نص اللاجئ
في أوائل العام 1948، وكانت قـد مرّت بضعة شُهور على سقوط “حيفا”، أكملت عصابات “الهاغاناه” اجتياحَ قرى الكرمل وتدميرها. وتوزّع أهالي هذه القـرى، ومنها عين حوض وأجزم وعين غزال وأم الزينات وأم الفحم على بقية القرى الفلسطينية متنقلين من قريةٍ إلى قريةٍ، وصـــولا إلى فلسطين الشرقية، وكان نصيب معظمهم التدفق على “جنين” وما يحيط بها.
حكاية هُؤلاء القرويين هي حكاية فلسطين كلها، حكاية مُجتمع مجزَّأ لا تنظمه دولة، ولا تقوم بشؤونه أبسطُ البلديات. وكان سقوطُ هذا المجتمع في براثن احتلال دولي منظَّم يبني دولته شيئاً فشيئاً أمراً منطقيا، ولا يحتاج تفسيره إلى أطنان من الحبر الذي سُفح بحثاً عن الذين خانوا والذين باعوا أو الجيوش مسلوبة الإرادة، وأسطورة الافتقار إلى السلاح، وكل هذا الهراء. إن مجتمعاً قروياً مثل المجتمع الفلسطيني لم يعرف طعماً للدولة منذ أقدم عصوره، وعاش في تجمعاتٍ ضئيلة بين المرتفعات والهضاب، ضيقةٍ تربطها إما روابط القرية أو العشيرة، كان يحمل مقوماتِ سقوطه أمام هذه الهجمة الدولية أو الحرب العالمية التي تخاض على رقعــة ضيقة على حد تعبير كاتب أميركي. فتساقطت قراهُ قرية قرية، ومنفردةً لا تكاد أحداها تشعر بالأخرى. والمفارقة هي أن من سيعرّفني بمصير “خربة خزعة” أو قرية “الدوايمة” التي أحرق البلغار والبولونيون والروس أهلها في مغارة كبيرة ليس ثقافتي الفلسطينية التي تجهل كل هذا، بل كتّابٌ إسرائيليون. ومن سيعرّفني في ما بعد بجمال الفدائي الفلسطيني ليس الشاعر والروائي الفلسطيني، بل الفرنسي جان جينيه الذي قضى أربع ساعات في مخيم شاتيلا عقب المذبحة، فقط ليعرف ما هو الفلسطيني، في الوقت الذي كان فيه شعراءٌ وكتابٌ فلسطينيون ينشرون هذراً بلا معنى إلى جانب مقالة جينيه في مجلة الكرمل.
لم يكن سكان قرى الكرمل، حين إعلان “دولة إسرائيل”، يعرفون أنهم معزولون عملياً عن بقية الأراضي الفلسطينية، وأن ذئاب الصهيونية خلّفتهم وراءها في اندفاعها لتصدّ ذئاباً من نوع آخر بــدأت تتصارع على الغنيمة السهلة. فظل قرويو هذه المنطقة من العالم ممسكين ببنادقهم العثمانية يواصلون إطلاق النار على خطوط مواصلات الجيش الصهيوني. ولم يتجاوز فعلُ هذه البنادق الساذجة سوى إزعاج المواصلات فترة من الزمن، قبل أن يتخذ هذا الجيش قرارَ الخلاص من هذا الإزعاج، فيجتاح قراهم ليلا واحدة بعد أخرى، ويفتح الطريق لقوافلهم لتلتحق بالعرب.
في هذا الجو وصل سكان الكرمل عبر الخطوط الإسرائيلية إلى “جنين” بعـد أن تسلّى الجنـودُ بسلب القرويين شيئا من ذهبهم وعفّوا عن أدوات الطبخ النحاسية التي كان بعضهم يحملها في أكياس على ظهره. وتوزّعَ هؤلاء بين بساتين اللوز الذي كان مثمراً آنذاك، وكان نصيب أهلي بستان لوز حظرت الأمُّ على أطفالها التقاطه. وحرصت هذه القروية على جمع ما تساقط منه ووضعه جانباً، لتأتي من ثم صاحبة البستان فتأخذه من دون أن تكلف نفسها الالتفات إلى شبهِ الكائنات البشرية التي تلتحف السماء في بستانها.
في هذا المكان بالذات وُلدت كلمة “اللاجئ”؛ أطلقها سكان “جنين” و”طولكرم” و”عانين” وبقيةُ سكان فلسطين الشرقية على هؤلاء القرويين القادمين من الساحل. وسيحظى هؤلاء بدورهم بعد بضعة أشهر باسم “سكان الضفة الغربية” نسبةً إلى قطعة جرداء من الأرض اسمها “عبرَ الأردن” ستعلن نفسها بعد ذلك “مملكة هاشمية”.
عبث ألسني وجغرافي، يُجرّدُ فيه الإنسانُ من هويتهِ، ويُعطى المفهوم الجغرافي هويةً. وسيتردَّد في هذه المنطقة اسم “اللاجئ” طويلا كصفةٍ محقِّرةٍ وتعبيراً عن الازدراء والاستهانة. فيقول أحدهم شاتماً حمارَه: “اِمشِ.. وجهك مثل وجه اللاجئ”. وتقول امرأة فلسطينية تصف فتاةً “هي فتاة جميلة ومؤدبة.. ولكن يا للخسارة ..هي لاجئة”.. وستبدي شاعرةُ نابلس فدوى طوقان في ما بعد تعاطفها مع “اللاجئة” المسكينة لا مع الفلسطينية التي تشترك معها في الهوية.
ذكرَ أحدُ الكتّاب السوريين، ولا يحضرني اسمه الآن، في مقالٍ نشره في مجلة “الآداب” في الخمسينات، أنه كان يرى مصيرَه ومصيرَ أولادهِ في وجه اللاجئ الفلسطيني الذي يأتيهم بالحليب صباحاً في أحد أزقة دمشق. أما هؤلاء الذين يُفترض أنهم أبناء فلسطين واحدة، فقد ألقوا بالقرويِّ المشرَّد خارج صفة “الفلسطيني” وعزلوه في لفظة “اللاجئ”، بالضبط كما سيحدث بعد سنوات طويلة حين يطلق فلسطينيو الأردن على الفلسطينيين المشرَّدين من الكويت لقبَ “الكويتيين” لإبقائهم خارج السور، وإحاطتهم بما يكفي من الكراهية والنبذ والمجهول يبرّر لهم اقتراح شتى التخيلات عنهم. وسيكون لهذه المفارقة الاجتماعية تبعاتها السياسية؛ في قبول اتفاقيات “أوسلو” السرية (1993)، ونفى صفة الفلسطيني بالمفهوم السياسي والاجتماعي عن جزءٍ كبيرٍ من الشعب الفلسطيني، والاعتراف بأن أرضه (الساحل الفلسطيني والجليل والنقب) تدعى “أرض إسرائيل” الخرافية.
إن شرط الانقسام الفلسطيني هذا، أو الخيانة الوطنية بالأحرى، موجودٌ قبل قيام “إســـرائيل” واستمرارها، ودخل في ” ثقافة” غالبية مثقفي المنظمات الفلسطينية. فلم يعد حدثُ احتلال فلسطين بالنسبة إليهم يتجاوز العام 1967. وفي هذا أبلغُ دليلٍ على فشلِ الفكر الفلسطيني وثقافته في تكوين أو إعادة تكوين وجدان شعب واحد، أو على الأقل؛ فشل الجانب المهرّج منه الذي شاع في السنوات الأخيرة. وقد صادفتُ مهرجين فلسطينيين يحتجّون بحرارة وعنفٍ إن استبدلتَ اسم فلسطين الشرقية باسم الضفة الغربية، أو تجرّأت وقلتَ “فلسطين المحتلة ” بدل “الأرض المحتلة”.
ويمضى محمد علي طه في تهريجه إلى مدى أبعد، فيطالب الكتّاب الفلسطينيين أن يعيدوا النظرَ في ما يكتبون وفي ما يفعلون بعد اتفاق “أوسلو” وبعد الواقع الجديد. والطريف أن هذا يرأس ما يسمونه “الاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في إسرائيل “. وكــأن الكاتب كما يعرّفه هذا، مجرّدَ موظف علاقات عامة أو أداة جهازٍ إعلامي.
لقد أخمد هذه الانقسامُ الانتفاضة الفلسطينية العظيمة، وهي انتفاضة مخيمات فلسطين الساحل أساسا، لأنها أعادت إلى الصراع وجهه الحقيقي المتواصل بين محتلّين وأصحاب وطن منذ ما يقارب القرن، أي منذ إقامة أول مستعمرة صهيونية في العام 1882، وليس “مستوطنة” كما دأب على القول إعلام المهرجين.
هنا في هذا المكان وُلدت لفظة “اللاجئ”، وهنا خطرت للفلسطيني الذي هو أبيّ، وقد طُرد بالقوة من قريتهِ على السفح الجنوبي للكرمل وبعيداً عن قبورِ أجداده وبساتينهم، فكرة أن يرحل عن هذا الجحيم. لقد أخرجته “الهاغاناه” من معناه، ولم تفعل “جنين” سوى أن تلصق به اللامعنى نفسه: اللاجئ.
وسيأتي بعد ذلك رجــال اتفاق أوسلو، وكلّهم من رجـال البزنس فعلا لا مجازاً، ليطردوا ابنه من اســم “الفلسطيني” ويعيدوه إلى اللامعنى مرة أخرى.
قال والدي يخاطب الأم:
– دعينا نمضي إلى العراق.
– وماذا سنفعل هناك؟
– سنلتقط التمر.. ونبيعــه.. وهذا أشرف لنا من هذا الإذلال.
كانت كل البيوت والوجوه موصدة، ولم يكن هذا القرويُّ يعرف عن العراق سوى اسمه، وأنه مصدر التمر والبلح. أما التفاصيل الأخرى، فلم يكن لها وجود، وهذا هو وضع غالبية الفلسطينيين، أعني الفلاحين، آنذاك. أولئك الذين لا يعرفون شيئاً مما يدور حولهم. أو أولئك الذين يُطلق عليهم مالكو الأراضي وورثة الامتيازات العثمانية الاسم: سواد الناس أو الرعاع، ويطلق عليهم ساكن المدينة الفلسطيني اسم “الفلاحين” استهجاناً وازدراءً. وسيقول والدي متحسّراً وهو يجلس في مقهى في أعماق الجنوب العراقي في ما بعد: “ليتنا.. متنا هناك”. وتعلّق سلمى الجيوسي، سليلة إحدى العائلات البدوية التي أنعم عليها فيصل الأول بالغنائم، على مذابح صبرا وشاتيلا بقولها “فلاحو بلادنا مساكين.. تعذبوا كثيرا ..”.