نزار قباني كاتباً للمسرح
كتب نزار قباني مسرحية واحدة في حياته بعنوان “جمهورية جنونستان.. لبنان سابقا” ذات ثلاثة فصول في بيروت عام 1977 في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، ونشرها عام 1988، أي بعد أحد عشر عاما من كتابتها دون أي إضافة أو تعديل، فوقائع الحرب اللبنانية بعبثيتها ووحشيتها وجنونها، كما يشير، بقيت هي.. هي. والمسرحية بقيت هي.. هي.
يضعنا نزار في المسرحية منذ البداية أمام الثنائية، بل عالم من الثنائيات، ثنائية الأنا والآخر، وثنائية الجسد والفعل. وهنا تمثلت ثنائية الجسد والعقل في أبهى صورها، إذ أنه تم توطين الجسد كرد فعل مضاد للثقافة التي أقصت المرأة وحجبت عنها البوح بتخيّلات هذا الجسد، إذ تدخلت الثقافة في تحديد مفهوم جسد الأنثى على أنه عورة يجب سترها. ومن هنا جاءت قوة الأنثى على النموذج الجسدي، الذي نحته الرجل وفق مفاهيمه.
وتدرّجت في المسرحية مستويات الأنوثة من “لبنان” كأنثى تم انتهاكها وتدميرها إلى المرأة التي دخلت مع زوجها إلى لبنان، بعدما صعد المتأسلمون إلى السلطة لتواجه المرأة فكرة الانفصال عن الزوج، إلا أنها اختارت الزوج.
إذ يقول الرجل للضابط:
“الرجل: إن سفينة نوح كانت أكثر تقدمية، لأنها كانت تحمل على ظهرها الذكور والإناث دون تفريق” (المسرحية ص27).
إلا أن الضابط يصر على التفريق بين الزوجين لاختلاف الدين.
“الرجل: وهل يعني هذا أنني سأذهب إلى غيتو المسلمين وزوجتي ستذهب إلى غيتو النصارى؟
الضابط: استنتاجك صحيح” (المسرحية ص33).
لكنّ الزوجين رفضا الدخول وفضلا العودة على القرية.
ثم دخل نزار في مشهد آخر هو مشهد الصحافية الجريئة التي تحاول العبور أمام رجال الشرطة من جمهورية “جنونستان”، ودخلوا مع الفتاة الشابة الجميلة في حوار جدلي عقيم حول “رؤاهم واعتقاداتهم وإيمانهم” بالجمهورية المزعومة. لكن الفتاة وصلت أخيرا لتوظيفهم السليم وهو أن جمهورية جنونستان ما هي إلا حمل كاذب، فما كان من الضابط إلا أن أطلق عليها النار لتموت، معتقدا أنه قتل الحقيقة، وكأننا نواجهه “داعش” منذ كتابة المسرحية عام 1977. وهنا تبدو تقدمية نزار قباني كشاعر وكاتب مسرحي لنص يتيم.
وقد وظف نزار لعبة الثنائيات بسهولة في العنوان، حيث الجمع بين الجمهورية الجديدة والقديمة وبينهما “جنون” القادة، وعشق الدم والخراب تحت مسمّى الالتزام والتأسلم، وللأسف مازالت تلك اللعبة لها تجلياتها في بعض البلدان العربية.
المسرحية بحق “مليئة باللعب الذي يميط اللثام عن رموز السلطة المهيمنة ويفضحها، كما يكشف تواطؤها وتحالفها مع القوى التي تبدو كنقيض لها من منظور المصالح الضيقة دليل التناص على كشف زيف الخطايات التي يحملها” (سامح مهران، الحداثة والتراث في المسرح العربي، المركز القومي للمسرح، وزارة الثقافة، مصر، 2005، ص137).
لعب نزار قباني على فكرة قديمة متجددة عبر العديد من الذكريات التي تسبّبت في إشعال كراهية مكبوتة داخله تجاه الأسباب والظروف التي أدت إليها، وفي مقدمتها التقاليد التي تحول بين الفتاة ومن تحب، والسلطة التي تمثل هذه التقاليد، فاصطبغت شخصية الفتاة بنزعة ثورية مشاكسة، ترفض الخضوع لأي سلطان، وجاءت المسرحية منشورا تحريضيا انقلابيا يحرّض المرأة على سلطة الرجل، والمواطن على سلطة الدولة، ومن ذلك قوله:
“ثوري على شرق السبايا والتكايا والبخور
ثوري على التاريخ، وانتصري على الوهم الكبير
لا ترهبي أحدا فإن الشمس مقبرة النسور”
لقد اعتبر نزار السلطة – سواء أكانت التقاليد أم الدولة- عدوه الأول وهذا ما يفسر تمرده الدائم ومشاغباته العديدة والانقلابات الكثيرة التي مارسها على الورق في تحديه للسلطة والسلطان وما يعنيان بالنسبة إليه من إحساس متنام بالقهر والدونية اللذين يثيران البارانوية المتوهجة بداخله، والتي يوضحها قوله إن “المبدعين خلقوا ليزرعوا القنابل تحت هذا القطار العثماني العجوز الذي ينقلنا من محطة الجاهلية الأولى إلى محطة الجاهلية الثانية”.
“ولا نكون متجنين على الحقيقة حين نؤكد أن هذا الإحساس العارم بالتمرد على السلطة، والرغبة الواضحة في قهر ممثلي السلطان، قد قادا نزارا إلى الإحساس بالعجز وبالتالي ممارسة ما يمكن أن نسميه بـ’الكتابة التحريضية’، والإسراف في لوم النفس وجلد الذات” (أسامة الآلفي، نزار قباني قيل وقال، دار النبأ الوطني للنشر، القاهرة، 1998، ص9).
وأي قارئ لنزار قباني تصدمه تلك الروح التي تفيض تشاؤما وإحساسا بالدونية والهوان، فالتشاؤم هو السمة التي تميز قوله ولا عجب في ذلك، فالمسرحية عنده تتصادم مع واقع يراه غير حضاري، مع الجمهورية الجديدة، جمهورية جنونستان حيث الوضع المذري للوطن لبنان بعد الحرب، أو هي بعد التعديل.
لقد استخدم نزار الصدمة الحضارية، فجاءت المسرحية مشتعلة عنفا وعاطفة وصدقا. وكانت حماسته شديدة لقضايا المرأة، ودفاعه الدائم عن حقها في اختيار شريكها في رحلة الحياة، وشط في ذلك شططا كبيرا، نتيجة لتكوينه النفسي الذي يميل إلى المشاكسة، والمخالفة، ويرفض المصانعة والمهادنة، وبخاصة حين لمس الازدواجية التي يحياها المجتمع العربي، حين يبيح للرجل كل شيء، ويحرم المرأة من أشياء كثيرة. وتتمثل الازدواجية هنا في تقسيم الحقيقة إلى نصفين، بينما هي كل لا يتجزأ، وحتى عنوان المسرحية كان ثنائيا، حيث العنوان الرئيسي “جمهورية جنونستان”، أما الفرعي فهو “لبنان سابقا”، في إشارة إلى الازدواجية القاسية التي يحياها الوطن العربي، وخاصة في لبنان.
جدل الشعر والمسرح
لم يحظ شاعر عربي، منذ أبوالطيب المتنبي إلى يومنا هذا، بمثل ذلك الجدل الذي حظي به شخص الشاعر نزار قباني وشعره، إذ إنه – كصاحبه المتنبي- ملأ الدنيا وشغل الناس، وتباينت الآراء حوله. ويدخل ساحة الجدل عبر المسرح في واقعة هي الأولى والأخيرة في نصه المسرحي هذا وكأنه طفل يريد أن يقول كل شيء في الوقت نفسه. ذلك الطفل المشاكس الذي رفض دائما أن يرى الأشياء في أماكنها، وظلت هوايته الحميمة بعثرة أوراق اللعبة، وإعادة ترتيب الأشياء، وإعلان العصيان على كل مظاهر البلادة والتسلّط.
كان نزار قباني يتحدث دائما عن المستقبل كأنه سيعيش ألف عام، وكانت لديه قدرة عجيبة على تجاوز الأزمات والصعاب، ويرى أن قدرة الإنسان ومعدنه الحقيقي يظهران في أوقات الشدائد. وقد تجلى ذلك في هذه المسرحية عندما أرادت الصحافية أن تعبّر أن رأيها، وتقاوم جنون جمهورية جنونستان وتأسلمهم الزائف، وتديّنهم البغيض، حتى أن آخر عبارة لها كانت “جمهوريتكم حمل كاذب”، ثم أطلق عليها الرجل النار لتلقى حتفها. إلا أنها لا تموت، وظل الصوت والأثر الواضح والقرار، وأصبحت مسألة “الحمل كاذب” وسيلة وغاية ونتيجة في ذات الوقت، إلى درجة أن نزارا جعل منها جملة تؤرق صاحب المقهى طوال ربع قرن، حيث يقول:
“صاحب المقهى: ماتت، هل تظن أنها ماتت يا حكيم؟ إنني أعرف أن الموتى إذا ماتوا يذهبون إلى مكان آخر، إلا هذه المرأة فإنها تتحول حيث يهبط الظلام على شوارع المدينة، وتطرق كل البيوت وتوقظ كل النائمين، وتكتب على جدران المدينة بخط عريض… عريض.. “جنونستان.. أنتِ حمل كاذب.
معلم المدرسة: يا لها من كلمة مأثورة..
صاحب المقهى: يا لمفارقات القدر.. من يصدق أنني قتلت هذه المرأة لأنها تلفظت بهذه الكلمة المأثورة” (المسرحية ص91). مرجعاً كل شيء إلى الوهم والإدعاء والزيف ومعاداة الحقيقة، استيحاء من طبيعة الأفلام وحيلها الفنية؛ مستخدما السرد بجملته الواضحة التي تشبه جملة “كان يا ما كان” ربع قرن من الزمان، مؤكدا استمرار السرد والحكي.