع النبي دانيال، تزكم أنفه رائحة الكتب القديمة التي خلعت عليّ روحي للأبد من سرّها يوم طلب منه والده أن يتأمل كل تلك الكتب على ضفتي نهر الشارع. وعرفت كيف يمكن أن نستثمر لأجل المكان واكتشاف جماله الخاص -ولو على المستوى الشخصي- لا أن نستثمر المكان نفسه لأجل ما نفعل.
مولانا أبو خروف
في رحلتي مع الإسكندرية، ولظروف عملي الوظيفية كمدرس بالتربية والتعليم، وقبل أن أقابل «علاء خالد»، شاءت الإسكندرية أن تموضعني في عشوائية في شرق المدينة بحي العصافرة، منطقة «أبي خروف». وحين استقر عملي بها، وعبر ضيق شوارعها التي راحت تخنق روحي، فتُأزّم علاقتي مع المدينة من جديد، عرفت أن الإسكندرية تنتصر مرة أخرى من جديد، قررت ألا أتصالح هذه المرة، وأن أعترض في وجه المدينة القبيح -حينها في ظني- وأن أظل على نديّتي معها، وراحت روح روحي تغلي وتغلي، حتى انفجرت بالكتابة؛ فأنتج جُلّ منتوجي الأدبي والفني هناك ومن وحي شخوص المكان وحكاياته، فكان سيناريو فيلم «الناحية التانية» 2010 -مهرجان الفيلم ببرلين للفيلم المستقل نوفمبر 2010- ثم نصوص كتاب «مكتنزة» 2011، و»العاصمة السرية» 2012، وسيناريو «النُص الحلو» 2015، ورواية «تغريبة بني صابر»، وغيرها من الكتب، وآخرها مشروعي الروائي الجديد «مولانا أبو خروف»، مُضافًا إلى ذلك كثير من كتاباتي النقدية والبحثية التي حرّكها وجودي في المكان.
ببساطة تحوّل الوجه القبيح إلى أوسم الوجوه بعد أن وجدت حروفي هناك، بل روحي، فصرت أكتب وأكتب مدفوعًا بتلك الروح التي وجدتها في «أبي خروف»، ومحاولا ألا تتفلّت منّي محبّتها وما خلعته من أحلام وخيال وأفكار وكتابة، كأن زهرة روحي أبت ألا تتفتح إلا هناك.
أطفال الخيال
لم تكن تلك الروح بخيلة على شخصي في «أبي خروف»، إذ منّت عليّ بفكرة إقامة مشروع «ورشة كتابة إبداعية.. أنا أكتب؛ إذن أنا موجود» لتلاميذ المدرسة التي أعمل بها -مدرسة طارق بن زياد الإعدادية المسائية للبنين- ليتحمس لها تلاميذ كُثر في البداية، وتنتهي الورشة على ثمانية تلاميذ لا يتعدّى سنّ أكبرهم أربع عشرة سنة، وينتظمون لشهور تخطت الخمسة في تمارين الورشة للكتابة الإبداعية. طوال زمن الورشة، والذي كان أكثره في شتاء الإسكندرية هذا العام، تحمّل معي هؤلاء الأطفال عصبيتي في حين، وتشاركوا دهشتي حول النصوص التي أنتجوها خلال الورشة، للدرجة التي تجعلني أقولها بضمير مستريح بأن بعضهم في خياله فاق بعض هؤلاء من حملة كارنيهات الانتساب إلى عضوية «اتحاد كتاب مصر»، بل لا أبالغ أن خيالهم الخصب يفوق خيال حكومتنا منعدمة الخيال.
هؤلاء الأطفال كانوا عطاءً غير متوقع من «أبي خروف»، رحت أرى بعدها الإسكندرية تبتسم إليّ وتعيد مشهد أكشاش الكتب القديم إلى روحي، فأعكف على مسودّات روايتي الجديدة -تحت الطبع- «مولانا أبو خروف»، لأعرف أن للكتابة جمالا لا نُدركه إلا حين نُخلص للكتابة كمنحة تجعل من صاحبها إنسانًا يمكن أن يغيّر من كل شيء بإخلاصه لخياله ولقلمه، واحترام ما يفعله، دون أن ينسى أنها وحدها من تمنح صاحبها حيوات وحيوات تستحق أن تُعاش حتى ولو كانت حياة موازية.
تحية أخيرة
الآن أعرف بعد تجربة الورشة مع تلاميذي الأعزاء (علاء السيد، وعبدالرحمن محمد على، وعمر أيمن، وأحمد جاد، وشادي إبراهيم، وعلي محمد، وعبدالرحمن عادل، ومحمد مجدي)، بأن وجودي مرتهن بالكتابة، فنحن حين نكتب، نكتب لنحيا، وكلما كان الخيال كانت لنا فرصة أفضل للحياة والأحلام، حتى ولو كُنا في «أبي خروف» المنسية والبعيدة عن بؤرة النُخب والمثقفين في وسط المدينة المركزي الطبقي.
هذا المقال تحية ومحبة إليكم وإلى أبي خروف التي سكنت فيها روحي بالكتابة منها وعنها.