نص مسرحي متعدد المستويات ولغة شعرية

فارس الذهبي مسرحية "طباخ روحه"
السبت 2025/02/01

قدم مسرح باساج في مدينة تروا الفرنسية مؤخراً عرضاً فرنسيا من مسرحية “طباخ روحه”  للكاتب السوري فارس الذهبي والتي سبق أن عرضت بالعربية في أواخر العام 2021 وذلك بالشراكة مع تجمع كوميضة. أخرجت العمل إيناس حقي وأدته الفنانة سوسن أرشيد.

في حوار سريع مع الكاتب، حدثنا عن  مشروعه المسرحي، والافق الجمالي والتعبيري المرتكز على خطين، الأول هو المسرح المونودرامي الذي يعتمد أسلوب المونولوج المسرحي الطويل، والثاني هو المسرح متعدد الشخوص، والذي يرتكز على الصراع والحبكة التقليدية ويهدف إلى تبيان قضية أو مناقشتها عبر شخوص المسرحية.

أما عن مشروعه المونودرامي، ويعتبر الذهبي من أكثر الكتاب اهتماماً بالنص الفردي المونودرامي وذلك لأنه يعبر عن حكاية الإنسان الذي أراد عرض شخصيته عبر المسرحية، فيتحدث الذهبي باستفاضة عن المونودراما وقدرتها على عرض نماذج خاصة من المجتمع السوري، والتركيز على صعودها ونشأتها ومن ثم سقوطها، فهو غالباً ما يختار شخصيات ذات سمات تراجيدية تتمثل النظرية الأرسطية في التراجيديا عامة، ويردف بأن المجادلات الفلسفية في مجتمعات الشرق عادة ما تكون منعدمة أو مؤدلجة لا تشي بالصدق، والمسرح الدرامي يجب أن يبنى على الصدق في المعايير والجدل والصراع لا على الأيديولوجيا. وعلى العكس تماما فإن ذات المنطقة تحوي عدداً غير محدود من الشخصيات التراجيدية التي تعيش في خطها البياني في مواجهة المجتمع أو المنظومة السياسية واللذين غالباً ما يتضامنان من أجل إسقاط الشخصية التراجيدية التي أرادت أن تخط لنفسها درباً يختلف عن الآخرين.

كتب

إن حاجتنا لتعزيز فردانية الإنسان وبلورة حكايات تستند إلى ذات الفرد وليس إلى الحراك الجمعي هو ما دفع الذهبي للتركيز على المونودراما، حيث يوضح قائلاً بأن السردية الجمعية غالباً ما تكون منتشرة ومتفقا عليها حتى إن كانت مغلوطة، بينما تكمن الاختلافات في السردية الشخصية التفصيلية فإن شئنا استعراض القضايا الكبرى لوجدت أن الجميع سيتحدث على الخشبة بخطاب شبه موحد يتفق مع الرأي العام، ولكن إن جلست مع كل شخص على حدة فستجد أن رأيه سيختلف عن الذي تحدث به في الخطاب الجمعي. وهذا هو سر المونودراما، في البحث عن خفايا الشخصية التي تخشى عرضها جمعياً.

إذاً الخطأ التراجيدي لشخصيات الذهبي المونودرامية هو التعنت في التميز، ولكن ما هو التميز في مجتمعاتنا، هل هو أمر خاطئ أم معيب؟ يجيب الذهبي بأن التميز، أيّ تميز، هو رغبة داخلية لدى الشخصية في تطبيق مبدأ الحرية الذاتية أو حرية حق تقرير المصير، دون وصاية من المجتمع أو الدين أو الحزب أو العادات. وهذا يعتبر خطاً أحمر في مجتمعات كتلك في شرق المتوسط أو شمال أفريقيا.

على سبيل المثال في مونودراما “مولانا” التي ترجمت إلى عدد من اللغات وعرضت في عدد كبير من دول العالم، يسقط البطل في النهاية لأنه أراد أن يخط لنفسه مساراً مختلفاً عن أقرانه في البيئة المتدينة التي نشأ وعاش فيها، أراد أن يرقص في عالم لا يؤمن بالرقص. أما في مونودراما “طباخ روحه” فسقوط البطلة سلمى كان بسبب رغبتها في نفي الصفة التي أراد محيطها إلصاقها بها وهي الخوف.

في “طباخ روحه” المسرحية المونودرامية التي أدتها الفنانة السورية سوسن أرشيد، وأخرجتها للمسرح إيناس حقي، يرتكز النص على فكرة مفادها أن هنالك في مكان ما من هذه المدينة المفترضة والتي لم يذكر أبداً هويتها، يوجد إنسان يتحكم بجميع الناس، كما لو أنه يتحكم بألعاب ماريونيت، وهذا الرجل الطاعن في السن (بلغ من العمر 99 عاما) يعشق وجبة تقليدية سورية تسمى “طبّاخ روحه” وهي عبارة عن مجموعة من الخضروات الملونة تُطبخ مع بعضها البعض في طنجرة ضخمة ويضيف إليها الطباخ حسب رغبة الرجل العجوز الكثير من البهار الحارق، فتزول كل نكهة من نكهات مكوناتها، أما عن المكونات فهي وبحسب البطلة أفراد من هذا الشعب، الأخضر، والأحمر، والأبيض والأسود وكل لون يمثل ما يمكن للقارئ أن يتخيله، استطاع الرجل العجوز أن يمزج كل مكونات هذا الشعب في طبق واحد ويلتهمه على أنه طبق تراثي تقليدي، لكنه فقد كل طعم فيه.

صورة

مقاربة ذكية وحاذقة لما تعيشه بلدان الشرق الأوسط الزاخرة بالتنوع والتي لا يعني تنوعها أيّ شيء، لأن كل ذلك الاختلاف يقدم لشخص واحد يعشق التقاط الصور أثناء تناوله لهذا الطبق. يستدعي أفراد الحراسة طباخاً جديداً للقصر بغية تقديم هذه الأكلة التراثية الأصيلة للعجوز. فتتقدم سلمى لهذا العمل، وتنجح فيه لأنها ببساطة فتاة قروية تعلمت هذه الوجبات من أمّها في صباها، ولكنها تعجز عن تقديم طبق سليم للعجوز، لأن روحها مسمومة بالحقد الأسود، روحها سوداء حزناً على من قتلهم العجوز باستهتار، فتقوم بتسميم الطبق، ولكن الحراس يجبرونها على تذوق اللقمة الأولى من الطبق قبل أن يأكل العجوز الجائع الشبق لهذه الوجبة، التي تماثل الوطن في تنوعه. فتسقط البطلة.

“طباخ روحه” نص محكم متعدد المستويات، فالكاتب يمسك بيد القارئ منذ الصفحة الأولى وسنوات حياة سلمى الأولى حتى سقوطها تحت أقدام العجوز، مضرجة بروحها التي تثور في جنبات القاعة طالبة العدالة. لا شك بأن الشكل المونودرامي الذي اختاره الذهبي عكس بشكل من الأشكال رغبته في أن نتماثل مع البطلة وأن نعيش الحياة التي عاشتها والتي أدت إلى خياراتها الحادة، يركز كيف تحولت هذه الشخصية البسيطة من إنسان عادي إلى شخصية تراجيدية تحلم بما هو أكبر من أحلام شابة في مقتبل العمر. وكيف يغير الظلم مسيرة حياة البشر وأحلامهم.

اللغة المستخدمة في النص لغة شعرية كثيفة محمّلة بالصور والأحلام التي تصب كلها وبلا استثناء في صالح بناء الشخصية التي أرادها الذهبي أن تصل إلى أقصى نقاط المواجهة مع القدر المتمثل في العجوز الطاعن في السن الذي لا يزال قادراً على تحقيق أمانيه وسحق الآخرين فقط لأنه موجود، رغم أن المشهد الأخير الذي تخرج منه عشرات الأرواح من الطنجرة الضخمة التي وضعت في الصالون الرئيسي تصرخ طلباً للعدالة في إشارة إلى أن العديد من الشخصيات قد فعلت ما فعلته سلمى في سبيل تحرير وجبة “طباخ روحه” التقليدية من أسر العجوز.

وبالعودة إلى اسم الطبق، فإن تسمية “طباخ روحه” الفصيحة والتي اشتقت من فعل المبالغة وجذره الثلاثي “طبخ” تعيدنا بشكل من الأشكال إلى مسارات مسرحية سابقة شقها عظماء الكتاب من قبل على سبيل المزج بين الشيطان والإنسان، كما فعل غوته ومارلو في معالجات أسطورة “فاوست” الذي باع روحه للشيطان من أجل النجاح، ولكن في تجربتنا المسرحية السورية هذه لا تقوم الشخصية الأساسية ببيع روحها للشيطان، بل طبخت مكونات المجتمع الذي نشأت فيه بشكل خاطئ “فإن كان الوطن وجبة ستقدم للعجوز فليكن ذلك الطبق يحمل أجزاء من روحي”، وما ذنب تلك الشخصية إن سمم المجتمع روحها فباتت مميتة. ليكون الشيطان في هذه المعارضة المسرحية هو العجوز نفسه، الذي حوّل الفتيات في ذلك العالم الفنتازي المتخيل إلى أرانب، وهو بالمناسبة الاسم الفرعي للمسرحية التي عنونت كالتالي “طباخ روحه – الأرنبة”، والتي سيكون صراعها الأساسي في الحياة هو محاولتها نفي لقب الأرنبة عن نفسها، الأرنبة التي مازحها رجال العائلة في صباها مطلقين اسم الأرنبة عليها من شدة جمالها ونقائها وبياضها وبراءتها ولربما خوفها.

صورة

تصرخ سلمى في المسرحية رافضة أن تكون أرنبة، فتسقط. فهل يكون مقصد الكاتب أن الخطأ التراجيدي هو محاولة إنكار الواقع والتمثل مع الغير؟ على العكس فسقوط البطلة وهي تحاول أن ترفض واقعها كأنثى نمرة، هو السائد في مجتمع لا يقبل من النساء إلا أن تكون أرانب، تلد وتحيض وتربي وتهتم بجمالها فقط. إذاً نحن هنا مع مقاربة ذكية جداً من الكاتب وطبقة أخرى من طبقات هذا النص الذي يستحق التفكيك كبنية مسرحية وحكائية مثيرة ومتقنة.

في سياق مشروعه يتحدث الذهبي عن مشروع يحلم به هو كتابة خمسين مونودراما تمثل حكايا الناس كما شاهدهم وعايشهم، ولعل تجميعهم سيتم تحت هذا العنوان “حكايا الناس”، وكل نص من هذه النصوص المونودرامية سيكون حكاية من الحكايا التي ستشكل بمجملها حكاية شعب كامل، عاش كل فرد فيه تجربته التراجيدية التي ستعكس سقوطه. إذاً هل تعتقد بأن المجتمع سيسقط سقوطاً تراجيدياً؟ يجيب الكاتب بأنه بالفعل يسقط ولكنه يعاود النهوض مجدداً، هذا قدر المجتمعات التي تواجه رفضاً في خياراتها الفردية. تخيلوا مجتمعاً يرتدي فيه الجميع ثياباً موحدة ليأتي أحد الشباب ويطلب تغييراً في لون ملبسه. سيسقط بالتأكيد ولكن سقوطه لن يكون نهاية للفكرة، بل بداية جديدة لشخصية أخرى ستستمد إلهامها من الذي قبلها، وستستمر المحاولات حتى ينجح أحدهم في تغيير لون ملبسه، وفي ذلك الوقت سيتبدل وجه ذلك العالم للأبد. وعن النهاية التي تسقط فيها البطلة سألنا الكاتب فارس الذهبي هل هي نهاية تشاؤمية لا تبث الأمل في قلوب القراء، يجيب الكاتب بأن النص ورغم حلته الفانتازية إلا أنه يستند على الواقع في عدة نقاط ومنها النهاية التي ستعكس رغبة لدى القارئ أو المشاهد برفض ما يراه ودعم أيّ محاولة ستقوم بها النساء من أجل التغيير. إنا نهاية تحفيزية وليست تشاؤمية.

مشروع الكاتب فارس الذهبي المسرحي غني ومُثير ويستوجب الكثير من الدراسة والتعمق فكل نص من نصوصه المسرحية المونودرامية يثير جدلاً بحد ذاته ابتداءً من “مولانا” و”الساعد الأيسر” و”صهيل الحصان العالي” و”شيزوفرينيا” و”طباخ روحه” و”طيران فوق عالم قذر” و”أغنية حزينة في عيد الميلاد”. وهو مختلف بشكل كبير عن مشروعه المسرحي الذي يعتمد على الشخصيات المتعددة والذي جاوزت نصوصه الستة. إذاً نحن أمام تجربة متشعبة وغنية، وتسير على خطى ثابتة ودقيقة.

يذكر أن نص “طباخ روحه” سيطبع باللغة الفرنسية قريباً في فرنسا وسيقدم كذلك باللغة الفرنسية في العام القادم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.