هشام جعيط: المخاض العسير
إذا كان فرنان برودال قد أنجز نقلة نوعية ومنهجية في معالجة التاريخ الأوروبي الحديث، فإن المفكر التونسي هشام جعيط غيّر بشكل جذري مقاربة العرب والمسلمين لتاريخ الرسول خصوصًا وفترة صدر الإسلام عمومًا، فيمكن القول إن ما قام به هو عملية إصلاح تاريخي حقيقية، حيث عمل من خلال كتاباته التاريخية على أنسنة أو عقلنة التاريخ الإسلامي، هذا التاريخ المُصاغ في كل فتراته تقريبًا على أسُس سردية، أسطورية وهالة من القُدسية. قدّم هشام جعيط من خلال كتاباته الفكرية منذ السبعينات قراءة استباقية للأزمة العربية-الإسلامية المعيشة اليوم.
بوجه بشوش وواثق رحّب بنا هشام جعيط، جلسنا في ركن الاستقبال بمكتبه بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، المعروف ببيت الحكمة، هذا البيت أو القصر الذي يتميز بطابعه العثماني والأندلسي، والذي يُطل على البحر بجهة قرطاج، حيث كان في الأصل قصرًا للجنرال زروق أحد جنرالات الباي الذين اشتهروا بقمعهم لأكبر ثورة حدثت في تاريخ تونس الحديث أي ثورة علي بن غذاهم سنة 1864. قبل ما يجاوز القرن ونصف كان يمكن أن يدور الحوار بين هذا الجنرال وأحد معاونيه حول سُبل قمع الثورة والمعارضين، أما لقائي مع المؤرخ والمفكر هشام جعيط في آخر يوم من سنة 2015، فقد كان حول مواضيع الحداثة والحرية.
أبدأ سؤالي من المثقف ودوره، أي دور للمثقف العربي اليوم؟ هل هو فهم الواقع وتحليله أم هو في أن يكون جهاز إنذار مبكّر للتنبيه من الأخطار؟ هل استطاعت النخبة العربية أن تكون في مستوى الفترة التاريخية التي نعيشها اليوم؟
جعيط: الحديث عن المثقف العربي إجمالاً صعب، لأننا بلدان متعددة، ولا يمكن أن نُعمم، هناك المُثقف التونسي، المثقف المصري…، ولكن يمكن القول إن هناك انحطاطا في دور المُثقف، أعني دور المثقف في المجال السياسي، فهناك مثقفون يزاولون العمل السياسي وهناك مثقفون يمارسون العمل الحربي، فهناك أنماط متعددة ولا يمكنني أن أتكلم بصفة عامة عن دور المثقف في هذه الفترة الحرجة والدقيقة.
إذن دور المثقف يجب أن يقتصر فقط على التحليل؟
جعيط: حتى التحليلات هي في الغالب سياسوية ومحلية، وكثير من هؤلاء المثقفين العرب مهاجرون في أوروبا وأميركا وغيرهما. المثقف يجب أن يكون على النمط الذي كان موجودًا في القرن العشرين في أوروبا مثلاً وليس مثقفًا في العوام، هناك الكثير من المثقفين، إنما يجب أن تكون للمثقف أعمال سواء أدبية أو فكرية أو علمية إلى غير ذلك، وهو يجب ألاّ يتوقف عند هذه الأعمال بل يجب أن يتدخل في الشأن العام ويُعطي أفكارا، البعض منهم قام بتكوين أيديولوجيات، هذا هو المقصود عندما يتكلم الصحفيون عن دور المُثقف وليس المثقف الذي يُطالع أو الأستاذ في الجامعة الذي يقوم بأعمال علمية فقط، لا بد أن يكون لهُ رأي يدلي به في خصوص الشأن العام: الشأن العام الوطني فقط أو الشأن العام الأعمّ، أي العربي وحتى الإسلامي، ولهُ نظرة إلى الأمور واهتمامات ليس أكثر، إنما الأساس لكي يُسمع من الناس ويكون لهُ صدى، لا بد أن تكون لهُ أعمال محترمة من قبل الناس، وإلا لا فائدة. نجد أن العديد من المثقفين يكون دورهم فقط كتابة مقالات في الصحافة، وهذا غير كاف لكي يُسمع صوتهُ، لأن المشكل عندما نقول “ما هو دور المثقف؟” هل هو مسموع الصوت أم لا في مجتمعه، سواء على النطاق القطري أو النطاق العربي؟
حركات إرهابية
هل ظهور داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى هو بالأساس ردة فعل على الضعف العربي الإسلامي أمام القوى الغربية اليوم، أم أن لهذه التنظيمات عمقا تاريخيا وفكريا مُرتبطا بالداخل أكثر من الخارج؟ بمعنى أن هذه الحركات الخارجة عن طاعة الدولة والطاعنة في شرعية أحقيتها بالحكم وُجدت منذ صدر الإسلام أم هناك تفسيرات أخرى تتصل بعوامل خارجية ذات صلة بنشأتها؟
جعيط: الحركات الإسلامية حركات حربية وكما يقال إرهابية، وما تقوم به لا يأتي بنتيجة، فقد حصل العداء مع الغرب المهيمن أو الذي مازال مهيمنًا، بالخصوص الأميركي، ووقعت اجتياحات في العراق، وبقي العالم العربي تحت الهيمنة الغربية، فهي دول ضعيفة، وبالتالي هؤلاء يريدون التحرر من الغرب عن طريق الإرهاب، لكن هذا الإرهاب لا يأتي بنتيجة ما دمنا لم نحقق النهضة التي وقعت في اليابان أو الصين، وما دمنا لا نملك عقلانية تطورية تخص الإنتاج الصناعي وغير ذلك، إذ لا فائدة تُرجى من كل ذلك.
بعد خمس سنوات لا تزال حالة الاضطراب التي تعيشها المنطقة العربية قائمة، هل تؤيد من يذهب إلى أن الوعي الجمعي العربي يرفض الديمقراطية وأن هذه المنظومة غير قابلة للتطبيق في عالمنا العربي؟ وهل ثمة من بديل للديمقراطية تأسيسا لـ”نهضة عربية” ممكنة؟
جعيط: نعم بالفعل هو غير قابل لذلك، في تونس وقع نجاح نسبي لمفهوم الديمقراطية، لكن في آخر المطاف الديمقراطية شيء مستجلب من العالم الغربي.
ما سرّ اختصاصك بالتاريخ؟
جعيط: اختياري للتاريخ كان منذ القديم، فمنذ كنت تلميذًا بالصادقية كان لي اهتمام كبير بالتاريخ، سواء التاريخ الإسلامي –وأنا أستاذ متخصص في ذلك- وبالخصوص شجعني أستاذ فرنسي كان يدرّسنا في تلك الفترة، وكنا ندرس تاريخ أوروبا، فمنذ البدايات كنت أحب علم التاريخ وأهتم به، وقد أراد أستاذي الفرنسي تقديمي إلى مناظرة مشهورة في فرنسا تتعلق بجميع المواد كالفلسفة، التاريخ والأدب.. وهذه المناظرة كان يتم اجتيازها قبل البكالوريا، وتسمى “المناظرة العامة” ولها قيمة كبيرة، وأعدّني لها هذا الأستاذ أيّما إعداد، ولكن لم يتم الأمر لأن موضوع المناظرة كان في الجغرافيا، وأنا كان لديّ اهتمام أقل بهذه المادة، فاهتمامي الأكبر كان منصبا على علم التاريخ. من ناحية ثانية اهتممت أيضًا بالفلسفة في آخر مراحل التعليم الثانوي، ثم ذهبت إلى فرنسا وكان اهتمامي بالتاريخ دائمًا موجودا، لكن كان لي أيضًا شغف بالفلسفة، وهذا ما جعلني أتردد في الاختيار ما بين الفلسفة والتاريخ في دراستي العليا، ثم اخترت في آخر المطاف التاريخ عوض الفلسفة، لكن بقي لي دائمًا شغف بالفلسفة من خلال المطالعة، وفعلاً على امتداد حياتي طالعت لكثير من الفلاسفة، ويبقى للفلسفة مكان في اهتماماتي لكن اختصاصي هو التاريخ، ورأيت أن التاريخ الإسلامي لم يدرسهُ المستشرقون.
تكوينك العلمي تمّ في تونس وفي فرنسا، فهل كان لهذه الازدواجية انعكاس على منهجيتك أي تسلّحك بوسائل الغرب المنهجية ونظرتك الداخلية للتاريخ الإسلامي؟
جعيط: نعم أنا أعرف العربية جيدًا لأني درست في الصادقية، بالإضافة إلى أني كنت مهتمًا كثيرًا باللغة عربية، كما أني درست ست أو سبع سنوات أساسًا التاريخ الغربي والعالمي حسب الأنماط في تلك الفترة، أي المناهج الفرنسية، واعتبرتُ أن معرفتي بالعربية قد تؤهلني للكتابة في تاريخ الحضارة الإسلامية، بما أني متمكّن من اللغة، ومتمكّن إلى حد ما كذلك من المناهج البحثية، فاهتممت بالتاريخ الإسلامي.
الخطاب والمُخاطب
من تخاطبُ في كتاباتك؟ خصوصًا وأنك حبّرت أعمالك الأولى باللغة الفرنسية (الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي (1974) وأوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة (1978)؛ الفتنة: جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكّر، بالفرنسية، 1989). هل اختيارك لمخاطبة الآخر هو من أجل إسماع صوت مخالف لصوت المستشرقين أم هو إقرار بغياب الجدل والقرّاء في الساحة الثقافية العربية؟
جعيط: أنا عندي نوعان من الكتابات: كتابات فكرية بالإضافة إلى الكتابات التاريخية، الكتابات الفكرية موجهة إلى المغاربة، لأنهُ في تلك الفترة كانت النخبة المغاربية تقرأ أكثر باللغة الفرنسية مما تقرأ باللغة العربية، وحتى اللبنانيون وغيرهم في ذلك الوقت كانوا يهتمون بالكتابات المدونة باللغة الفرنسية.
الخطاب، إذن، كان موجهًا للمغاربة بالأساس؟
جعيط: لا، لا، وأيضًا للغربيين، هذا فيما يخص الكتُب الفكرية، أما الدراسات العلمية التاريخية، فكنت أستخدم اللغة الفرنسية في تحبيرها لأنها كانت اللغة المُسيطرة في بلاد المغرب، كما أن الجامعة التونسية كان لها اتصال بالجامعة الفرنسية ولا يمكن لي أن أنجز دكتوراه إلا بهذه اللغة، وإن كان الأمر ممكنًا، لكن أغلب زملائي أنجزوا أعمالهم في مجال الدكتوراه تحت إشراف أساتذة من جامعة السوربون في فرنسا، وهذا هو السياق الذي كان موجودا، لكنّي حرصت على أنّ أعرّب كل ما أكتبهُ باللغة الفرنسية، سواء أقوم بالأمر بنفسي أم أُراجع التعريب بعد أن يقوم به أشخاص آخرون، فكل كتبي الفكرية والتاريخية موجودة الآن باللغة العربية، وبالطبع هناك كتب تاريخية بالخصوص حول الرسول مهرتها باللسان العربي كما عربت عددا آخر من مؤلفاتي عن الفرنسية.
شخصية ثقافية
كيف تقبلت خبر اختيارك “شخصية العام الثقافية لسنة 2015″ من قبل المؤسسة العربية للدراسات والنشر؟
جعيط: تقبلتهُ بفرح وسرور، أشكرهم، حيث كان لهذا الأمر صدى طيب في تونس وكل العالم العربي، فنحن غير متعودين على مثل هذه المبادرات.
في الختام هل من رفاق لتجربة هشام جعيط على المستوى العربي أو الإسلامي؟ بالأحرى من تعتبرهُ اليوم يسير على دربك أو منهجك؟
جعيط: أنا كونتُ طلبة هنا في تونس في هذا المجال، وكتبوا كتابات جيدة، حول الخوارج وفترة الصحابة، الأنثروبولوجيا العربية في الجاهلية والفتنة، ولكنهم لم يواصلوا، لا يوجد تشجيع كي يواصلوا. لا ننسى أن العالم العربي والإسلامي في أزمة وأن العرب والمسلمين مهتمون أولاً بالحاضر، لأن الحاضر أساسي للمحافظة على وجودهم، واحتدام المشاكل السياسية والأزمات المتعددة وبالخصوص منذ الربيع العربي لا يساعد على خلق مسافة تسمح بقراءة للحدث التاريخي أو حتى دراسة الفكر العالمي، بحوث حول اليونان مثلاً أو الصين وغير ذلك، فالاهتمام منصبّ على الحاضر وعلى المعيش.
أجري الحوار في تونس