نهاية الكابوس الإيراني
منذ نشاتها عنيت الرواية العربية بالتاريخ، فمن روايات جرجي زيدان في مطلع القرن الماضي، وحتى روايات ربيع جابر اليوم مرورا بأعمال عبدالسلام العجيلي في النصف الثاني من القرن العشرين، شكّل التاريخ العربي والشرقي بوقائعه وشخصياته مصدرا ملهما للروائيين العرب، لكن التاريخ السياسي للمنطقة بالمعنى المعاصر والحرفي للكلمة، لم يشكّل حتى الآن مصدراً أساسياً للرواية، أو ظاهرة يمكن أخذها في الاعتبار، حتى وقت قريب. لكن التحولات العاصفة في المنطقة منذ زلزال 2011 فتح الباب واسعا للخيال الروائي العربي لاستلهام عواصفه ووقائعه والتحولات التي قاد إليها، في المتن الروائي العربي.
نوقشت مؤخرا في أتيليه القاهرة رواية “عاصفة على الشرق”، للكاتب السعودي نبيل المحيش، الصادرة عن دار النابغة، وقد شارك في النقاش عدد من النقاد المصريين والعرب. والرواية تستلهم التاريخ السياسي الحديث لينتج دراما أدبية سياسية في صيغة رواية. وبدورنا، سنستعرض هنا صور وأزمنة وجغرافيات الحدث الروائي الذي اعتمده الكاتب، ويعكس في جانب منه الصراع بين الفرس والعرب، والإيرانيين والعالم، ودور النظام السياسي الإيراني في نشر الإرهاب وخلق مناخ ميليشياوي يسمح بتقويض الدول المحيطة، وذلك من خلال إنجاز قنبلة نووية وتهديد المنطقة والعالم بها.
الحدث الأول، أو “الحدث المنشأ” لهذا العمل الروائي الذي يدفع أحداث الرواية كلها ويحدد مسارها هو: الانقلاب الإيراني ذو الصبغة الدينية على الشاه عام 1979 أو ما عرف بـ”الثورة الإسلامية”، وتحت ستاره صدرت إيران الفكر الطائفي إلى العالم العربي.
أما الحدث الأساس المتخيل فهو يجري على خلفية الهياج الجماهيري داخل إيران والهياج الدولي خارجها نتيجة إعلانها عن امتلاك السلاح النووي إثر تفجيرها قنبلة نوويه كتوكيد على ما أعلنته. وهو الحدث الذي دفع عواصم العالم ودول الإقليم إلى التداعي لعقد اجتماعات ومؤتمرات ومباحثات غايتها اتخاذ موقف واحد من ذلك الحدث الذي سيؤدي إلى زعزعة استقرار الإقليم ولربما استقرار العالم أجمع.
أما الحدث المباشر في مسار الرواية فكان تفجير سفن أميركية في مياه الخليج تسبب في تدخّل أميركا المباشر للسيطرة على مجريات ذلك الحدث -التفجير النووي الإيراني- والحد من عقابيله. وذلك بتهديد أميركا لإيران صراحة بأنها ستضرب مدنها بالنووي الأمر الذي دفع إيران إلى تهريب قنابلها النووية عبر حدود دول مجاورة.. لها فيها عملاء أو تملك عليها سيطرة مباشرة.
ويتطور ذلك الحدث مدا وجذرا بين فوز لعملاء إيران وخسران لهم من خلال معارك اشتباكات محدودة فردية أو جماعية بين الكابتن وليم الضابط في الـC.I.A ومساعدته النقيب شيرين بهلوي من جهة، والإرهابيين التابعين لإيران من جهة أخرى. لينتصر في النهاية وليم ورؤساؤه في الوكالة على الإرهابيين ويفككون قنبلة نووية من قنبلتين تم تهريبهما عبر الحدود الدولية إلى جزيرة قبرص مرورا في عباب المياه الإقليمية عبر البحر المتوسط.
الحدث والأحدوثة
الحدث في الرواية انقسم إلى أزمنة ثلاثة هي زمن خارج الحدث الروائي هو زمن الحدث المنشأ، وزمن الحدث الأول في الواقع الروائي وهو واقعة التفجير النووي الإيراني، المنتج لحركية الرواية. ثم هناك أزمنة ارتدادية ترتبط بما ولّده الحدثان: المنشأ والأساس من علائق بين الأحداث والأشخاص والأمكنة.
وهذه الأزمنة الأخيرة في تسارعها أو تباطئها هي التي تولّد الرغبة في معرفة (ماذا بعد) وشوق القارئ في أي رواية إلى معرفة (ماذا بعد) هو سر نجاحها أو فشلها.
إن الأزمنة المرتدة والأمكنة المتعددة والأحداث المتلاحقة جعلت من “عاصفة على الشرق” رواية مشوقة، ومنبع التشويق فيها يتمثل في تشابك الصراعات، صراع الإنسان مع الإنسان، أفرادا وجماعات ودولا وأمما. وهو قلّ ما يوجد في رواية واحدة، وقد حازته رواية المحيش لكونها انطلقت من حدث عابر للقارات والقوميات، وهو ما يفرض تعددا في الأمكنة وتنوعا في البيئات واختلافا في المجتمعات وتباينا بين اللغات، وهو ما ميّز هذه الرواية لتكون من صنف الروايات الرؤيوية على طريقة رؤى آخر الزمان، ومعركة هارمجدون، فهي تحذر من نهاية العالم بانفجار نووي على أيدي عصابات ضيقة الأفق.
ولإظهار فظاعة هذا الأمر وبشاعته ينجدل الحدث مع الشخصيات في ضفيرة متينة امتدت مع الحدث الروائي عبر أمكنة متعددة هي: طهران، واشنطن، الرياض، البحرين، نيويورك، العراق، كردستان، دمشق، القدس، بيروت، تل أبيب، القاهرة، إسطنبول، روما، قبرص، موسكو. ستة عشر مكانا عبرها أبطال الرواية وشخوصها (وليم وشيرين) علنا وبوسائط مختلفة، وشخصيات الظل (المخابرات العالمية والإرهابيون) تخفياً أو بوسائل غير شرعية أو من خلال التواصل التكنولوجي العابر للقارات من أقمار صناعية أو وسائط عسكرية مثل الطائرات العمودية والزوارق الحربية.
الصنعة في الرواية
استعمل المحيش الأسلوب البوليسي في الإبقاء على فاعلية الحدث الأساس (امتلاك إيران سلاحا نوويا) محركا لجذب القارئ إلى متابعة ما في الرواية من أحداث تالية متسارعة من خلال فن (من الحدث إلى الأحدوثة) وهو تقنية حكائية يكون فيها الحدث غير قادر بذاته على جذب أهواء القارئ إلى متابعته.
فتأتي الأحدوثة لتأخذ على عاتقها جذب القارئ إلى دروب أو أمكنة أسطورية أو -كما في روايتنا- إلى أماكن سياحية يكثر فيها الحب والشعر والرقص والقصف مع وجود سر مخبوء أو كنز مرصود يحتاج إلى من يكشف مغاليقه أو يفك عنه الرصد.
وذلك الختم أو الطلسم هنا في رواية “عاصفة على الشرق” هو قنابل نووية مختفية تحتاج إلى من يجدها ويفك أسرارها.
وبسبب من عالمية الحدث كان لا بد من حوارات وجدالات بين شخصيات الرواية، ولأنهم عابرون لن يلتقوا مرة أخرى ببعضهم بعضا: جاءت الحوارات كلاما لا لغة حوارات وقتية لا يقصد منها حجاج وإنما هي ذات وظيفة محددة إما معرفية عامة وإما لإسداء معلومة عن وجهة مكانية أو كشف مخبأ، أو تبدي وجهة نظر شخصية بسياسة حاكم ما، أو بشعر شاعر ما.
وهذا ما يراه القارىء في حوار وليم وشيرين مع السائق الكردي أو مع عامل المقهى سليمان. فكان من الطبيعي في مواقف محددة كحفل راقص أو جلسة سمر وشراب أن تأتي الأسئلة والحوارات سطحية غايتها تزجية الوقت.
استطاع المحيش بعجينة من خيال أن يخبز واقعا روائيا قادرا على جذب لذاذة القارئ وإثارة نهمه فيتابع رائحة كعكته الناضجة إلى نهاية الرواية بانغلاق تلك الدائرة المرعبة التي بدأت مع (الانقلاب الخميني) وانتهت بسقوط حلم تصدير (الثورة الإسلامية) وذلك عندما قامت القوى العالمية متمثلة بأميركا بقطع عصب القوه الإيرانية وهو السلاح النووي ومن ثم تفكيكه وإبادته، وهو السلاح الذي كان في الواقع الروائي ولربما في الواقع الحي بداية نهاية الحلم الإيراني والكابوس العالمي معا.
ولكن كيف سوغ المحيش موضوعه هذا الذي قد لا يروق لكل قارئ لا سيما القارئ الذي لا علاقة له بدنيا السياسة سواء كانت دولية أم محلية..القارئ الذي يقتني الرواية للمتعة لا لتلقي المعلومات؟!!
شصوص وأفخاخ:
قال شكسبير في مسرحية هاملت “بطعم من الخيال تستطيع أن تصطاد سمكة من الحقيقة”. وقارئ “عاصفة على الشرق” يجد نفسه في عالم من السياحة والتنقل بين عواصم العالم فيتأمل البحر، ويتشمس فوق الرمل، ويصعد جبالا، ويراقب صراعا يجري في زاوية من غرفة، ويتخيل عشقا حميميا بين حبيبين في قبو يخت تتأرجحه الأمواج، فيرسم الكاتب خطوطا مستقيمة في صحراء، أو منحنية على الجبال أومتعرجة عبر ممرات حدودية، تشيع كلها في القارىء حالات متماوجة من خوف ورجاء وغضب وفرح.
إنها الخطوط والألوان التي شكلت الأمكنة المختلفة والمتعاقبة للرواية وعالمها التخييلي، فيرتفع نظر القارئ مع طائرة مدنية أو صاروخ جارح لصدر الفضاء متجه نحو طائرة عمودية، أو ينخفض بصره متأملا زرقة البحر وتلاحق أمواجه أو يرتفع قليلا سادرا نحو خط الأفق وتطاول ناطحات السحاب.
عالم يصوره المؤلف ببراعة، فبقدر ما فيه من جمال يبدو غاصا بالخوف والرعب من قرب وقوع انفحار نووي أو من خطر أقرب على الذات هو خطر انطلاق رصاصة من فوهة بندقية تنهي حياة شخص من شخصيات الرواية.
عندما نقرأ رواية فنحن لا نقرأها لنتعلم الميكانيك أو آليات تفكيك قنبلة! بل نقرأها للمتعة وتزجية الوقت. وإن كان ثمة من وظيفة أو وظائف أخرى للرواية فهي حتما تالية لهذه الوظيفة، وظيفة التماهي بالإيهام والتشويق بقصد الإمتاع وإبقاء القارىء مشدودا إليها حتى الصفحة الأخيرة. “عاصفة على الشرق” رواية تستلهم وقائع سياسية معاصرة تدور في زمن ما يزال مضارعاً، عامرة بالوقائع الدرامية في سرد مشوق وممتع ومثير للخيال، وهي، في نظري، أدت بلغة رشيقة وموحية ما يناط بالرواية الحديثة من وظيفة فنية جمالية.