نهاية الإنسان
أشعر بالمرض، بذلك الوهن في الروح من شدة البشاعة في هذا العالم. بالكاد أقوى على حمل الجسد للنهوض وبدء الأيام في كل يوم. كيف أستيقظ في الصباح وأستمع لصوت العصافير والأغاني المحببة على روائح الخبز الساخن والقهوة المحمّصة، وأتأمل في حفيف ورقة شجر، كيف أفعل ذلك وقد وصلني للتوّ خبر عن انفجار في مدينة مكتظة بالسكان، عن إعدام جماعي لشبان تحت أنصال السكاكين الحادة، عن سيوف اخترقت أكباد أطفال بعد أن قُيدت أيديهم وأرجلهم، عن قتل فتيات صغيرات عقاباً لذهابهن إلى المدرسة، عن رصاصات اخترقت أجساد نسوة وأطفال وعجائز لانتمائهم لفئة دون أخرى من البشر، عن أشلاء تناثرت في مقهى بعد أن اطمأن زوّاره للحياة فاستراحوا إلى كوب شاي ليشربوا بدلاً من الشاي دماءهم وشظايا الزجاج. كيف يعيش الإنسان بشكل طبيعي، كيف ينهض خفيفاً مقبلاً على الحياة وهو يستقبل في كل صباح أخبار التوحش وقد تخطى كل منطق وكل حدود.
البارحة ذهبت إلى السينما، فيلم “سوبرمان في مواجهة باتمان”، قلت لنفسي: أتسلى في فيلم سخيف، وربما أضيع في إثارة الحركة والصورة، والله وحده يعلم كم كنت بحاجة لأن أنسى نفسي، فإذا بذلك المخلوق البشع الهائل التي تخيلَته عقلية صنّاع الفيلم للشيطان يثير في نفسي مشاعر التقزز المقيتة التي لذت بصالة السينما هرباً منها. أخرج من السينما وأنا أشعر كم أشتاق للحياة العادية، للأيام العادية، حين كان أسوأ خبر يصلنا وفاة جار في التسعين.
أكثر ما نستيقظ عليه هذه الأيام أخبار قتل وتفجير وحروب وإرهاب وذبح وخطف. لذلك صرت أنام كثيراً؛ من يريد أن يستيقظ على هكذا عالم؟ نعم، وجدت الجريمة على مدى التاريخ الإنساني، ولكن ليس بهذا الشكل المنظم المكثف المستمر على مدار الساعة، وكأنها العمل الرسمي والهواية العادية للبشر. وكأن فتيلة الإحساس، تلك التي كانت تجعل الجاني يتردد قليلاً قبل الإقدام على ذبح طفل، قبل أن يضغط على زر قنبلة تحرق المدن العامرة والقلوب النابضة والمشهد الحي للأيام، تلك الفتيلة التي تجعل العين ترمش واليد ترتجف ولو للحظات، في إشارة إلى ضمير يتعذب وندم إنساني يصارع، قد انتُزعت في الإصدار الجديد للإنسان الحديث.
لكم هذا مقزز ومثير للمرض، أحتاج أن أخرج من هكذا عالم قميء. أُشغّل أسطوانة موسيقى، أضع سماعات الأذن، أصمُ أذني عن كل صوت ما عدا الموسيقى، أُلغي كل التطبيقات الهاتفية التي من شأنها نقل الأخبار العاجلة، أغلق الهاتف، أمتنع عن قراءة الجرائد، أغلق جهاز التلفزيون، أجلس في ظل شجرة، أستند إلى جذعها المتين، أشم رائحة العشب المقصوص في المكان، في السماء غيمات صغيرات حبلى بمطر وشيك، في أذني صوت موسيقى، تحيط بي نملات صغيرات تتكاثر، أتحاور مع النمل، لطالما كان النمل صديقي، أخبر النمل أن في الموسيقى حياة، وأن الحياة جميلة، وأن في الحياة الجميلة الكثير من البشر الطيبين، لكن النمل يجري هنا وهناك، يجري ويتفرق كمن حلت به مصيبة، ولا يصدقني. لكأن النمل يدرك أن الإنسان لم يعد مصدراً للثقة، حتى وهو يتحدّث عن الحياة والموسيقى؛ إذ يمكن للإنسان في لحظة أن يدوس غافلاً على مملكة النمل ويسحقها بثقل وجوده.
بحث عن النجاة. كيف ينجو فرد وحيد ضعيف توّاق للجمال في خضم البشاعة والخراب والدمار الهائل؟ أشخص ببصري إلى السماء وأنساه هناك. لم يبق في الأرض شيء نستمد منه الأمل؛ مات الإنسان، وما بقي سوى الله في عُلاه.