نزار قباني بلا نقّاد الشاعر مكتفياً بذاته

الثلاثاء 2018/05/01
لوحة: محمد عبد الرسول

وقد أبان نزار قبّاني في شعره وفي تصريحاته النثريّة أنّه يعي حقيقة الموقفين منه، ويتفهّم طبيعة الإبداع الشعري وخصوصيّته، لذلك وجدناه يبشّر بـ”إنسان الشعر” منذ بداياته، ويعرّف بالشعر وبأهمّيّته في حياة الإنسان العربي وثقافته على وجه التحديد، حتّى أفرد كتاباً كاملاً من كتبه تحت عنوان “ما هو الشعر؟”، ولذلك وصل هذا الشاعر ببراعة وحذق إلى قلوب الناس، وأتقن مخاطبة الجماهير، كما لم يتقن ذلك غيره من شعراء جيله العرب، -وربّما أشبهه في ذلك محمود درويش من الجيل التالي له- حتّى تربّع على عرش الشعر، فكان من أشهر الشعراء العرب في العصر الحديث، وقد وعى هذا الأمر بوضوح حين قال “الشعر خطاب نكتبه للآخرين، خطاب نكتبه إلى جهة ما… وأزمة الشاعر الحديث الأولى هي أنّه أضاع عنوان الجمهور”، وأردف قائلاً “إنّ ثلاثة أرباع شعرائنا الحديثين يمارسون، عن قصد أو عن غير قصد، إقطاعاً فكريّاً وشعريّاً جعلهم منفيين خارج أسوار الذوق العام، وحوّلهم إلى كائنات خرافية تتكلم لغة أخرى. لماذا؟ لماذا يعيد موزِّع البريد قصائد شعرائنا إليهم؟ لأنّهم نسوا عنوان الشعب. هكذا بكلّ بساطة… إنّهم عاجزون عن الوصل والتواصل وعاجزون عن تحويل الشعر إلى قماش شعبي يلبسه كلّ الناس″.

فهل يمكن القول إنّه الشاعر العربي الأبرز الذي صنع الذوق الشعري العام في العالم العربي في جيلين، في النصف الثاني من القرن العشرين، حين وقف أغلب شعره على قضيّة مركزيّة إنسانية خالصة تمثّلت في الغناء للمرأة، حبّاً وغزلاً وتحريراً، فكانت موضوعاً صادقاً في شعره، وكانت ذاتاً كاملة الحضور كذلك، علاوة على شعر سياسي قومي خطابي لامس حياة الناس وقضاياهم الراهنة، فكان بذلك الشاعر المغامر والجريء في اقترابه من تابوهات الجنس والدين والسياسة، وإجادته في إطلاق سهام الحريّة على هذه الممنوعات أو المحرّمات الثلاثة.

فلسنا نوافق النقد اليساري الذي لم يستطع احتمال نزار الرومانسي أو البورجوازي المأزوم أو صاحب النزوع الأرستقراطي المنسجم مع السلطة، حسب تصنيفاتهم الظالمة. ولا نتفق مع اليمين في نقده نزاراً نقداً تراثيّاً في باب الفنّ، ونقداً أيديولوجيّاً أخلاقيّاً وتسطيحيّاً دينيّاً لحساسيّة تناوله موضوعة المرأة وتحريرها -كما فعل جدّه عمر بن أبي ربيعة- التي أشبهت إلى حدٍّ بعيد ولهَ أبي نواس بالخمرة، حتّى اختصره الناس فيها. ولا نتّفق أخيراً مع أصحاب النقد الثقافي الذين حمّلوا شعر نزار مسؤولية تخلّف العالم العربي في تعامله النسقي الثقافي الجائر، حسب رأيهم، مع المرأة فكريّاً واجتماعيّاً وإنسانيّاً.

وهكذا فإن النقد المحايث لفن نزار وإبداعه الإنساني الصادق كان نقداً سلبيّاً لهذا الإبداع الشعري الراقي والأنيق والبسيط والعميق معاً. فعبّر هذا النقد، في أغلبه، عن قصور كبير في وعي العلاقة ما بين قيمة الشاعر ومهمّته وروح الأمّة مُمثّلة في القدرة الهائلة لديه في قبضه على مجمع الذوق العام والروح الجماليّة التي يجب أن تسود حيال القضيّة التي ينذر فنّه لها؛ ليكون واحداً من كبار فنّانيها وصانعي روحها التاريخيّة الصادقة في التعبير عن لحظتها الحضاريّة بامتياز، وعن موقعها الإنساني بين الأمم.

فالذي أراه هو أنّ نزار قبّاني كان شاعر مرحلة وعاها بدقّة، في الوقت الذي وعى فيه معنى الفنّ الشعري في تكوينه وتحوّلاته وتجلّياته في نفسه هو. وكان حارساً صادقاً للذوق العام الذي يجب أن يسود بتماهي قصائده معه، وبالرقيّ بالقارئ إلى منازل جديدة في هذا الذوق يصنعها الشاعر الطليعي الذي هو نبي المرحلة. وهكذا كان نزار واحداً من شعراء الحداثة، وكان شاعراً معاصراً بامتياز، ولعلّه أدرك ذلك خير إدراك حين كتب “قصّتي مع الشعر”، بقلم الشاعر الصادق، والناقد الثاقب البصر، وصاحب السيرة المجرّب الذي لا يريد للنقّاد أن يعبثوا في المساحة الكائنة بينه وبين جمهوره الذي برع في مخاطبته، وفي صياغة ذوقه العام ضمن مرحلته الحضاريّة الصعبة التي يمرّ بها الإنسان العربي في محاولات تحرّره من الاستعمار، وفي زمن كفاحه لمواجهة سرطان الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين قضيّة الأمّة، وفي زمن تأسيس الدولة العربيّة القُطريّة المأساة والحلم معاً.

ويمكن لي القول بسهولة ويسر إنّ نزاراً كان الشاعر الأقدر على تحديد مزاياه الفنّيّة وإمكاناته الشعريّة حين بدأ بمفهوم الشعر في علاقته بالموسيقى فقال عن نفسه “لم يعبد أحد موسيقى الشعر عبادتي لها. فهي أساس البناء الشعر لديّ”، وما زال هذا الشاعر يؤمن بأهميّة الموسيقى حتّى قال بحقّ شعر من شعره ناقداً إيّاه؛ بأنّه ليس سوى موسيقى “إنّ (سامبا) على سبيل المثال، هي عمل من أعمال الموسيقى الصرفة، وإذا جرّدناها من ثوبها الموسيقي لا يبقى منها شيء..” هكذا يحدّد الشاعر مراحل وعيه مفهوم الشعر ويصدق في نقده شعره في كلّ مرحلة، فلا يدع الأمر للنقّاد.

ثمّ يتحوّل إلى مفهوم “الشعر رقص باللغة” ليصير بعدها “الرسم بالكلمات” ثمّ يصل هذا الرسم بالحريّة والتحدّي فيقول “تعلمت أنّ كلّ كلمة يرسمها الشاعر على ورقة، هي لافتة تحدٍّ في وجه العصر. وأن الكتابة هي إحداث خلخلة في نظام الأشياء وترتيبها، هي كسر قشرة الكون وتفتيتها”، ليصل في نهاية المطاف إلى نعت الشعر بأنّه وحده “هو ملك الملوك”.

ويهتدي الشاعر تقنيّاً إلى جوهر اللغة التي يريد لها أن تحمل مشروعه الشعري، وأن تسم أسلوبه الخاص الذي لا يخطئه أحد من القرّاء في انتسابه إليه، في ما أسماه بـ”اللغة الثالثة” التي يجب أن تكون لغة الشعر الحديث حسب رأيه، فهي “تأخذ من اللغة الأكاديميّة منطقها وحكمتها، ورصانتها، ومن اللغة العامّيّة حرارتها وشجاعتها وفتوحاتها الجريئة”، فقال واصفاً أسلوبه ولغته التي اجترحها لفنّه “رفعت الكلفة بيني وبين لغة (لسان العرب) و(محيط المحيط) وأقنعتها أن تجلس مع الناس في المقاهي والحدائق العامة، وتتصادق مع الأطفال والتلاميذ والعمال والفلاحين وتقرأ الصحف اليومية حتى لا تنسى الكلام”.

وكان نزار هو الشاعر الأمهر في التعامل مع قضيّته الأم وهي المرأة الوطن والوطن المرأة حسب ما يقول.

وهكذا جمع بين مفهوم الشعر في ذاته الفنّيّة المبدعة، ومفهوم الشعر نقديّاً، ووعى الدور التاريخي والحضاري الذي عليه أن يتحقّق من خلاله، فأتقن قراءة الواقع، كما أتقن قراءة شعره بنفسه؛ “إنّ القراءة الشعريّة ليست أبداً تكراراً لتجربة ميتة، إنّها بعث التجربة بلحمها ونبضها وأعصابها مرّة أخرى”. ولم يكتف بذلك، فاستطاع بحقّ أن يخلّد شعره بالغناء للجماهير العربيّة، بحناجر مطربيه وفنّانيه الكبار من جيل محمّد عبدالوهاب وأم كلثوم إلى جيل فايزة أحمد وعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفيروز ونجاح إسلام، إلى جيل ماجدة الرومي وكاظم الساهر وأصالة نصري، حتّى يوم الناس هذا.

فحقّق ذاته الشعريّة باتّصاله المباشر مع الذوق العام، وكان من صنّاعه في محيطه الثقافي العربي، وبتنحيته الذكيّة لكلّ النقاد حتّى لا يحولوا بينه وبين جمهوره الذي أضاع الشاعر العربي الحديث طريقه إليه، ما خلا القليل القليل منهم مثل محمود درويش وسعيد عقل، في هذا الباب.

فهل يكمن سر نجاح نزار قبّاني هذا النجاح في أنه أخلص للشعر والجمال والحريّة معاً، فصدق حين قال “القضيّة الوحيدة التي ترافعت عنها ولا أزال هي قضية الجمال.. والبريد الوحيد الذي دافعت عنه هو الشعر” و”الشيء الأكيد أنّه كلّما كبرت الحريّة، ازدادت الاحتمالات، وربح الشعر مساحات جديدة من الأرض لم يكن يحلم باستملاكها. وليست (قصيدة النثر) سوى واحدة من الجزر الجميلة التي أهدتها الحريّة للشعر العربي الحديث”؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.