أذكر جيدا ذلك اليوم البعيد من طفولة تسكن خلايا الذاكرة، يتعلق الأمر ربما ببدايات صيف سنة 1977، كنا مقبلين على امتحانات نهاية السنة، عندما طلب منّا مدرس الفرنسية أن نقف لزميلنا إبراهيم الخالدي، الذي حضر متأخرا وباكيا رفقة عمه ووالدته المتشحة بالبياض، أذكر لهجة الأستاذ الآمرة وتجهمه الغريب عن أجواء دروسه في حصة الفرنسية المكتنفة دوما بمسببات الدعابة والهزل، حين طلب منا أن نقرأ الفاتحة على روح والد زميلنا إبراهيم، الذي استشهد في حرب الصحراء.
كنا في الصف الرابع الابتدائي في مدينة صغيرة بالجنوب المغربي اسمها “سيدي إفني”، لم تمض أكثر من ثماني سنوات على استعادتها من المستعمر الإسباني، وكان أكبرنا لا يكاد يتجاوز عقده الأول إلا بسنة أو سنتين، حين رفعنا أكفنا الصغيرة لقراءة الفاتحة بخشوع، لإدخال والد زميلنا الجنة.
وقف بعدها مدرسنا ليتحدث عن فضل الشهيد ومرتبته عند الله، لم نكن نفهم من معنى الشهيد سوى أنه محارب قضى في الصحراء، ولم تكن المسألة جديدة علينا إذ فقد أزيد من ربع زملائي آباءهم في تلك الحرب التي امتدت لسنوات طويلة.
وطالما تكررت لحظات الغياب غير المبرر لزملاء عديدين خلال المواسم الدراسية اللاحقة، لكن لحظة بكاء إبراهيم كانت فارقة، إذ كان محبوبا لمواهبه العديدة من صيد العصافير إلى حفظ صيغ تصريف الأفعال بالفرنسية إلى حكاية وقائع خيالية مدهشة، كان وحيد والديه دونما إخوة أو أخوات، ممّا جعله يعوّض ذاك الفقد بنسج علاقات صداقات متينة مع جلّ زملائه في الفصل، وفي النهاية كان هو من يحرز المرتبة الأولى بعد إعلان نتائج الامتحانات.
ولمواساة إبراهيم وزملائه التلاميذ المكلومين بهذا الفقد، الذي أطفأ شعلة نشاط لافتة، اقترح مدير المدرسة -الذي لم يكن شخصا آخر سوى والدي العزيز- على هيئة التدريس منح أبناء شهداء حرب الصحراء، جوائز تحفيزية، في حفلة نهاية السنة؛ جنبا إلى جنب مع المتفوقين من التلاميذ، كان لديه إيمان داخلي عميق وهو المتديّن الحافظ للقرآن، أن تلك الهدايا ستدرأ الشر عن أبنائه (الحقيقيين والمجازيين)، في البيت والمدرسة.
لا أدري حقيقة ما سبب جعل كل الجوائز عبارة عن كتب، فالحلوى أو الملابس أو لعب الأطفال، بدت على الدوام أكثر جلبا لمشاعر الحبور لدى الطفل الذي كنته، إنما لم تكن تسؤني أيّ كتب أتلقاها هدية، من أساتذتي أو أقاربي، وفي النهاية كانت الجوائز التي منحت لإبراهيم وزملائه الأيتام والمتفوقين، عبارة عن منشورات مصرية ولبنانية: قواميس صغيرة، وكتب تعليمية، مع عدد كبير من قصص الأطفال، من تأليف الكاتب المصري المعروف في أوساطنا محمد عطية الأبراشي من مثل ” الابن النبيل” و”الأميرة الحسناء” و”الراعي الشجاع″ و”السلطان المسحور” وغيرها.
منح إبراهيم هديته لتتلقفها أيدي أصدقائه في ذات اليوم، متناوبين على تصفحها وقراءتها، من دون إحساس بالذنب، وإنما بنزعة طفولية إلى تأميم الهدية التي قصد بها تبديد المشاعر الأسيّة وجرّ صاحبها إلى عوالم خيالية تنتشله من وهدة الحزن الحالك.
من وقتها ركبني شبه يقين أن الحكاية والقصة والرواية يمكن أن تكون وقاية من الفقد أو مواساة له، لا أدري هل لذلك دخل في مساري النقدي أم لا؟ لكنّي وجدتني في مرحلة اختيار موضوع أطروحتي للدكتوراه منحازا لنص “ألف ليلة وليلة” الذي تقوم فيه الحكايات بتأجيل الموت.
اليوم حين أستعيد ولعي المبكر بفنّ الرواية لا أستطيع فصله عن قدرتها على مجابهة الفقد والخسارة والموت، واستنبات حيوات انتهت إلى مجرد صور في الذاكرة، واستعادة فضاءات تلاشت وأقارب قضوا تباعا وأصدقاء اختفوا، يبدو النص تعويضا وتعزية وأملا في خلود افتراضي.
لهذا أصدق بعمق اعتراف عشرات الروائيين بأن الرواية حمتهم من الانتحار، أو الجنون أو اللاجدوى، وأهدتهم القدرة على تحمل عيش تنجاب من حناياه الأفراح مثلما تهرب السنوات والشهور والأيام من رصيد العمر.