نجوان درويش في جنّته
في قراءتي للشعر لطالما راودني سؤال أُكرِّره على نفسي: ما الذي يجعل من نصٍ ما نصَّ شاعر (ومن آخر مجرّد عبثٍ لغويٍ وبلا غاية) هل هي الخبرة؟ التجربة؟ المعرفة؟ وها أنا أكرر السؤال نفسه مع “استيقظْنا مرّةً في الجنّة”، المجموعة السابعة للشاعر الفلسطيني نجوان درويش الصادرة عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” و”دار الفيل” 2020، وفي طبعة ثانية عن دار نشر “درج” البغدادية سنة 2021.
ساهَمَت تقنيات المونتاج والتصوير الدقيق والحِيَل المبتكرة بتقديم ثقافات العالم وجغرافيَّتها بأقرب وأسرع ما يمكن تخيّله. هذه التقنيات تقوم كذلك على الاختزال والتكثيف، كما هو الحال مع النص الشعري، إذ يمكن أن نشهد عملية انطلاق رَحّالةٍ ما من مدرج المطار وحتى هدفه في الجهة الأُخرى من العالم بدقيقةٍ واحدة، ويمكن أن نشهد إعداد أشهى الأطباق وحتى جهوزيَّتها للأكل بأقل من ذلك، فيما نشاهد، ونشارك، ونتذوق من خلف الشاشات، نظنّ أن كل شيءٍ يمكن أن يكون بتلك السهولة.
الحقيقة تكمن في الكواليس، حيث كلّ شيءٍ لا يجري كما نتوقَّع.
تجري عملية الكتابة الشعرية بذات التقنية التي تجري بها عملية منتجة الفيديوهات واختزالها وتكثيفها، وخلف كل هذه العمليات هناك خلق وإعداد، كركبة واشتغال، تهديم وبناء، ومحاولات مُجهدة، وصولًا إلى مرحلة الرضا والشعور بجمال ما أُنتج، ليشهد القارئ في ما بعد، نصًّا يحتاج بعد قراءته إلى أن يغمض عينيه، ليعيش حالة من الانفعالات النفسية التي تعقب كل تذوّقٍ ولذة.
هنا أقول إن خلف نصوص نجوان درويش ماكنة تعمل بدقةٍ متناهية، بدءًا من اللحظة الأولى مع النص، وحتى إتمامه، هذه الماكنة تعرف جيِّدًا كيف تُمنتج، كيف تختزل، تتنقل، تُسرع وتُبطئ، تصوّر وتدهش، ولا يمكن معها أن يكون غير ذلك.
أحيانًا يُقدِّم الكاتب نصّه للقراءة فقط، أي يُقرأ لمرةٍ واحدة، ثم يُنسى، وأحيانًا يقدمه ليبقى في الذاكرة، بما يختزنه من جمالية وصورة وأبعاد، وأحيانًا يقدّم الكاتب نصّه محمّلًا بما سبق إضافةً الى أنه يقدم درسًا ضمنيًّا في كيفيَّة كتابته، وهذا الدرس لا يمكن تقديمه إلا من كاتبٍ يعرف كيف يحرّك حروفه وكلماته، ويشكّل جُمَلَه، ويبني نصه، ولا يمكن فهم الدرس إلا لقارئٍ يعرف كيف يقرأ، كيف يدخل إلى النص، وكيف يدرك ماهيته.
في مجموعته كان نجوان درويش يقدّم درسًا في ذلك، وكأنَّه يقول إن النص الشاعر يمكن أن يكون بهذه البساطة، بهذه التقنية، والحرفية، والبناء المتماسك، والإبداع في خلق الفكرة واستدعاء الصورة من دون الدخول في دهاليز اللغة المعقدة، أو التكثيف المجنون الذي يحوّل النص الى جثةٍ بلا روح، إذ أن الشاعريَّة لا تستدعي هذا الإجهاد في محاولةٍ لإثباتها.
على مستوى العلاقة بين الكاتب والقارئ، فإن الكاتب صديق كل القرّاء، على عكس القارئ الذي قد لا يكون صديقًا لكلِّ من يكتب، هذه الصداقة تنبني على قراءة نصٍ ما، أو مصادفة اقتباسٍ أو كتاب، وتكمن في المشاعر فقط، لا على مستوى التواصل والكلام، إنما في ما يشعر به القارئ الذي يلتذّ بما يقرأ، فيصبح كاتب هذا النص ومن لحظة الإعجاب الأولى صديقًا بحكم القراءة.
تبدأ علاقتي بشعر نجوان درويش هكذا، إذ أن الأول لكلينا ابتدأ عند نصٍ ما، قرأه لي في مكانٍ لا أعرفه، ربما بجوار شرفةٍ تطل على حيفا، أو قرب سور عكّا، وقرأته له في مكان لم يتخيّله هو، قد يكون تحت نخلةٍ ما، أو قرب نبعٍ تفجّر للتو، وبحكم القراءة أولًا، ثم الحكم على جودة ما قرأنا، تكوّنت الصداقة التلقائية، مجتازةً مدنًا، وشوارعًا، وأزقةً، وحقولًا، وأنهارًا، وأسلاكًا شائكة.
في “استيقظنا مرَّةً في الجنّة” يشتغل نجوان درويش على مسألة الهوية، الانتماء، التاريخ، وقضايا الأُمَّة المصيريّة، وهذا ما جعلني أتساءل، هل هناك شاعرٌ آخر مثل نجوان، يكتب بِنَفَسِ العربيِّ الذي لايزال يؤمن بقضايا الأمُّة ويتحمل مسؤوليتها؟ إذ أنه قسّم المجموعة الشعرية إلى سبعة أقسام، وأفرد القسم الأول لنصٍ واحد فقط، وكأنه لا يريد أن يُشغِلَ القارئ بنصٍ آخر، وليفسح له الفضاء الكافي لكي يقرأ النص الذي أراده أن يكون المدخل الأول لمجموعته الشعرية، هذا النص الذي عنونه بـ”بطاقة هُويَّة” قدّم فيه الشاعر هويته العربية الكونيّة، ففي النص نجد الكرديّ/الأرمني/السوريّ من بيت لحم/الجزائري الأمازيغي/العراقي/المصري/الآرامي/اليهودي المطرود من الأندلس/ليختزل كل هذه الانتماءات الوطنية والعرقية قائلًا:
“لَيْسَ مِنْ مكانٍ قاوم غُزاتَهُ إلّا وكُنتُ مِنْ أَهلِهِ،
وما مِنْ إنسانٍ حُرّ لا تَجْمَعني به قَرابَة، وما مِنْ شجرةٍ
أو غَيمةٍ لَيسَ لها أفضالٌ عليّ”.
ليختم على إعلانه ذلك قائلًا:
“وبأقلِّ من هذا لا يكون المرءُ عربيًا”.
وفي موضعٍ آخر يُشير الشاعر إلى جنَّته التي يَحلُم بها رغم اتِّساع الأرض تحته، وكأنَّه يقول بأنَّه لا بدَّ من جنّةٍ خاصةٍ به، تمثِّل بالنسبةِ إليه الرحم الأول والأخير:
“استَيْقَظنا مَرَّةً في الجَنَّة…
وفاجَأَنا الملائكةُ بالمَكانِسِ والقَشّاطات:
“تَفوح مِنْكُم رائحةُ كحول مَنَ الأَرض
وفي جُيوبِكُم قصائد وهَرْطقات”
مَهْلَكُم يا خَدَمَ الله، قُلْنا لَهُم، حُلْمُنا بصباحٍ
واحِدٍ مِنْ صَباحات حيفا
قادنا إِلى جَنَّتِكُم بالخطأ”.
التطواف في الأمكنة بأسمائها والاستشهاد بحوادث التاريخ بالإشارة مثّل العلاقة الحقيقيّة ما بين الإنسان والأرض، الارتباط الذي يمثّله، وذاكرته التي لا يمكن محوها، يتجلّى ذلك في النصوص التي عنونها بـ”قدس”، “نوم في غزة”، “باص الكوابيس إلى صبرا وشاتيلا”، “تلال بيرزيت”، “الطنطورة”، بالإضافة إلى القسم الذي خصَّصه عن مصر معنونًا إياه بـ”نيل النّاس”.
مستشهدًا بالحوادث التاريخية يكتب نجوان عن الأرمن قائلًا:
“أنا أَتَذَكَّرُهم
وأَرْكَبُ معهم باصَ الكوابيسِ كُلَّ ليلةٍ.
قهوتي هذا الصَّباح، أشربها معهم.
أنتَ أَيُّها القاتِل
من يَتَذكَّرُك؟”.
وقد عنون هذا النص بـ”مَنْ يتذكَّر الأَرمن؟” وفي الهامش إشارة إلى أن هذه العبارة منسوبة إلى النازي أدولف هتلر، وفي موضعٍ آخر ردّ على عبارة “ها قد عدنا يا صلاح الدين” والتي أشار إليها بالهامش إلى أن نسبتها إلى الجنرال الفرنسي غورو، قالها لضريح الأيوبي بعد احتلال دمشق عام 1920، يقول:
“سَأَقفُ يومًا وأقولُها
أنا الكُرديُّ سَأَقفُ يومًا وأقولُها
أنا الأمازيغيُّ صوتُكَ
سَأَقفُ يومًا أَنا العربيُّ الذي تَعرِفُهُ
سَأَقفُ يومًا وأقولُها:
ها قد انصرفوا يا صلاح الدين”.
ولأنه الشاعر الفلسطيني الذي يحمل قضيّته ويعيشها، فقد كان لهذه القضية حضور، ضمنًا كما في نصوص ” لم يعد لنا ما نضيّعه”، “نوم في غزة”، “الليلة حلمتُ بأنكِ متِّ”، وانفرادًا بأُخرى، ففي نص صهيون يقول:
“في بالي قصيدةٌ صغيرةً عَنْ صهيون
جَبَلي الصَّغير
(عاثِر الحظِّ بَيْنَ تِلال القُدس)
الغافي على مِخَدَّة مِنَ الدَّمْع
النائم – إلى الأبد – في النَّدَم.
وإن حَدَثَ ولَم أكتُبها
يكونُ “الصهاينة” وقتَها قد نَجَحوا بِقَتْلي”.
قبل أن أنتهي، أودّ أن أشير أيضًا إلى أن الشاعر حين يُعدُّ مجموعته الشعريّة للنشر، يشتغل على الجانب الفني بعنايةٍ فائقة، فمفهوم المجموعة الشعريّة عنده يختلف عن الآخرين، إذ أن النصوص عنده تخضع لقوانين المجاورة، والمناسبة، والحدث، والتكثيف، والموضوع، وليسَ عبثًا أو مصادفة تجيء النصوص بتلك الهندسة التي يلحظها القارئ على مدى المجموعة.
وختامًا، لو لم ينشر نجوان درويش في حياته مجموعةً سوى “استيقظنا مرةً في الجنّة ” لكفاه.