نازك الملائكة التّمرّس النسوي في النقد الأدبي
من بديهيات النظر العقلي أنَّ العالم يقوم على الاختلاف، وقد نصَّ أفلاطون على الحسي واللاحسي، وأنَّ كل كيفٍ هو صيرورة. والاختلاف هو الأصل والمآل وهو التفاضل واللاتفاضل، أو هو التعيين الواقعي لما هو غير متعين واللحظة التي فيها يصبح المتعين واللامتعين واحدا. وأساس الاختلاف كما يرى جيل دولوز هو اليقين حين نصنعه وعدم اليقين حين يصنع نفسه، مؤكدًا أنَّ الفكر هو الذي يصنع الاختلاف، وأمّا التكرار فهو مضاد الاختلاف لأنَّ معنى التكرار يفضي إلى التشابه والتعادل الكمي النوعي في نظام القوانين والذوات؛ بينما الاختلاف هو التنوع والغيرية في التفكير في أحوال الوجود (ينظر: الاختلاف والتكرار، جيل دولوز، ترجمة وفاء شعبان، ص95 ـ97). والاختلاف ليس سلبيا بالمفهوم الدولوزي لأنه يشكل (التوليف اللامتناظر الحسي) الذي به يغدو الاختلاف ليس المتنوع والمنوع؛ وإنما المعطى الذي به يعطى المتنوع.
ولأجل إدراك سياقات الاختلاف لا بد من الترهينات في المكان والزمان والوعي والمخيلة، التي تتطلبها دينامية العملية النقدية كمّا وكيفا امتدادا وتوليفا وائتلافا وتناظرا وتعاليا وتدانيا. وبحسب دولوز فإن الاختلاف لا يصير مفكَرا فيه؛ إلا إذا كان مكبوحا وخاضعا لفعل التمثل الرباعي في العقل وكالاتي: 1) الهوية في المفهوم 2) التعارض في المحمول 3) التماثل في الحكم 4) التشابه في الإدراك (ينظر: المرجع السابق، ص 485) ووفقا لهذه الرباعية للعقل تكون الهوية هي العقل العارف، والتعارض هو العقل التعارضي، والتماثل هو العقل الماهوي، والإدراك هو العقل الفاعل.
وإذا خصصنا الاختلاف في حدود الجزئية الأولى أعني الهوية؛ فإن حدود التمثل في العقل ستتشكل في تصنيفات شتى، أهمها ثنائية النوع الاجتماعي (الجندري) المرأة/الرجل، فكيف يكون فعل الاختلاف متجسدا في تفكيريهما ؟ وهل يتساويان فيهما، بمعنى أن العقل العارف عندهما أيكون واحدًا؟
ليس يسيرًا البت في مسألة كهذه، لا لأننا ما زلنا “لم نفكر بعد وما زلنا بعيدين عن الفكر” كما يقول مارتن هيدغر، بل لأن دراسات النوع الاجتماعي، وبالرغم من ظهور نظريات في الأنوثة ومركزية الذكورة والجندر والنسوية والتابع وغيرها؛ لم تقف بعد على أرضية نظرية ناجزة أو قريبة إلى الإنجاز تتعلق بهذا الخصوص.
وإذا اخترنا من نظريات النوع الاجتماعي النظرية النسوية وركزنا عليها بسبب ما لها من امتداد فكري عريض؛ فإن المسألة ستتحدد في المرأة بوصفها نوعا اجتماعيا له كينونته وهويته كما أن له صيرورته الدينامية وخصوصيته الجنوسية المتأبية على المطابقة والمجبولة على الاختلاف. والاختلاف هو الذي يمنح الخطاب النسوي نسقية متفردة بها تهيمن الأنثوية على الذكورية، فتغدو للمرأة سطوتها التي بها تتحصّن من الاستغلال الذي مارسه الرجل عليها عهودا طويلة ليبقى هو الهرم الذي قاعدته المرأة التي هي بالنسبة إليه موضوع وفكرة ليس إلا. ولا تُستثنى من هذا التوصيف المرأة الكاتبة التي هي ايضا خاضعة بشكل جلي لسطوة الآخر، وعت ذلك أم لم تعيه. فتلبست بروح الذكورية وصار فعلها العقلي يخدم النسق الذكوري ويسهم في تمتينه، راضية للآخر أن يهمش كينونتها، مقتنعة بالتابعية في “معاملتها على أنها حالات خاصة” (الأدب والنسوية، بام موريس، ص 100).
وفي ظل ذيوع نظريات النسوية أصبح للخطاب الذي تنتجه المرأة الكاتبة تميز وخصوصية كونها حاولت فيه “أن تنتقم باستعمال أسلحة الرجال فتتكلم عوضا عن أن تصغي وتشرح أفكارها بكل إسهاب وتعارض محادثيها عوضا عن الموافقة على آرائهم وتحاول التغلب عليهم.. وأن الرجال بدأوا يسلّمون بالشروط الجديدة لحياة المرأة على أنه واقع لا بد منه وأخذت المرأة تشعر بالراحة بدورها لأنها لم تعد محكوما عليها بالبقاء في أوضاع التبعية” (الجنس الآخر، سيمون دي بوفوار، ص313).
ومؤدى القول أن الكتابة عند المرأة المتسمة بالاختلاف هي خير وسيلة لتثوير الفكر وقلبه، وعندها لن ترى المرأة نفسها هامشا؛ بل تراها كيانا مدركا يرفض الهيمنة والتبعية الرمزية وكل ما له صلة بالمنشأ الاجتماعي والتكوين الجسدي. ومحصلة هذا الترسيخ للصورة الاستقلابية للمرأة سيجعل منها فردا مثل كل “الأفراد المختلفين يدركون ذات التأثير الخارجي بأشكال مغايرة” (أسس الفلسفة الماركسية، ف. أفاناسين، ص 172)، وهي باختلافها ستكون قادرة على التحكم في الفعل الثقافي، متجاوزة الفرضيات الثقافية حول الامبريالية والهيمنة، مقتنعة أن الزمن الإنساني ليس إلا لحظة (حدس اللحظة، غاستون باشلار، ص19)، وأن الذاكرة انعكاس لمكان متصدع.
وإذا كان هذا هو المتحقق أو المتأمل تحققه على مستوى الوعي العام؛ فما بالنا بأشكال أخرى من الوعي تتفرع عنه، ولنحدد الأمر بالوعي النقدي ونتساءل أيكون المرجوّ تحققه للمرأة الناقدة هو نفسه المرجوّ تحققه للمرأة بالعموم؟
يقينا ما تزال القبضة الذكورية هي سمة النقد الأدبي المعاصر في مختلف مستوياته المحلية منها والعالمية. وبهذه القبضة تبقى المنظومة الثقافية أبوية تمارس الوصاية بالسطوة، رافضة من يخالف هذه السطوة، طاردة من نظامها كل من يتعدى على أنساقها ومواضعاتها، مهما كان شكل ذلك التعدي اختلافا أو تضادا أو تمردا. وإذا كانت المرأة الناقدة هي المتعدية على تلك الأنساق والمواضعات، فإن ذلك لا يكون إلا نادرا، والسبب هو التكرار الذي يجعل منها نسخة تحاكي سابقاتها الناقدات اللائي اعتدن أن يحضرن بصيغة جسدية إدراكية حسية تريدها الذكورية كي تشبع غرورها المتروبولي في الهيمنة والهرمية، محكمة سطوتها على الأنوثة، ضامنة لقبضتها الدوام.
واقتران الحسية بالحميمية في النقد الذي تكتبه المرأة هو الذي يكفل للمنظومة الأبوية دوام الهيمنة، ضامنة تابعية المرأة الناقدة لها، مانعة إياها من أن تبلغ منطقة التسيد التي بها تحقق ذاتها.. فما السبيل الذي به يتمحور الوعي النسوي حول الجسد لا بصيغته الحسية وإنما بقيمته المؤمثلة بالمعرفية مجسدنا ككيان فكري مستقل؟
إن هذا التمحور سيتحقق بالاختلاف الذي به تعترف المنظومة الأبوية للمرأة بالعطاء والتفرد على مختلف الأصعدة، وبالشكل الذي يتيح للنساء الانفلات من قبضة النظام المتروبولي، متحررات من التهميش والوصاية. ولقد تمكن بعض النقاد والناقدات من ارتياد هذا السبيل مشتغلين في منطقة تقع خارج التابعية في الكتابة النقدية، ليكونوا في المركز أو قريبا منه، منهمكين بالاختلاف الذي يعطي للمرأة مشروعية منازعة الأبوية على المركزية، ومناهضة أنساقها الذكورية، فاتحين الطريق للنقاد من بعدهم أن يلجوا معترك هذا الصراع حول الأنساق تأييدا ونفيا وتوافقا وتضادا وأصالة واستنساخا.
ولعل الذي يديم هذا الصراع هو التمكن النقدي في ممارسة الاختلاف رفضا للمتعيّن واشتغالا في اللامتعين. ولقد احتلت نازك الملائكة الصدارة في ممارسة الاختلاف نقديا، بوصف الاختلاف القاعدة التي عليها تتشيد الأركان استقلابا لمسار النقد العربي وتاريخ كتابته.
وقد يقال إن المرأة أديبةً مارست الاختلاف قبل المرأة ناقدةً، فحاولت تأنيث العاشق وتهشيم فحولته وتحييد سطوته، بيد أن المتحقق الفعلي من مثل هذه المحاولات الأدبية كان يجابه دوما بدق “جرس الإنذار الفحولي كي تهب الثقافة مهيبة بحراسها ليظهروا واحدا إثر واحد في حشد نسقي يطرد الطارئ في ثورة مضادة تحفظ حق النسق وتعزز سطوته” (الزواج السردي الجنوسة النسقية، عبدالله محمد الغذامي، مجلة الحياة الثقافية، س 28، عدد 143، مارس، 2003 ص 4).
والأمر ليس كذلك على مستوى النقد لأن اختلاف المرأة جعل كتاباتها أكثر قدرة على الانفلات من قبضة الأبوية، كما أن ارتكانها إلى العقل أكثر من المخيلة وابتغاءها التجريد أكثر من التصوير هو الذي جعل فعلها النقدي يحوز على بعض الشرعية. وهذا ما وسم نازك الملائكة مثلا بالريادة النقدية جنبا إلى جنب ريادتها الحداثوية في الشعر، لتكون صورة للمرأة الناقدة المفكرة التي تتخذ من الاختلاف منهجا به تناوئ المعتاد وترفض الدغماطي وتناهض البراغماتي، متمرسة بالتقصي ومتحلية بالتجريب والأكاديمية.
ومعلوم أن نازك الملائكة خاضت غمار الاختلاف على المستويين العملي والنظري، فكانت نتيجة الأول الريادة في كتابة الشعر الحر وكانت نتيجة الثاني الريادة في التمنهج بالنقد الحداثي تنظيرا وممارسة.
فأما حداثة نازك الملائكة الشعرية فسببها الشعور أن رقدة طويلة مرَّ بها الشعر العربي طيلة القرون الماضية، وأننا ما زلنا أسرى تسيرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام، وأن شعرنا مازال في صورة قفا نبك وبانت سعاد، لذا لا مجال للتطور إلا بأن تكون اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية (ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، ص 7ـ9).
وكان حريّا بهكذا توجه اختلافي نحو ما هو غير متعين في الشعر أن يقابل بالإقرار بالريادة والاعتراف بالتأسيس؛ لكن المتحقق أن الملائكة ظلت ثالثة ثلاثة في التأسيس للحداثة الشعرية العربية. والاثنان هما عبدالوهاب البياتي وبدر شاكر السياب الذي حاز على النصيب الوافر من الاعتراف النقدي بالريادة، ليكون “أول من أعطى الحركة شواهدها الجديرة بالاحترام وكان سباقا في المجال التطبيقي” (نازك الملائكة الشعر والنظرية، عبدالجبار البصري ، ص206).
أمَّا حداثة نازك الملائكة النقدية سواء في الاستهلالات النقدية لدواوينها الشعرية، أو في تأليفها الكتب المستقلة التي اتّبعت فيها منهجيات نقدية ونقد نقدية تخصصت بالشعر العربي؛ فإنها حازت على الاعتراف بالريادة لفرادتها فضلا عن أوحديتها النسوية في النقد. وما كان لنازك أن تحظى بهذا الاعتراف لولا ما تحلت به من اختلاف جعلها أمثولة طليعية في النقدية العربية كمفكرة ومشرعة اتخذت من الحداثة مسعى حياتيا اشتغلت عليه زمنا ليس بالقليل تجاوز العقود الأخيرة من القرن العشرين. ومن مسوغات هذه الريادة أن نازك الملائكة لم تكترث بالاحتذاء بالمنوال النقدي كما لم تتقولب في البحث والتحليل على التطبيق وحسب؛ بل تعدت ذلك إلى النظر التجريدي، متخذة من الاختلاف ديدنا لها، فلم يكن يعنيها التطبيق بقدر ما يهمّها التنظير سواء بالتمثيل للقضايا النقدية أو بالاستجلاء للظواهر الأدبية.
وهذا الاختلاف في الفكر النقدي منح نازك الملائكة الجرأة في الخروج على المنهجيات المعتادة، لتتجه نحو التجديد، مناوئة المتداول والتقليدي، متمتعة بالنظر الإشكالي، مراهنة على المتغيرات لا الثوابت، معارضة التنميط النقدي، غير معتبرة الوعي وحده في النقد.
ومنذ ديوانها الأول “شظايا ورماد” ومرورا بديوانها “قرارة الموجة” ترفض الملائكة التوافق، متحيرة بإزاء أولئك الذين يريدون الجمع بين الثقافة الحديثة وتقاليد الشعر القديمة. ولقد قادها اختلافها النقدي إلى استحداث أسس فكرية وفنية قرَّبت النقد العربي من الشكلانية وجعلته متحايثا مع البنيوية، برؤية نصية تنشغل بالشكل لكنها لا تنسى المحتوى ولو بدرجة معينة. ولولا هذا النزوع الاختلافي ما كان لفكر نازك أن يتسم بالشمول متعايشا مع الفضاء القرائي تعايشا به تصبح طبقات النص مراوغة في مدياتها ومتناظرة في طبقاتها.
ومن النقاد الذين اعترفوا لنازك بالريادة الدكتور صلاح فضل الذي وجد في دراستها لهيكل القصيدة ضمن كتابها “قضايا الشعر المعاصر” محاولة تطبيقية بنيوية، لا سيما وسمها الهيكل بالتماسك والصلابة والكفاءة والتعادل التي هي خصائص تشارف خصائص البنية (ينظر: نظرية البنائية في النقد الأدبي، د. صلاح فضل، ص 479).
وحقيقة الأمر أن ريادة نازك الملائكة النقدية لم تنحصر في كتابها أعلاه ؛بل شملت كتبها كلها، على وفق رؤية تريد استقلاب النقد العربي، دافعة بعجلته نحو الحداثة. ولهذا نجدها لا تبالي بالجمع بين نظرية النص ونظرية التحليل النفسي، أو بين السيرية والنصية، مبتغية إيجاد منطقة ثقافية في الدراسة النقدية سابقة لأوانها. وهذا ما تجلى في كتابها “الصومعة والشرفة الحمراء دراسة نقدية في شعر علي محمود طه” الذي فيه وطدت الملائكة اختلاف فكرها النقدي مبتعدة عن ذاتها وتجاربها، متبعة منظورا شكليا في معالجة النصوص أيّا كانت أدبية أو نقدية.
وإذا كان متن الكتاب أعلاه يصبّ في باب النقد الشعري، فإن مقدمته تصب في باب نقد النقد، وفيها تناولت نازك أولا التحديد المعياري لسمات التبويب الجيد الذي يحفظ للكتاب النقدي تماسكه من ناحية البناء الفكري والتسلسل الموضوعي، وثانيا التوضيح لكيفيات البحث والاستقراء والاستنتاج والدراسة التحليلية والصبر عليها حتى لا يكون النقد عابرا، ولا يكون الكتاب مجموعة محاضرات أو أبحاث غير مترابطة لا يشدها سوى كونها تتناول شاعرا بعينه. وثالثا العنونة وشروطها ومنها التماشي مع عناوين الكتب للمؤلف الواحد وأن يكون اختيار العنوان حرا أصيلا متميزا بالتعبيرية التي تشخص عقدة الموضوع والعمود الفقري فيه. ورابعا الاختلاف في تشخيص شاعرية علي محمود طه وهو بيت القصيد الذي أولته نازك اهتمامها ودرسته على مستوى نقد النقد مخصوصا في مقدمة الكتاب فحسب، وسنمثل على هذا الاختلاف ومواضعه في ما سيأتي:
أولا: اختلاف أنثوي به عارضت نازك الرؤية الذكورية لنقاد كانوا قد عنوا قبلها بالشاعر علي محمود طه وهم أربعة: شوقي ضيف وأنور المعداوي ومحمد مندور وسهيل أيوب. وأساس مخالفتها لما أسندوه للشاعر من عبثية وأهوائية وحسية استمتاعية، مبني على رؤيتها الأنثوية لشعر علي محمود طه وأن فيه روحانية وهوى متساميا وانتشاء خالصا من كل لذة أو نفعية مع تلازم في التوجهين الواقعي والجمالي.
وبدءا رفضت نازك الملائكة تشبيه أنور المعداوي حب الشاعر علي محمود طه لامرأة واحدة مثل العيش في غرفة واحدة، وهذا ما رأته نازك غير إنساني لأنه ينطوي على نظرة خطيرة تقتل إنسانية الإنسان وتسلمه لقلة الإحساس والفوضى والمرض والجريمة وكأن الأصل في العاطفة الإنسانية هو اللهو والعبث والمجون أو أن الوفاء لحبيب واحد هو التكلف والانحراف. وبنزعة أنثوية تساءلت نازك “والحق أني لا أفهم كيف فات المعداوي أن يلاحظ المعاني الفكرية العميقة في هذه الأبيات.. فالمشكلة هنا أبعد من مجرد حرمان من جسد المرأة كما يريد أنور أن يستنتج” (الصومعة والشرفة الحمراء، ص10)، وكذلك تؤاخذ سهيل أيوب الذي ذهب إلى أن علي محمود طه يعد المرأة لذة جسدية وراقصة ألحان وبائعة هوى وترى في هذا وهما. وتجد في ما ذهب إليه محمد مندور في الأبيقورية اتهاما لعلي محمود طه بإمتاع الحواس الجسدية.
إن نقد نازك الملائكة ووفقا لما تقدم يمكن أن يدرج في خانة “التدميرات الضرورية” التي تعني القدرة المبدعة القادرة على قلب كل الأنظمة وكل التمثلات (ينظر:الاختلاف والتكرار، ص 136). وهذه التدميرات هي التي جعلت الملائكة ترفض الحسية وترتكن إلى الروحانية معلنة بذلك عن هوية نقدية لها سعة نفسية وامتدادية حياتية قوامها الخصب والعمق والأبعاد الفكرية الشاسعة البعيدة عن السطحية والعاطفة الحارة.
وفي هذا الطرح تستقلب نازك رؤيا العالم الذكورية التي ترى المرأة كيانا محدودا ضيقا ومسطحا كالغرفة إلى رؤيا نسوية للعالم فيها المرأة حية وشاسعة بامتداد لا نهاية له، ككيان له هوية وكذات مترامية ذات عمق وثقافة وحرارة. ولا غرو أن هذه الرؤية للعالم متقدمة في وقتها، وما كان لنازك أن تستدل عليها لولا أنها انطلقت من الاختلاف، مراهنة عليه في التشبث بالتجريد والمعارضة التي تؤاخذ وضع النظرية أوّلا كرؤية منهجية ثم الإتيان بشعر الشاعر ليتم ضغطه ضغطا شديدا يلائم تلك النظرية.
التمثيل الثاني: الاختلاف بالشدة، وهو ما تمثل عند نازك الملائكة في رفض النظريات المتداولة التي تصفها بأنها فاسدة في السوق الأدبي، باحثة عن نظرية جديدة ذات أفق نقدي جديد، نظرية لا تمالئ فيها من سبقها بل تكشف لمن سيلحقها عن جديد تجترحه. وميزة الشدة في الاختلاف التصارع بين المتضادين العقل والقلب، فالجسد كان بين يدي الشاعر علي محمود طه في مرحلته الروحية لكن عقله ساقه إلى التعالي عليه ورفض الانغماس في حمأته. والعقل بحسب نازك يحس لكن إحساسه لا يعتقل، ويمكن للعقل أن يكون إعصارا من عواطف والعنف والحدة في العاطفة يجابهه باتساع الفلسفة وامتداد الفكر. ولأن الروحانية عقلية لذلك ألقى الشاعر بنفسه في أتون الرغبة الجسدية ليكون صوفي النزعة يفنى قلبه في هوى الحسن وهذا ما يرفعه إلى خلود الروح.
وهذه التضادية عند نازك الملائكة التي هي تمثيل على الشدة في الاختلاف أساء بعض النقاد فهمها، ومنهم عبدالجبار البصري الذي وجد أن مفاضلتها بين الشعر الحر والشعر العمودي غير موضوعية لأن فيها تعصبا وتحيزا واعتسافا (نازك الملائكة الشعر والنظرية، ص 197)، واجدًا في اهتمامها بالشعر الحر عاطفة أمومة بارة تريد أن تجنّب وليدها مزالق خطرة بلغة تربوية ناصحة، وكأن لا إعمال للعقل لدى الملائكة وهي تنظر لهذا الشعر، لتستجيب من ثمّ للضغوط وتعدّل بعض النصوص المتعلقة بحاجة الشعر إلى قيود تحقق له الاتزان، لينتهي إلى أن توقعات الملائكة عن مصير الشعر الحر لم تنسجم مع ما كانت قد أسست له في بيانها الأول، حتى صار التطور عندها يشابه المحو (الصومعة والشرفة الحمراء، ص ص 236 ـ 237).
والذي نأخذه على الناقد البصري أنه لم يفصل بين هوية الملائكة شاعرة وهويتها ناقدة. مع أن الفصل بين الهويتين موجود في نقدنا الذي يتعامل مع رجال شعراء نقاد كسامي مهدي وخزعل الماجدي وعلي العلاق وغيرهم. ولعل السبب هو النظرة الذكورية التي تريد من الناقدة أن تكون تكرارا للذكورية لا صوتا مستقلا سمته الاختلاف. وليس خافيا أن نازك الملائكة اتجهت بقصدية نحو التنظير مفكرة في الحداثة، متبنية جدل المتضادات التي تثير التساؤلات وتغوص في الأعماق. لا رغبة في التصدر والتعالي انبهارا بالطروحات الغربية وإنما هو البحث الجاد الدؤوب عن الجمال كقيمة فكرية تسوّق إلى الخلود وتحول دون الفناء.
وما السبيل إلى ذلك إلا بالشدة في الاختلاف التي تجلت واضحة في نظرتها المتعالية على الجسد بالأبعاد الفكرية التي تنطوي عليها روحانية علي محمود طه. وكذلك تجلت في التعارض بين الجانبين: جانب الصومعة (المرحلة الروحية) وجانب الشرفة الحمراء (المرحلة الجسدية) فلا ننكر أيّا منهما وإنما نصوغ نظرية تفسيرية تستوعبهما معا، وصولا إلى حكم شامل لتفاصيل الموقف كلها. فالملائكة ترى أن الاختلاف بين الجسدية والروحية الخالصة يتلاشى إذا ما سلّمنا بفكرتي الهروب النفسي والالتصاق بالواقع، وهذا الاختلاف بالاتفاق والتضاد بين هاتين الفكرتين هو الذي يجعل الأفق النظري للنقد أفقا مستوعبا أكثر من منهج، ولهذا لا تجرم نازك الشاعر في تعليلاتها كما لا تصدر أحكاما قاطعة في أعقاب تحليلاتها.
ونازك مقتنعة أن الرؤية السيرية أو التاريخية التي تقتضي الرجوع إلى أقرب الناس إلى الشاعر ورسائله الشخصية هي رؤية تقليدية لكن اقترانها بالرؤيتين النفسية والجمالية سيزيدها عمقا وفلسفة. وهذه انتباهة نقدية سابقة لأوانها على مستوى النقد العربي أعني المزاوجة بين أثر السيرة والدراسة الخالصة. وبهذا تدخل نازك الملائكة منطقة الوصف وتغادر منطقة التقدير، رافضة الأحكام العجلى التي لا تتأمل أو لا تستغور الحدود الشاسعة.
ثالثا: الاختلاف بالهيمنة الذي يجعل نازك تتحول من كيان مكتوب عليه أن يكون ضحية للأخر (الناقد والناشر والمصحح اللغوي) إلى كينونة كتابية عليها أن تعترف، كقولها “فصيغ حولي سياج عال من الفرضيات الخيالية، ولست أشك في أن سواي من الشعراء قد تعرضوا لمثل هذا الظلم أيضا فذهبوا طعما سهلا لنظرية هوجاء لا يعرفون لها أساسا في حياتهم” (الصومعة والشرفة الحمراء، ص14)، وكذلك عليها تكاشف قارئها بدواخل النقد لديها غير متوانية عن إعلان رغبتها في الاختلاف نقديا.
واختلافها هو الذي يجعلها تعترف على الأخر الذي اعتقد أنها أضعف من الاعتراف، ومن ذلك اتهامها الشاعر صالح جودت الذي كان زميلا للشاعر علي محمود طه فكتبت له رسالة أرادت فيها أن يمدها بالمعلومات فما كان لهذا الزميل إلا أن قام بنشر الرسالة في إحدى صحف القاهرة بدلا من أن يردّ عليها. فاتهمته بقلة الذوق لعدم استئذانها في النشر ووسمته باللاحضارية، وما اعترافها هذا سوى إشهار بهيمنتها وتدليل على اختلافها.
واختلاف نازك يجعلها توجه الاتهام واللوم لبعض المصححين والناشرين الذين لم يحترموا مكانتها وقدرتها اللغوية فراحوا يغيرون في طباعة نصوص كتابها موضع الرصد جاعلين الصحيح غلطا، فمثلا شطب المصحح عبارتها (ساهم مساهمة) بالفعل الغالط الشائع (أسهم إسهاما) وأبدل (كلتا المسرحتين) بـ(كلتي المسرحيتين) ظنا منه أن كلتا تعرب بالحروف حتى وهي مضافة إلى اسم ظاهر وبجرأة تصف نازك هذا الفعل وما يشاكله بـ”صلافة الجهل” و”التعالم”.
وتعد ظاهرة تخطئة المصحح للمؤلف ظاهرة خطيرة على دور النشر أن تنتبه إليها ملزمة المصححين بالتعبير عن وجهة نظر المؤلف كي لا ينسب إليه ما ليس له.
وتصرّح بوجهة نظر نقدية تنطلق فيها من ذات متعالية تتسم بالصرامة وهي ترى أن المؤلف إذا غلط فهذه مسؤوليته أمام القارئ يدلل بها على وجهة نظره ومستواه الفكري أما المصحح الذي يصحح فيبقى مجهولا وإن صحح ولن يحاسبه القارئ لأنه أخطأ أو أنه صحح. ولا يقتصر لومها على المصححين وحدهم بل تتجاوزه إلى بعض الناشرين الذين لا يقفون إلى صفها في شكواها. وفي هذا تعبير عن جرأة، سببها النزوع القويّ لديها نحو الاختلاف.
رابعا: الاختلاف في تبني التيارات والتوجهات هو الذي جعل نازك لا هي من دعاة الالتزام ولا هي من دعاة الفن الخالص المنزّه عن الأغراض. ومن ثم تؤاخذ الشعراء الذين ينساقون إلى واحد من التوجهات كنزار قباني وسليمان العيسى، كما لم تساير نازك الشعراء التقليديين الذين تصفهم بالضعف السمعي الذي لم يقع فيه شعراء المهجر لأنهم مرّنوا سمعهم على ما هو دقيق من لفتات الوزن.
ولقد ساهم اختلافها هذا في جعلها شاعرة تنتقد شعر العمود بنزوع ذهني ليس فيه إغراق عاطفي وهو ما أفضى بها لأن تكون ناقدة تجمع الجمال بالاستغوار المعرفي، متجاوزة الحسي إلى الذهني حتى تفردت بأصالة وتمتعت بآماد فكرية نخبوية هي في الأساس نسوية.
ومن دلائل الاختلاف في التبني للتوجهات أنها غدت بنيوية حين وجدت أن دراستها هذه “لا تتصل بسيرة حياة الشاعر وإنما هي دراسة نقد وتقييم لشعره وحده؛ فإذا مست أحداث حياته فإنه مساس عرضي جانبي” (الصومعة والشرفة الحمراء، ص 14).
وليس غريبا أن يجد قارئ كتاب “الصومعة والشرفة الحمراء” نازك الملائكة ناقدة تتناول القصيدة بذائقة نخبوية لا تنظر للمضامين بمعزل عن الشكل ولا تسلّم بالمناهج المتداولة، شاعرة أن النقد بحاجة إلى استنباط مناهج جديدة تلج ميادين المعرفة المختلفة. ولعل هذا هو الذي وصل بها إلى منطقة التفكر بالاختلاف. وقد لا نخالف جادة الصواب إذا جزمنا بأن النقد العراقي منذ منتصف الخمسينات إلى مطلع الثمانينات، وهي المدة التي ألفت فيها نازك كتابها وطبعته وأعادت طبعه أكثر من مرة، قد دخل إلى منطقة التفكر بالاختلاف خروجا عن المتداول النقدي العربي بكل ما فيه من ظواهر ومصطلحات ومفاهيم.
من هنا كانت نازك الملائكة رائدة الحداثة النقدية وهي تبحث خارج إطار المنظومة النقدية الذكورية طامحة بلوغ معايير في التعامل النقدي تهتم بروح النص غير متحرزة من تعددية الرؤية النقدية.. بيد أن مشروعها الرائد هذا لم تقابله المنظومة الأبوية بالحفاوة لا بسبب اختلافه وخروجه على النسق المعتاد وإنما لأن رؤيته المستقبلية للنقد لم تستوعب الاستيعاب التام، ولذلك لم يفهم النقاد نازك كناقدة وإنما ظل النظر إليها كشاعرة ينسحب على فاعلياتها الإنسانية الأخرى مربية وأستاذة ومحاضرة ترفض الحديث عن تجربتها الشعرية كي لا تكرر نفسها.
ولو نُظر إلى نازك الملائكة بمعزل عن صورتها كشاعرة لاعتُرف لها بأنها صاحبة مشروع هي فيه ناقدة مفكرة ذات منظور أصيل وجديد لا يختلف عن مشاريع كبار النقاد الغربيين كريشاردز وإليوت وبارت، نظرا لما أعلنته عمليا ونظريا من رفض للتقليدية والمعتادية في النقد، جامعة السيرة بالنصية وعلم النفس بالألسنية والسياقية بالمحايثة.
ولأنها نأت بنفسها عن التقوقع على التراث النقدي وانفتحت على النقد الأنكلوسكسوني، لذلك استطاعت تشييد فضاء فكري واع في النقد العربي يبتعد عن الذاتية والفوضى ويرفض الإقصاء والتنابذ في التعامل مع الذات والموضوع. وما اتجاه نازك صوب الاختلاف في النظر إلا بحث عن التجانس في النقد الذي ليس فيه استهلاك؛ بل إنتاج لصيرورة جديدة للجمال لا تميز الموضوع عن شكله.
وليس للناقد أن يبلغ الاختلاف ويبتعد عن التكرار إلا إذا آمن بالتفكر في فلسفة الإبداع، وسعى نحو التجديد هوية وذاكرة ووعيا وتمثيلا. وهو ما تجسد عند نازك الملائكة في أغلب كتبها، لتكون في مقدمة النقاد العرب الذين ألهمهم حسهم الإبداعي أصول الاختلاف، وقد تقابلَ عندهم الفكر الحسي بالحس الفكري والأمثولة بالمؤمثل برؤى فاحصة تستلهم الماضي وتستقبل القادم متنبِئين بجديده.