هبات الهواء

الاثنين 2017/05/01
تخطيط: فيصل لعيبي

أكره الحرب

لحظتها كانوا أقرب إلى الموت منه إلى نقوش الحناء.. رجال كانوا على بعد يومين. حلم، مجرّد حلم يشبه فيلما سينمائيا صامتا. قبل وصول الجنائز بيومين قلت لها «إذا رأى أحد شيئا يكرهه فلا يحدث به الناس». مضى اليوم الأول، ومنتصف نهار اليوم الثاني جرت خلفها معصومة أحضرت معها من الصالون طاسة حناء يمنية سحبتها من كتفها برفق عندما كانت هناك، تحت «الفحالة» ابتعدتا، قالت لها أرسم على يديك نقوش الفرح مثل باقي النساء، لم تمهلها وردت «حنيني غمسة». كانت حناء النساء العائدين رجالهم كلها وردة وفراشة.

اعتلت كومة رمل رطبة هبطت قليلا تحت مؤخرتها الثقيلة، في الحوش، في محيط الفحالة اختلت بها مثلما فعلت يوم اشتكت.. «يا فحيل يا فحال الغريبة تشكي لك الحال… كلهن البنات تزوجن… وهي جالسة بلا رجال». تفيأت ظل الفحالة، تركت قدميها تتنزهان في بركة الماء الضحلة تميد الأرض تحتهما كيفما تحرك الماء القليل كاشفة عن ساقيها، غادرت «بنت أحمد» ولملمت معصومة زخارفها وأقماعها وطاستها.. ش بلاها!

لو اجتمعت الأحلام كلها فلن تعادل حلمك تلك الظهيرة يا الغريبة غمامة تصعد إلى السماء، تنفجر في فضاء «ما اا…رب» أخافتك! وكانت هبات الريح في شهر سبتمبر تتشكل وتلاعب الرؤوس والأيدي والأفخاذ والأرواح كلها في السماء، أطلت برأسها فحالة «جدوه الغريبة العودة» مسافة أعلى من السور بقليل عندما بدأت السماء تتلبد، قالت.. عندما يكون الموت ملحميا لا يحصى عدد الموتى. تضاربت الروايات.. خمسون، سبعون. مئة. أنت وهي تتماهيان في الحلم، والصمت، لا تحدثي أحدا.

صمتتا. صيّادو الأحلام تأكد لهم ألا أحد يحلم! لمّا غادروا لم يكن أحد يحلم، لا أحد يحلم غير نخلة الغريبة العودة. كانت تغط في النوم، تحلم في هذه الأثناء، أعرف أنها قادرة على أن تفعل ذلك، في أيّ وقت، يقولون ألاّ أحد يعرف لنخلة الغريبة إلا الغريبة ولا أحد يعرف للغريبة إلا نخلة جدوه العودة كأن بها مثقالا من السحر. يقال إن هذه المرأة نجت من الموت مرتين وماتت المرة الثالثة على قمة نخلة. من سالف الزمان فحالها مازال كما هولا حلاوة له في اللسان، لا شغل له إلا صناعة « الطلع»! تشرب من ماء المطر، وحدها نخلة الغريبة تحلم، شيء لا يصدقه أحد. حلمت أن «يوسف» سيموت ويؤتى به محمولا على الأكتاف، هل استشهد يوسف ابن مسعود، نهاية لم يحلم بها أحد يال بخت الغريبة هذه المرة قالت نساء «فريجنا» وهي تشاهد موته كفيلم سينما صامتة. كان مشهدا ولا أعنف.

يقولون عنها هذه بذرة شابهت ومن شابه أباه فما ظلم. والساحرة ما تزال خرافتها معروفة إلى اليوم، قيل إنها ماتت المرة الثالثة، طيرا رماديا ضخما مطوقا ضرب بجناحيه في الفضاء وملأ نعيقه حجم السماء آخر الليل، حلت على قمة نخلة، ظهرت عليها شمس «القائلة»، هزمتها أشعة الشمس، قطعت حلمها سكينا وضعت مغروسة في التراب لم تمكنها من الطيران، احترقت، تقلبت بجناحيها على حبات الرمل «فرفشت» ثم سقطت جاثية على الأرض خجلا، احترقت صارت رمادا. عندما كانت تحلّق نحو النخل كانت تضم بين جناحيها نواة صغيرة، احترقت صارت رمادا فخرجت منها الفحالة العتيقة، أعطتنا طول العمر وأعطتنا تلك النواة.

تموت وتعيش الفحالة قانعة بأقل القليل! تطل برأسها، ترى مثلما يرى النائم على شاشة التلفاز موته، موتا جماعيا، نساء حزينات، حزن لا يوصف، لا نهاية له وأطفال بلا آباء تجرهم الدنيا حسب الأقدار، شيء كالألم الثقيل الرابض على القلوب. مرة، مساء اليوم الثاني، تكاثفت الحشائش حولها، بعضها كان ساما، امتدت رقابها القصيرة بمحاذاة سور الحوش المرتفع، هو السور نفسه الذي أطلت منه ذات ليلة لما باغتها الحلم.. لكن كيف استطاعت الفحالة العجوز! ثم كيف قالت.. أكره الحرب ثم إن تلك لحظة جنون أشعلتها أخبار الميدان. قلت لها «إن رأى أحد شيئا يكرهه لا يحدث به الناس»، غضبت «استلبست» قالت عبارات غير مفهومة أكثرها كالطلاسم وأشياء تشبه ما تحويه التمائم التي تتدلى فوق صدور الصغار، وأجسادا أخرى تتحرك تضرب شمالا وتضرب جنوبا، تلك الأثناء ظلت تهتز بشدة من ساقها إلى أخمص قدميها أمسكت جذعها، الشوك، توحدت مع ساق الفحالة، ارتمت عليها، تعانقتا وكان الجو عاصفا، ولم تسقط منها ثمرة طلع واحدة. هرعت بنت أحمد سريعا باتجاهها، فكتها، طوقتها بذراعين دافئتين مرتعشتين قرأت..»قل أعوذ»، شمّي رائحة ثديي قالت لها، رائحة حليبي الذي أرضعتك حتى تخطيت السنتين، أمسكت رأسها مسّدت شعرها الخشن المتشابك تخلّلته أصابعها الناعمة، لمست بالأصابع أنفها المنتفخة من البكاء خديها المكتنزين، شفتيها.. «اس»، أخبرتها أن يوسف ولد مسعود لم يمت، فغرت فمها. أمسكتها من الخلف قلت لها.. أضغاث أحلام، قالت.. أكره الحرب.

ومنذ أيام كان فيها صياد الأحلام هائما تلمست بطنها، سقطت نفات مطر، كانت تتساقط في الخارج، الأرض استوى رملها مبتلا، وطلعا نضيدا تعبق رائحته منى، ودم صار في فمها، اهتزت سعفات الفحالة عاشقة للمطر، كان هناك واحد يشبه طائرا يحلق في الفضاء وباب السماء مفتوحة، واحد يشبه طائر الجنة دخل هناك. قلت لها.. تحبين أن تكون هذه نهايته، هزت رأسها.. بلى.. وعلى الرغم من ذلك سمعتها تردد… بلى.. غير أني أكره الحرب!

إشارات

الفحالة: ذكر النخل

حناء الغمسة: شكل من أشكال الحناء يغمر الكف دون نقوش

ش بلاها: ما خطبها

جدوه: مفردة تعني جدتي

القائلة: الظهر

استلبست: لبسها شيطان

رقص الفناجين


لوحة: أحمد عبدالعال

صبابة القهوة تروي بلغة الدلال التي لا تبرد ذاكرة الفناجين. قرأتها ومازلت أتساءل. «أما زلتَ تصدق قول بعضهم! مرزوق ما عميت عينك ولكن عميت عمى القلوب التي في الصدور»

نم. بل هي في عدتها، تلبث لحظة، تنظر للأعلى تنتظر ما سيحدث فيما بعد في الحلقة الجديدة من مسلسلها اليومي. جاثية ذراعيها وذقنها على ركبتيها. ما تزال وراءك وأنت تعطي عينيك، أذنيك، فمك للجدار. وبين الفينة والفينة تلتفت هكذا، كي تتأكد أنها ما تزال هناك. غير أنك تسألها دون أن تشاهد وجهها.. من هي تلك الحرمة؟ فتسألك.. مالك وللحريم؟ يستدعي سؤالها ثورتك المعهودة. يكتبون عنها كلاما كثيرا على الجدران. هي لا تتورع عن السؤال مرة أخرى. رأيتها في الحلم؟ تصرخ في الجدار، من لا ينام لا يحلم. تؤكد لك أنه حلم وأن الأحلام تأتي دائما بعكسها. لكنك لا تصدق الجدران. الجيران. لن تنام، لن تشاهد حرمة تشبهها، تعودت على الخروج من بيتها كل مساء، لن تسمع قول بعضهم إنها تترك وراءها «ثلاثة رابعهم رضيعها» أو «خمسة سادسهم رضيعها» رجما بالغيب.

قالت لك «إنك لن تستطيع معي صبرا».

وقالت لك التوأم النائمة بقربك. هما اثنتان، هي وواحدة تشبهها تخرج من بيتها كل مساء وتعود مع آذان الفجر. بعضهم يسلمون عليها، وبعضهم يرفضون، بعضهم رسموا على الجدار تفاحة فاسدة وكتبوا عليها كلاما يعرفه الصبيان «تفوح سكيك». لكنك بين الفينة والأخرى كنت تشيح بنظرك فقط عن الجدران، كنت تدير ظهرك مندهشا من السكينة الغارق فيها كل ما حولك. إن لم تخنّي الذاكرة، كان نظرك ضعيفا فلم تكن تفعل شيئا غير الصمت. تذكر رنين الفناجين؟

فنجانا واحدا من يد ربيِع فراش الوزارة سنوات التسعين. تذكر؟ في البداية كنت تحسبه ساحرا يمارس لعبة البيضة والحجر، يحرك يده اليمنى بخفة فتهتزّ الفناجين مرة واحدة وتتقارع وتجرح أصواتها الناعمة قاع أذنك بشيء من اللذة، هكذا رقص الفناجين، وعلى وقع دردشته الواحدة ظهرا بعد عودتك من المدرسة رأسا إلى مطبخ الشقة 3، تنام. يضع يده على أذنك «أيها النوم، يا النوم يا النوم هيلا عليه أغمض عينيه واهجم عليه» تنام بين ثوبه وإزاره مخدرا برائحة حثالة القهوة المستعصية على الحجز في بطون أوعية القمامة.

ملعونة جدران التسعين، كنت في العاشرة يوم مات ربيع. تفرست بك، انشغلت بشخبطتها. علمتك الشك في النسوان ولطالما تساءلت، من هي تلك الحرمة التي تخرج بالليل؟ واحدة لعوب! توقظ الظنون وتطلق عقال الألسن. تخرج كل مرة موارية وجهها ببرقع أبوعيون طويلة «وشبق»، ورأسها «بشيلة» رهيفة، وعندما تصير على قارعة الطريق تتلفت يمينا ويسارا، تتراقص في خطواتها بالكعب العالي، ترتمي في أحضان سيارات الشيفروليه والكروزر المسرعة. حتى تلك اللحظة كانت تشاغب الجدران، من هي تلك الحرمة؟ لا تقربوا هذه الحرمة، أما أنت فقلت لن تنام، كي لا تتراءى لك جهمة تشبهها.

بسخرية قالت لك التوأم التي تنام بقربك. لكن هما امرأتان، من إحداهما يأتي رنين الفناجين يا ذكي؟

تذكر رقصة الفناجين؟

وها هي، اللحظة ذاتها تسحب اللحاف لتغطيك إلى أذنك فتمنع عنك ما يوسوس في الصدر، تمر بأصابعها الطويلة على شفتيك، تدخل قرصا من الخبز ومعه بيضا وطماطم في فمك، تشعر باللقمة العالقة في حلقك، تسقيك ماء، تأمرك أن تنام لتصحو باكرا. تظل تبحث عن شيء تقوله لزملائك في المدرسة فيخون لسانك. الثانية، الثانية، التي تشبهها! إن لم تخني الذاكرة، قلت لحظتها.. لن أنام حتى لا أراها تخرج وتعود إلى بيتها في ساعة متأخرة من الليل. وها أنت تتقلب في نومك.

قالت لك «إنك لن تستطيع معي صبرا».

وإن لم تخنّي الذاكرة يومها كانت تتدلى من رقبتها طبلة، وكانت تمسك بها يد الطفلة التي كانت تنام بجانبك، تهمزك في خاصرتك وتهمس متسائلة عن رجالكم، عن الأخير. تقول إنه كان في مقام الأب، تنتحب، تسمع همس البكاء. تُسمِع تفاحة، فتجيب.. إنهم يختفون أحيانا! كيف يحدث؟ يموتون، يتركون، هذه الدنيا. مقهورة تردّ الطفلة التي كانت تنام إلى جانبك.. كلهم ماتوا كلهم غادروا! ومقهورة كذلك ترد هي. النساء أحيانا تستوين مثلا لتفاحة، إذا علقت في رقاب الرجال الذين ليس بهم جوع إليها لفظوها وغادروا، أمّ الأولاد كالتمرة الزفرة، أنا كالتمرة الزفرة. نم، بل هي من يوم مات ربيع في حزنها. كم سوّلت لك نفسك أن تكذب هذا الكلام، وأن تجر حبل الطبلة الملتف ليفصل رقبتها عن الدنيا. كنت عندها تتحسس عنقها بيد مرتعشة، كنت تغفو ما أن تناهى لك رقص الفناجين.

وها أنت تتحسس شاربك النابت الآن.. كم لبثنا؟ فتقول.. ازددت عشرا.

ومذ مات ربيع، كم استغرق الارتباك الزمني؟ تضيف هي.. إلى أن استوت الجدران وراء ظهرك بثرثرتها ولعبها ومضايقات الصبية عشر؟ هكذا هم الصبيان يفورون، يثورون يغيرون جلودهم ، تكبر أفواههم ، تكبر آذانهم، رؤوسهم، يتحسسون وجوههم، أنوفهم، يعدلون عقلهم، يمسدون شواربهم يضحكون، يدركون من أشكالهم كم مضى من الوقت. يقهقهون، يغمزون. أما زلت تصدق قول بعضهم!

كم مضى من الوقت؟ تَذكُر رنين الفناجين، كانت تلك تفاحة صبابة القهوة ومن يوم أن مات ربيع أتقنت لعبة الدلة والفناجين؟ تضحك التوأم التي ظلت تنام بقربك إلى أن استوت حلوة تنام بعيدا ثم تجلس مواجهة إياك، فاردة وجها لوجه. كم كنت تغفو على رقص الفناجين يا مرزوق! وكم مرة سمعتها تهمس في أذني «خذي بالك يا فوزية من إخوتك، الليلة عرس يمتد إلى الصباح و»دلال» ما تبرد؟ كم مرة سمعتها تهمس: الفرح يشبه الحزن كلاهما يحتاج إلى فنجان.

الفرح والحزن يحتاجك تفاحه، وسيارات الزبائن الفارهة التي كانت تنتظرك بعيدا على قارعة الطريق مذ راودك فنجان القهوة عن نفسك فمشيت في دروب حسبتها الجدران غواية. إيه، لما رنت، رقصت في يمينك الفناجين، لا شيء، لا شيء فقط استعيني على الحاجة بالكتمان قالت لك الدلة يوم خرجت من العدة إلى البحر وكانت هي في يسارك والفنجان في يمينك. تذكرت رقصة الفناجين، وأنها من يوم موت ربيع استهوتك، شغلتك حتى عن مسلسلك اليومي. وماذا فعلت؟ يوم خروجك من العدة قطعت خيط الطبلة البالي الملفوف حول رقبتك، ألقيته في البحر، وقلت إن النساء لا يولدن بحبال مربوطة حول رقابهن.

اليوم، وبعدما تكشف أنها كانت مجرد واحدة تشبهك، تريد الصدق، إن أردت الصدق. إرادة النساء أقوى من شخبطة الصبيان وهذر الجدران. تبا لنا حين نرى بعيون رؤوسنا وتعمى عيون القلوب. استدر، ستراها منكبة على وجهها تنظر إلى صورتها في الجريدة، صبابة القهوة القديمة تحكي بلغة الدلال الحارة.

اشهق فما عميت عينك ولكن عميتَ «عمى القلوب التي في الصدور».

وإلا من يوم أن مات ربيع كيف لم تمت ذاكرة الفناجين! قم، قبّل يدها، هي من تهيّئ صبابات القهوة لعرسك الآتي.

إشارات

الشبق: الخيط على أطراف البرقع كان يشد به على الوجه ليغطيه

شيلة : غطاء رأس المرأة

دلال : جمع دلة

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.