نسمع بالسيارة ونتخيل بغداد بالألوان
ولدت ونشأتُ بقصبة قصية جنوب العراق، وسط الأهوار، كل ما حولنا ماء بماء، لا نعرف اليابسة إلا لماماً، ولو وصل ابن بطوطة (ت 779هـ) إلى هذا المكان لقال فيها ما قاله بغوطة دمشق لكثرة مياهها «قد سئمت أرضها كثر الماء حتى اشتاقت إلى الظمأ فتكاد تناديك بها الصم والصلاب أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب» (الرِّحلة).
فتحنا عيوننا على القارب وسيلة مواصلات. كنا نسمع بالسيارة ونعطيها أشكالاً في مخيلتنا، حتى صورتها لم تصل إلينا، فلا فوتوغراف ولا تلفزيون، مع وجود قليل من أجهزة الراديو. فالأهوار التي حظيت مؤخراً باعتراف اليونسكو إحدى المناطق الأثرية والحضارية، عاشت في عزلة طويلة عن المدن، وصلها الرحالون الغربيون، ومَن كتب عنها مِن الأكاديميين العراقيين، وأخذ فيها شهادة الدكتوراه مِن بريطانيا، كشاكر مصطفى سليم (ت 1985)، وصدر كتابه «الجبايش» مترجماً عن العربية، عاش هذا الباحث ردحاً مِن الزمن في بيت مِن قصب، وحظي بضيافة أهلي، وذلك العام 1953، وظلت الصَّلة قائمة معه، وبعد حين التقيت به وكنت بمعية والدي ببغداد.
حتى ذلك الزَّمن لم نكن نعرف السَّيارة إلا بالاسم، يقص عنها مَن سافر إلى مدينتي البصرة والنَّاصرية، والمدن التي كنا نتخيلها بالألوان، ولا أدري لماذا تخيلنا بغداد حمراء والبصرة زرقاء.
كان العام 1961 عاماً فاصلاً في ثقافتي، وثقافة جيلي بتلك المنطقة، يوم وصلت أول سيارة محمولة على سفينة حديدية (دوبة)، يوم جازفت بلدية المنطقة بشرائها وجلبها عبر الفرات، يقودها سعيد آل جوعيد، أحد شباب المنطقة، وكان سائقاً ببغداد مع الشَّيخ سالم الخيُّون.
تجمعنا على الشاطئ حيث رست السَّفينة، في شمال المنطقة، وتجمع رجال الحكومة المحلية، وفي مقدمتهم عمَّي رئيس البلدية طارق الخيُّون (ت 1993)، يتداولون مع نوخذة السَّفية وسائق السَّيارة كيفية إنزالها، ولم يكن هناك طريق معبد ولا ترابي تسلكه عند نزولها، سوى أرض يحيطها الماء، وطريق ضيق مُدّ بواسطة قوافل الحمير.
كنا مشغولين بالنَّظر إلى هذا الكائن العجيب السَّيارة (القلاب)، ولونها الأحمر، كي تبدأ بحمل التَّراب لمد شارع وسط القصبة. نزلت السَّيارة وسط اليابسة، تجمع عدد غفير مِن أهالي المنطقة، وتهاليل بالصلوات، وصعد السَّائق، وكان مضطرباً، يدور محركها ليتجه بها صوب بناية البلدية، ونحن نتقافز حولها، مع عصبية سائقها وطرد الشِّرطة لنا.
مرت أيام ونحن نحتفل بهذا الكائن العجيب، نستغل الفرصة وننظر في داخله، وكيف يتمكن السائق مِن ضبط اتجاهه شمالاً أو يميناً، ما هو سرِّ السرعة التي تدور فيها العجلات. بعد حين طلبت البلدية سيارتين (قلاب)، وأُنزلتا بالطَّريقة نفسها، ووقع جرهما بالحبال إلى اليابسة، وبفضل السيارات الثلاث مدت الطرق كتهيئة لربط قصبتنا بالمدن المجاور (البصرة والنَّاصرية)، فيتراجع دور القارب، لكنه يعود نشطاً في مواسم الفيضانات (نيسان-تموز) العارمة، والتي تُذكّر بطوفان نوح.
كانت قفزة في حياتي، وحياة أترابي، أن نرى كائناً جديداً، يسير بين بيوتنا، قبل أن نرى العجلة الهوائية أو النَّارية. كنا نصحى على صوتها، ولا نهدأ إلا بعد ركنها في كراجها، وننظر لسعيد جويعد (أول سائق بالمنطقة) كرائد فضاء.
غيّرت السَّيارة مخيلتنا عن الآلات والأدوات التكنولوجية، وأن العجلة ليست مختصة بماكنة الطحن فقط، التي يمتلكها والدي بالمنطقة، ويدور وسطها دولاب ضخم. أخذنا نُقلد السيارة بألعابنا، المصنوعة بأيدينا، بتشكيل الأسيام على عجلات، نحركها بقصبة تُربط في وسطها. كذلك غيرت السَّيارة مخيلتنا عن المدن، فما عدنا نحسبها بالألوان. إن نسيت لا أنسى وصية العجوز جارتنا الخالة سِكنة، ونحن ننتظر وصول السيارة «لا تركضوا أمامها فتدوسكم، أركضوا بجانبها»، وقد التزمنا بالوصية، فنحن أمام كائن لا يضاهى بسرعته.