هلال‭ ‬الحاج‭ ‬بدر‭.. ‬أين‭ ‬أنت؟

الجمعة 2016/07/01
لوحة: سمان خوام

عرفت‭ ‬‮«‬هلال‭ ‬الحاج‭ ‬بدر‮»‬،‭ ‬إما‭ ‬عام‭ ‬1973،‭ ‬وإما‭ ‬عام‭ ‬1982،‭ ‬وإما‭ ‬أيّ‭ ‬عام‭ ‬يقع‭ ‬بينهما‭. ‬فأنا‭ ‬طوال‭ ‬حياتي‭ ‬أعاني‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬حفظ‭ ‬التواريخ،‭ ‬ولكني‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬أستطيع‭ ‬ألاّ‭ ‬أضع‭ ‬اللوم‭ ‬على‭ ‬ذاكرتي‭ ‬فحسب،‭ ‬فقد‭ ‬مضى‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬وجرى‭ ‬من‭ ‬الأحداث،‭ ‬وتراكم‭ ‬من‭ ‬حطام‭ ‬التواريخ،‭ ‬ما‭ ‬يعطيني‭ ‬الحق‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬ليس‭ ‬أيّ‭ ‬عام؟‭ ‬بل‭ ‬أيضاً،‭ ‬كما‭ ‬يقال،‭ ‬الحليب‭ ‬الذي‭ ‬أرضعتني‭ ‬إياه‭ ‬أمي‭ ‬بكل‭ ‬سخاء‭. ‬وربما‭ ‬أيضاً‭ ‬لأن‭ ‬تاريخا‭ ‬كهذا،‭ ‬معدوم‭ ‬الأهمية‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬ذكريات‭ ‬أخرى‭ ‬مستحيلة‭ ‬التسرب،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬مثقوبة‭ ‬كذاكرتي‭.‬

الذكريات‭ ‬التي‭ ‬صنعناها‭ ‬سوية‭ ‬أنا‭ ‬وهلال‭ ‬خلال‭ ‬الأشهر‭ ‬الستة‭ ‬التي‭ ‬استغرقتها‭ ‬صداقتنا‭. ‬ما‭ ‬يدفعني،‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬ما‭ ‬هو،‭ ‬لأن‭ ‬أعتبرها‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬مبالغة‭ ‬إحدى‭ ‬المكونات‭ ‬الحياتية‭ ‬لما‭ ‬صرت‭ ‬عليه‭ ‬كإنسان‭ ‬عموماً‭ ‬وكشاعر‭ ‬خصوصاً‭. ‬كان‭ ‬هلال‭ ‬رقيباً‭ ‬متطوعاً‭ ‬من‭ ‬عداد‭ ‬لواء‭ ‬المشاة‭ ‬الذي‭ ‬قضيت‭ ‬به‭ ‬الجزء‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬خدمتي‭ ‬العسكرية‭ ‬الإجبارية،‭ ‬وما‭ ‬تلاها‭ ‬من‭ ‬دورات‭ ‬الاحتياط‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أستدعى‭ ‬إليها‭. ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬نادي‭ ‬اللواء‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬الأقسام‭ ‬الإدارية‭ ‬في‭ ‬المؤخرة،‭ ‬وأنا‭ ‬كضابط‭ ‬إشارة‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬أحد‭ ‬الضباط‭ ‬التابعين‭ ‬لسرية‭ ‬القيادة‭ ‬التي‭ ‬تتوسط‭ ‬انتشار‭ ‬اللواء،‭ ‬وإما‭ ‬أن‭ ‬أتناوب‭ ‬أنا‭ ‬وضابط‭ ‬آخر‭ ‬قيادة‭ ‬فصيلة‭ ‬المرصد‭ ‬في‭ ‬المقدمة،‭ ‬تماماً‭ ‬عند‭ ‬الشريط‭ ‬الحدودي‭ ‬الفاصل‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬العدو‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تفاوت‭ ‬رتبتينا،‭ ‬ما‭ ‬يستدعي‭ ‬أن‭ ‬أقضي‭ ‬جلَّ‭ ‬وقتي‭ ‬مع‭ ‬أقراني‭ ‬من‭ ‬الضباط،‭ ‬وإلاّ‭ ‬لن‭ ‬يفوتني‭ ‬أن‭ ‬توجه‭ ‬إليّ‭ ‬بعض‭ ‬الملاحظات‭ ‬وربما‭ ‬بعض‭ ‬التقريع‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬صادف‭ ‬ودخل‭ ‬خيمتي‭ ‬ضابط‭ ‬أعلى‭ ‬رتبة‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬النزعة‭ ‬العسكرية‭ ‬الصارمة‭ ‬ورآني‭ ‬جالساً‭ ‬مع‭ ‬الجنود‭ ‬أو‭ ‬الرقباء‭ ‬أشرب‭ ‬الشاي‭ ‬وأتباسط‭ ‬معهم‭ ‬في‭ ‬الحديث،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬عندما‭ ‬شاهد‭ ‬أحد‭ ‬هؤلاء‭ ‬جندياً‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬القرى‭ ‬المجاورة‭ ‬لمدينتي،‭ ‬يروي‭ ‬لي‭ ‬قصصاً‭ ‬عن‭ ‬عمله‭ ‬ساقياً‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬النوادي‭ ‬الليلية‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬فراح‭ ‬يصيح‭ ‬به‭ ‬وينكزه‭ ‬بيده‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مهين‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لديّ‭ ‬من‭ ‬خيار‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬أتحمل‭ ‬مسؤولية‭ ‬جلوسه‭ ‬معي،‭ ‬وأقول‭ ‬إنني‭ ‬من‭ ‬طلب‭ ‬منه‭ ‬الدخول‭ ‬لخيمتي‭. ‬فكانت‭ ‬مكافأتي‭ ‬نتيجة‭ ‬ذلك‭ ‬تهديدي‭ ‬بعقوبة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬سجن،‭ ‬لم‭ ‬تنفذ‭ ‬بسبب‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬سجن‭ ‬مخصص‭ ‬للضباط‭ ‬على‭ ‬الجبهة‭. ‬إلاّ‭ ‬أن‭ ‬‮«‬هلال‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬اكتشافه‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬قرأ‭ ‬له‭ ‬قصائد‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الموقف‭ ‬الأدبي‭ ‬ويطابق‭ ‬اسمه‭ ‬اسمي‭ ‬هو‭ ‬أنا،‭ ‬فإن‭ ‬شيئاً‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يقدر‭ ‬على‭ ‬منعه‭ ‬من‭ ‬الاتصال‭ ‬بي‭ ‬يومياً،‭ ‬ليسألني‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬أحتاج‭ ‬شيئاً،‭ ‬ثم‭ ‬ليدخل‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬طويل،‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬إلا‭ ‬بتدخل‭ ‬عامل‭ ‬المقسم‭ ‬ومطالبته‭ ‬بإنهاء‭ ‬المكالمة‭ ‬لحاجة‭ ‬ضابط‭ ‬ما‭ ‬للخط،‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬المجيء‭ ‬لعندي‭ ‬كلما‭ ‬سنحت‭ ‬له‭ ‬الفرصة،‭ ‬صباحاً‭ ‬أو‭ ‬ظهراً‭ ‬أو‭ ‬مساء،‭ ‬أقرأ‭ ‬له‭ ‬قصائدي‭ ‬وأريه‭ ‬رسومي‭. ‬وهكذا‭ ‬قامت‭ ‬بيننا‭ ‬صداقة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الصداقات‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬الناس‭ ‬خلال‭ ‬الدراسة‭ ‬الجامعية‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬موطنهم،‭ ‬أو‭ ‬الخدمة‭ ‬العسكرية‭ ‬أو‭ ‬السجن،‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬كانوا‭ ‬ممن‭ ‬قذفت‭ ‬بهم‭ ‬حظوظهم‭ ‬السعيدة‭ ‬للخدمة‭ ‬زمناً‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬الجبهة،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬أناسهم‭ ‬وأماكنهم‭ ‬مئات‭ ‬الكيلومترات‭. ‬وكما‭ ‬توقعت،‭ ‬كلما‭ ‬تعرفت‭ ‬على‭ ‬شاب‭ ‬يبدي‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الاهتمام،‭ ‬كان‭ ‬لهلال‭ ‬محاولات‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬ولديه‭ ‬قصائد‭ ‬لم‭ ‬ينشرها‭ ‬ولم‭ ‬يطّلع‭ ‬عليها‭ ‬أحد‭.‬

التقط‭ ‬هلال‭ ‬بروحه‭ ‬العطشى‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬وجدها‭ ‬بي،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬كتابة‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬شعراً‭ ‬موقعاً‭ ‬ومقفى‭ ‬وإن‭ ‬غير‭ ‬مقيد‭ ‬بوزن‭ ‬أو‭ ‬بقافية‭. ‬فقد‭ ‬أحب‭ ‬أيضاً‭ ‬روايات‭ ‬أرسكين‭ ‬كالوديل‭ ‬ومسرحيات‭ ‬برتولد‭ ‬بريخت‭ ‬التي‭ ‬أعرتها‭ ‬له،‭ ‬كما‭ ‬أحب‭ ‬أشعار‭ ‬محمد‭ ‬سيدة‭ ‬وشوقي‭ ‬أبي‭ ‬شقرا‭ ‬وأنسي‭ ‬الحاج‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬متأثراً‭ ‬ببدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ ‬وأدونيس‭ ‬وموريس‭ ‬قبق‭ ‬الذي‭ ‬سمعت‭ ‬اسمه‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬هلال‭ ‬نفسه‭. ‬وراح‭ ‬يستمع‭ ‬معي‭ ‬لأشرطة‭ ‬البيتلز‭ ‬وجوني‭ ‬كاش‭ ‬وكريس‭ ‬كريستوفرسون‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬أغنيات‭ ‬فيروز‭ ‬رفيقته‭ ‬ليل‭ ‬نهار،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬صار‭ ‬يستخدم‭ ‬نوع‭ ‬معجون‭ ‬أسناني‭ ‬الفرنسي‭ ‬بطعم‭ ‬القرفة‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يخفف،‭ ‬بل‭ ‬ربما‭ ‬ضاعف،‭ ‬الألم‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يخترق‭ ‬روح‭ ‬هلال،‭ ‬وفي‭ ‬حالات‭ ‬كنت‭ ‬شاهداً‭ ‬عليها،‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬جسده،‭ ‬بسبب‭ ‬تطوعه،‭ ‬لأسباب‭ ‬خارجة‭ ‬عن‭ ‬إرادته،‭ ‬في‭ ‬الجيش‭. ‬فهو‭ ‬بطبعه‭ ‬الرقيق‭ ‬الحساس‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬التلاؤم‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬العسكرية،‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬بالخدمة‭ ‬على‭ ‬الجبهة،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يراعي‭ ‬حالته،‭ ‬ويقدم‭ ‬له‭ ‬يد‭ ‬العون‭. ‬وقد‭ ‬أحيل‭ ‬للطبابة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬بسبب‭ ‬انهيارات‭ ‬عصبية‭ ‬أصيب‭ ‬بها،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬تطلب‭ ‬نقله‭ ‬من‭ ‬اختصاصه‭ ‬الحقيقي‭ ‬وهو‭ ‬الدفاع‭ ‬الجوي‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬الإداري‭ ‬في‭ ‬نادي‭ ‬اللواء‭. ‬أذكر‭ ‬كيف‭ ‬بكى‭ ‬أمامي‭ ‬وأنا‭ ‬أحاول‭ ‬تشجيعه‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬التسريح‭ ‬من‭ ‬الخدمة،‭ ‬كخطوة‭ ‬أولى‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭. ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬يضع‭ ‬أباه‭ ‬كعذر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تخطيه،‭ ‬إضافة‭ ‬لكونه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أيّ‭ ‬مهنة‭ ‬أخرى‭ ‬ليعمل‭ ‬بها‭ ‬ويؤمّن‭ ‬معاشه‭.‬

ذات‭ ‬مساء‭ ‬دخل‭ ‬هلال‭ ‬خيمتي‭ ‬متهللاً‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬سبب‭ ‬سعادته‭ ‬كان‭ ‬قراءته‭ ‬لقصائد‭ ‬لي‭ ‬منشورة‭ ‬في‭ ‬ملحق‭ ‬صحيفة‭ ‬النهار‭ ‬الثقافي،‭ ‬الذي‭ ‬أحضره‭ ‬له‭ ‬أخوه‭ ‬العامل‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وكنت‭ ‬أنا‭ ‬نفسي‭ ‬لم‭ ‬أخبر‭ ‬بهذا‭ ‬بعد،‭ ‬وقتها‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬راح‭ ‬يقرأ‭ ‬لي‭ ‬قصيدة‭ ‬كتبها‭ ‬متأثراً‭ ‬بأسلوبي‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬القصيدة‭ ‬واقعية،‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬أمور‭ ‬جرت‭ ‬أحداثها‭ ‬مع‭ ‬كاتبها،‭ ‬إضافة‭ ‬لتحررها‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬وجاءت‭ ‬القصيدة‭ ‬وكأنها‭ ‬تطبيق‭ ‬حرفي‭ ‬لهذه‭ ‬المواصفات،‭ ‬وموضوعها‭ ‬إحدى‭ ‬زيارات‭ ‬هلال‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يجدني‭ ‬بها،‭ ‬ولست‭ ‬آسفاً‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أقم‭ ‬بتدوينها‭ ‬على‭ ‬دفتر‭ ‬أو‭ ‬كتاب‭ ‬أقرؤه،‭ ‬لأنني‭ ‬طلبت‭ ‬منه‭ ‬إعادة‭ ‬قراءتها‭ ‬مرات‭ ‬عدة،‭ ‬حتى‭ ‬أني‭ ‬حفظتها‭ ‬كلمة‭ ‬كلمة‭ ‬وحرفاً‭ ‬حرفاً،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬تهدى‭ ‬لي‭:‬

هل‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المحتم

هلال‭ ‬الحاج‭ ‬بدرإلى‭ ‬منذر‭ ‬مصري

هل‭ ‬كانَ‭ ‬من‭ ‬المحتم

أن‭ ‬يلحقَ‭ ‬بي‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬إليك

كلبٌ‭ ‬أسودُ‭ ‬يمشي‭ ‬مائلاً

بسبب‭ ‬عرجِ‭ ‬شديدٍ‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬قوائمه‭.‬

***

هل‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المحتم‭ ‬

أن‭ ‬أعبرَ‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬إليك

بركَ‭ ‬وحلٍ‭ ‬تفوحُ‭ ‬منها‭ ‬رائحةٌ‭ ‬كريهةٌ‭ ‬زنخة‭.‬

***

هل‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المحتم

وأنا‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬إليك‭ ‬أن‭ ‬ينطفئ‭ ‬ضوءُ‭ ‬بطاريتي

فيعترضني‭ ‬بغلٌ‭ ‬ضائع‭ ‬

ومن‭ ‬شدّةِ‭ ‬العتمة

يصطدمُ‭ ‬وجهي‭ ‬بمؤخرته‭.‬

***

هل‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المحتم

أن‭ ‬أتكبَّدَ‭ ‬عناءَ‭ ‬السيرِ‭ ‬على‭ ‬قدمي

في‭ ‬الظلام

وفي‭ ‬الوحل

كل‭ ‬تلك‭ ‬المسافةِ‭ ‬الطويلة

فلا‭ ‬أجدُك‭..‬

وبما‭ ‬أن‭ ‬خدمتي‭ ‬الإجبارية،‭ ‬التي‭ ‬مدّدت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬بسبب‭ ‬الحرب‭ ‬وما‭ ‬تبعها،‭ ‬كان‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬وأن‭ ‬تنتهي،‭ ‬فإنه‭ ‬فجأة‭ ‬جاء‭ ‬أمر‭ ‬تسريحي‭. ‬علمت‭ ‬بصدوره‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬إلصاقه‭ ‬على‭ ‬لوحة‭ ‬إعلانات‭ ‬قيادة‭ ‬اللواء،‭ ‬فقد‭ ‬صدف‭ ‬وقتها،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعذر‭ ‬عليّ‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬إجازة‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شهر،‭ ‬أن‭ ‬قررت‭ ‬السفر‭ ‬للاذقية‭ ‬لقضاء‭ ‬مساء‭ ‬الخميس‭ ‬وكامل‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬والعودة‭ ‬للكتيبة‭ ‬صباح‭ ‬السبت‭ ‬قبل‭ ‬نهاية‭ ‬الدوام،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬بان‭ ‬خيالي‭ ‬قادماً‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬حتى‭ ‬أسرع‭ ‬إليّ‭ ‬إثنان‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬فصيلتي‭ ‬ليخبراني‭ ‬النبأ،‭ ‬فتوجهت‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬براكة‭ ‬قائد‭ ‬الكتيبة،‭ ‬ليستقبلني‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬رآني‭ ‬قائلاً‭ ‬‮«‬حتّى‭ ‬عن‭ ‬التسريح‭ ‬تتأخر‭ ‬يا‭ ‬ملازم‭ ‬منذر‭!‬؟‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أقوم‭ ‬بإجراءات‭ ‬براءة‭ ‬الذمة‭ ‬وتسليم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مسجلاً‭ ‬على‭ ‬اسمي‭ ‬من‭ ‬عتاد‭ ‬ولباس‭ ‬وأدوات‭ ‬مكتبية‭ ‬في‭ ‬أسرع‭ ‬وقت،‭ ‬تحسباً‭ ‬لاحتمال‭ ‬أن‭ ‬يتبع‭ ‬أمر‭ ‬التسريح‭ ‬أمر‭ ‬عسكري‭ ‬لاحق‭ ‬بالاحتفاظ‭ ‬بكل‭ ‬الذين،‭ ‬لسبب‭ ‬أو‭ ‬لآخر،‭ ‬وما‭ ‬زالوا‭ ‬قيد‭ ‬الخدمة،‭ ‬فلم‭ ‬ينقض‭ ‬اليوم‭ ‬إلا‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬أنهيت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مطلوب‭ ‬لأسلّم‭ ‬الهوية‭ ‬العسكرية‭ ‬وأتسلم‭ ‬هويتي‭ ‬الشخصية،‭ ‬وأعود‭ ‬مدنياً‭ ‬أركب‭ ‬باصاً‭ ‬عمومياً‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬لمدينتي‭ ‬الساحلية‭ ‬وبين‭ ‬قدميّ‭ ‬الحقيبة‭ ‬التي‭ ‬عبأت‭ ‬بها‭ ‬أغراضي‭ ‬الخاصة،‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الثياب‭ ‬والمذياع‭ ‬المحمول‭ ‬وبعض‭ ‬الكتب‭ ‬والدفاتر،‭ ‬من‭ ‬بينها،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أكتشفه‭ ‬حتى‭ ‬وصولي‭ ‬إلى‭ ‬البيت،‭ ‬دفتر‭ ‬هلال‭ ‬الصغير‭ ‬ذي‭ ‬الغلاف‭ ‬البلاستيكي‭ ‬الأسود‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أودعني‭ ‬إياه‭ ‬في‭ ‬الزيارة‭ ‬التي‭ ‬أخبرني‭ ‬بها‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬تقدم‭ ‬بطلب‭ ‬تسريحه‭ ‬من‭ ‬الخدمة‭ ‬وأنه‭ ‬مضطر‭ ‬لمراجعة‭ ‬اللجنة‭ ‬الطبية‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬قائلاً‭ ‬‮«‬أخشى‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يروقك،‭ ‬إنه‭ ‬يحتوي‭ ‬القصائد‭ ‬التي‭ ‬كتبتها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أتعرف‭ ‬عليك‮»‬‭. ‬بعدها‭ ‬اتصلت‭ ‬بمقسم‭ ‬اللواء‭ ‬مرات‭ ‬عدة‭ ‬وسألت‭ ‬عنه‭ ‬قسم‭ ‬الذاتية‭ ‬ليخبروني‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬وقتها‭ ‬لم‭ ‬يروه،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬المرة‭ ‬الأخيرة‭ ‬قالوا‭ ‬لي‭ ‬إنهم‭ ‬قد‭ ‬تسلموا‭ ‬قرار‭ ‬تسريحه‭ ‬لعدم‭ ‬لياقته‭ ‬للخدمة‭ ‬العسكرية‭ ‬لأسباب‭ ‬صحية،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬أعفي‭ ‬من‭ ‬دعوات‭ ‬الاحتياط‭.‬

قرأت‭ ‬دفتر‭ ‬هلال‭ ‬الأسود‭ ‬منذ‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬عندي،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬صحيحاً‭ ‬تماماً‭ ‬ما‭ ‬قاله،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يتضمن‭ ‬نوعين‭ ‬من‭ ‬القصائد،‭ ‬الأول،‭ ‬القصائد‭ ‬الموقعة‭ ‬والمقفاة،‭ ‬والثاني،‭ ‬قصائد‭ ‬نثرية‭ ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬كتبها‭ ‬بعد‭ ‬تعرفنا،‭ ‬واطلاعه‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬صديقي‭ ‬محمد‭ ‬سيدة‭ ‬المخطوطة‭ ‬بيده‭ ‬على‭ ‬دفتر‭ ‬كنت‭ ‬أحمله‭ ‬معي‭ ‬أينما‭ ‬ذهبت‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تخوفه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬محله،‭ ‬لأنني‭ ‬حقاً،‭ ‬أعجبت‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحصى،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنني‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬قبضت‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬متلبساً‭ ‬بسرقة‭ ‬بعض‭ ‬صوره‭ ‬واستخدام‭ ‬بعض‭ ‬سطوره‭ ‬حرفياً،‭ ‬مما‭ ‬اضطرني‭ ‬لوضعها‭ ‬بين‭ ‬أقواس،‭ ‬كما‭ ‬أفعل‭ ‬عادة‭ ‬عندما‭ ‬أقتبس‭ ‬جملة‭ ‬أو‭ ‬فكرة‭ ‬أعجبت‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬أشعار‭ ‬سواي،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬لصاحبها،‭ ‬لأن‭ ‬أحداً‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬صاحبها‭. ‬إلاّ‭ ‬أن‭ ‬الشعور‭ ‬الأقوى‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينتابني‭ ‬وما‭ ‬يزال‭ ‬عند‭ ‬قراءة‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬هو‭ ‬أني‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قصيدة‭ ‬أرى‭ ‬وجه‭ ‬هلال،‭ ‬وجه‭ ‬هلال‭ ‬الدائري‭ ‬الصغير‭ ‬وهو‭ ‬يبكي‭ ‬ويضحك‭ ‬بذات‭ ‬الوقت،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬جملة‭ ‬أشعر‭ ‬بروحه‭ ‬وهي‭ ‬تقع‭ ‬ثم‭ ‬تقف،‭ ‬ثم‭ ‬تقع‭ ‬ثانية‭.. ‬ثم‭ ‬تقف‭ ‬وتحاول‭ ‬العبور‭.‬

وفيما‭ ‬يلي‭ ‬قصائد‭ ‬هلال،‭ ‬ولكن‭ ‬للأسف‭ ‬ليست‭ ‬كلها،‭ ‬فتلك‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬أوردتها‭ ‬سابقاً‭ ‬ليست‭ ‬بينها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬وأن‭ ‬هناك‭ ‬قصائد‭ ‬أشد‭ ‬نضجاً‭ ‬كتبها‭ ‬خلال‭ ‬صداقتنا،‭ ‬ليست‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬الدفتر‭. ‬وكأنه‭ ‬آثر‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬معي‭ ‬هناك‭ ‬ماضيه‭ ‬وحاضره‭ ‬ويعبر‭ ‬طليقاً‭ ‬إلى‭ ‬مستقبله‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تأكد‭ ‬لي،‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬شتائي‭ ‬ماطر‭ ‬وأنا‭ ‬أنتظر‭ ‬حافلة‭ ‬النقل‭ ‬العامة‭ ‬على‭ ‬الرصيف‭ ‬المقابل‭ ‬لمقرّ‭ ‬عملي،‭ ‬عندما‭ ‬توقفت‭ ‬أمامي‭ ‬مباشرة،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬لها،‭ ‬سيارة‭ ‬أجرة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وكأنها‭ ‬مخصصة‭ ‬للسفر‭ ‬خارجاً،‭ ‬مد‭ ‬سائقها‭ ‬رأسه‭ ‬من‭ ‬نافذتها‭ ‬طالباً‭ ‬مني‭ ‬الدخول،‭ ‬فإذ‭ ‬به‭ ‬هلال‭ ‬الحاج‭ ‬بدر‭ ‬نفسه،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أبديت‭ ‬بهجتي‭ ‬العارمة‭ ‬بلقائه،‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬ذكرت‭ ‬له،‭ ‬أن‭ ‬دفتر‭ ‬أشعاره‭ ‬مازال‭ ‬عندي،‭ ‬وأنه‭ ‬من‭ ‬الواجب‭ ‬أن‭ ‬أعيده‭ ‬له،‭ ‬فإذ‭ ‬به‭ ‬يبتسم‭ ‬بمرارة‭ ‬ويقول‭ ‬‮«‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬لديك‭ ‬مانع‭ ‬أن‭ ‬تبقيه‭ ‬معك،‭ ‬فهذا‭ ‬أحفظ‭ ‬له،‭ ‬كما‭ ‬أنّي‭ ‬أحبّ‭ ‬أن‭ ‬تتذكرني‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬إلى‭ ‬آخر‮»‬‭. ‬و‮»‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬القصائد‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬كتبتها؟‮»‬‭ ‬سألته‭. ‬‮«‬ليس‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬أخرى‭. ‬عندما‭ ‬سرحت،‭ ‬ساعدني‭ ‬بعض‭ ‬الأصدقاء‭ ‬فلم‭ ‬أضطر‭ ‬لأن‭ ‬أعود،‭ ‬وتركت‭ ‬هناك‭ ‬كل‭ ‬شيء‮»‬‭. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬8‭-‬11‭-‬1984‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مدوّن‭ ‬في‭ ‬مذكراتي،‭ ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬لم‭ ‬أر‭ ‬هلال‭ ‬ولم‭ ‬أسمع‭ ‬عنه‭ ‬شيئاً،‭ ‬مع‭ ‬أني‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬خلتُ‭ ‬أنني‭ ‬لمحته،‭ ‬يقود‭ ‬سيارة‭ ‬ما‭ ‬تعبر‭ ‬أمامي‭ ‬فجأة‭ ‬ثم‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تختفي‭ ‬في‭ ‬زحمة‭ ‬السير‭.‬

إذن‭ ‬ها‭ ‬هي‭ ‬قصائد‭ ‬نهوض‭ ‬هلال‭ ‬يتبعها‭ ‬أطياف‭ ‬عبوره،‭ ‬كما‭ ‬قسمها‭ ‬بنفسه‭ ‬في‭ ‬دفتره،‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬العشرين‭ ‬قصيدة‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬قصائد‭ ‬تفعيلة،‭ ‬وعشر‭ ‬قصائد‭ ‬نثرية،‭ ‬جميعها‭ ‬غير‭ ‬مؤرخة،‭ ‬آثرت‭ ‬بعد‭ ‬تردد‭ ‬أن‭ ‬أنقلها‭ ‬حرفياً‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬تغيير،‭ ‬رغم‭ ‬قابلية‭ ‬مقاطع‭ ‬كثيرة‭ ‬منها‭ ‬للتحسين،‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬غضي‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬القصائد،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يطول‭ ‬النص‭ ‬المعدّ‭ ‬للنشر‭ ‬أكثر،‭ ‬وكذلك‭ ‬بعض‭ ‬القصائد‭ ‬والأسطر‭ ‬المتكررة،‭ ‬باختلافات‭ ‬أحياناً‭ ‬بسيطة‭ ‬غير‭ ‬واضحة‭ ‬وأحياناً‭ ‬ظاهرة‭ ‬وشديدة،‭ ‬وكأنّ‭ ‬هلال‭ ‬كان‭ ‬يعيد‭ ‬كتابتها‭ ‬ليحسّنها‭. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬ينجح‭ ‬به‭ ‬غالباً،‭ ‬لذا‭ ‬منعاً‭ ‬للتكرار‭ ‬ورغبة‭ ‬بتقديم‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬بأفضل‭ ‬وجه،‭ ‬رأيت‭ ‬أن‭ ‬أكتفي‭ ‬بالصورة‭ ‬الأخيرة‭ ‬لكل‭ ‬منها‭..‬


لوحة: حسين جمعان

قصائد‭ ‬النهوض

1

حينَ‭ ‬صرتُ‭ ‬فارساً

أصاحبُ‭ ‬المكانَ

وأرتدي‭ ‬أسمالَه

صحتُ‭: ‬يا‭ ‬مدينتي

يا‭ ‬أمّي‭ ‬وابنتي

هذا‭ ‬دمي

دمي‭ ‬مدادُكِ‭ ‬فاكتبي

لكنها‭ ‬على‭ ‬طولِ‭ ‬المسافة

كتبت‭ ‬على‭ ‬صدري

الخرافة‭..‬

2

يا‭ ‬أيها‭ ‬الزمنُ‭ ‬المخادع

إنّا‭ ‬ما‭ ‬طلبنا

وما‭ ‬سألناكَ‭ ‬الخلاصَ

كلُّ‭ ‬همّي‭ ‬وهمُّ‭ ‬قومي

هوَ‭ ‬النهار

وأن‭ ‬تدورَ‭ ‬وأن‭ ‬تدورَ

كدورةِ‭ ‬الحياة

كما‭ ‬تدورُ‭ ‬الشمسُ‭ ‬في‭ ‬قبةِ‭ ‬السماء

ليلٌ‭ ‬ويتلوهُ‭ ‬نهار

ليلٌ‭ ‬ويتلوهُ‭ ‬نهار

يا‭ ‬أيها‭ ‬الزمنُ‭ ‬المخادع

أينَ‭ ‬النهار

أينَ‭ ‬النهار‭..‬

3

يا‭ ‬صانعَ‭ ‬الولادة

لا‭ ‬تغنّ‭ ‬لنا‭ ‬أغانيكَ‭ ‬المعادة

فالقلوبُ‭ ‬والعقولُ‭ ‬الجديدة

ملَّت‭ ‬أغانيكَ‭ ‬الحزينةَ‭ ‬والسعيدة‭.‬

يا‭ ‬صانعَ‭ ‬الولادة

لا‭ ‬تغنّ‭ ‬لنا‭ ‬أغانيكَ‭ ‬البليدة

والمعادة‭..‬

5

أبحثُ‭ ‬في‭ ‬حياتي

عن‭ ‬ذكرياتي‭ ‬السعيدة

فلا‭ ‬أجد

هل‭ ‬نسيتُ

أم‭ ‬أنَّ‭ ‬أحزاني‭ ‬عذراءٌ‭ ‬تُزفُّ‭ ‬كلَّ‭ ‬ليلة

وكآبتي

شمسيَ‭ ‬الوحيدة‭..‬

6

لا‭ ‬أصلحُ‭ ‬للدرزِ‭ ‬فأنا‭ ‬لستُ‭ ‬قماشة

لا‭ ‬أصلحُ‭ ‬للغرزِ‭ ‬فأنا‭ ‬لستُ

ورقة

لا‭ ‬أصلحُ‭ ‬للصيدِ‭ ‬ولا‭ ‬للإخلاصِ‭ ‬الأعمى

فأنا‭ ‬لستُ‭ ‬كلباً‭.‬

‭-‬

فوقَ‭ ‬الجبهةِ‭ ‬عندي‭ ‬قد‭ ‬دُقَّ

ألفُ‭ ‬مسمار

وأنتَ‭ ‬تعلمُ‭ ‬كيف‭!‬

حتى‭ ‬أهداب‭ ‬جفوني‭ ‬صارت‭ ‬تعليقةً

وأنتَ‭ ‬تعلمُ‭ ‬كيف‭!..!‬؟

لكنَّ‭ ‬وجهي‭ ‬أبداً

لا‭ ‬يصلحُ‭ ‬للأقنعةِ

ودهاناتِ‭ ‬الزيف‭!..‬

9

إشارات

‭-‬‭ (‬المسمار‭)‬

كلما‭ ‬اعتدتُ‭ ‬على‭ ‬وجه

وصادقتُ‭ ‬المكان

أشعرُ‭ ‬أنّي

أُدقُّ‭ ‬كالمسمار‭..‬

‭- (‬العابر‭)‬

مغبرٌ‭ ‬أشعثُ

كشجرةِ‭ ‬السروِ‭ ‬البغي

الطيرُ‭ ‬يهربُ‭ ‬مني

والدرب‭ ‬يبصقني‭..‬

‭- (‬الرصيف‭)‬

وحينَ‭ ‬أعبرُ‭ ‬الطريقَ

من‭ ‬الرصيفِ‭ ‬إلى‭ ‬الرصيفِ

ممثلاً‭ ‬لشعبيَ‭ ‬الضعيف

لا‭ ‬أعبرُ‭ ‬الطريق‭..‬

‭- (‬أيلول‭)‬

مرَّ‭ ‬بذهني‭ ‬خاطرُ‭ ‬أيلول

زغردوا‭ ‬واقرعوا‭ ‬الطبول

زغردوا‭ ‬واقرعوا‭ ‬الطبول

مرَّ‭ ‬بذهني‭ ‬خاطرُ‭ ‬أيلول‭..‬

‭- (‬الطبول‭)‬

أفضِّلُ‭ ‬الطبول‭!‬

لأنها‭ ‬صريحة‭!‬

أفضِّلُ‭ ‬الطبول‭!‬

لأنها‭ ‬تقول‭!‬

إنَّها‭ ‬طبول‭!..‬

‭- (‬العنكبوت‭)‬

أخبرتُكِ‭ ‬كم‭ ‬أعشقُ‭ ‬الحياة

لكنني

كي‭ ‬أمزِّقَ‭ ‬عن‭ ‬عيونكِ

شبكةَ‭ ‬العنكبوت

أعشقُ‭ ‬أن‭ ‬أموت‭..‬

10

قالت‭ ‬ليَ‭ ‬الطفلةُ‭ ‬الصغيرة

الهضبةُ‭ ‬الأصيلة‭!‬

تكرهُ‭ ‬البغاءَ

وتكرهُ‭ ‬الفضيلة‭.‬

‭-‬

قالت‭ ‬لي‭ ‬الطفلةُ‭ ‬الصغيرة

تحلمُ‭ ‬الهضبةُ‭ ‬الأصيلة

أحلاماً‭ ‬مدببة‭!‬

حتى‭ ‬إلى‭ ‬حين

يا‭ ‬ساكني‭ ‬الهضبة

الهضبةُ‭ ‬الأصيلة

ليست‭ ‬حصيرة‭!..‬

12

أصبو‭ ‬إلى‭ ‬الجرحِ‭ ‬العظيمِ

وفي‭ ‬يدي

روحي‭ ‬مولعةٌ

وقلبي‭ ‬واجفُ‭.‬

‭-‬

يا‭ ‬ريحُ‭ ‬مرّي‭ ‬بي

يا‭ ‬ريحُ‭ ‬اعصفي

كي‭ ‬تمخرَ‭ ‬الحشدَ‭ ‬العجيبَ

مراكبي

يا‭ ‬ريحُ‭ ‬مرّي‭ ‬بي

يا‭ ‬ريحُ‭ ‬اعصفي

كي‭ ‬يعرفَ‭ ‬الحشدُ‭ ‬العجيبُ

شواطئي‭.‬

‭-‬

يا‭ ‬ريحُ‭ ‬مرّي‭ ‬بي

يا‭ ‬ريحُ‭ ‬اعصفي‭..‬

14

تقولُ‭ ‬لي‭ ‬الأحلامُ

والأحلامُ‭ ‬سيدتي

‭:‬عصافيرُ‭ ‬بأجنحةٍ‭ ‬من‭ ‬الريحِ

وألوانٍ‭ ‬من‭ ‬القزحِ

ستأتي

من‭ ‬ظلمةِ‭ ‬الليلِ

وعِبرَ‭ ‬ضحالةِ‭ ‬الفرحِ

لكي‭ ‬تقفَ‭ ‬على‭ ‬كفّي

وتحيا

في‭ ‬بياضِ‭ ‬يدي‭..‬

15

رجعتُ‭ ‬للمدينة

غنيتُ‭ ‬في‭ ‬المدينة

في‭ ‬الأزقةِ‭ ‬والحدائقِ‭ ‬والعيون

بعضَ‭ ‬أطيافِ‭ ‬العبور

على‭ ‬حنينِ‭ ‬الأمهاتِ

وطيبةِ‭ ‬الصدور‭.‬

***

بعضُ‭ ‬الحكايا‭ ‬تحيةٌ‭ ‬حزينة

يا‭ ‬رفاقَ‭ ‬الذاكرة

بعضُ‭ ‬الحكايا

تحيةٌ‭ ‬حزينةٌ‭.‬

***

العمرُ‭ ‬الأولُ‭ ‬طار

على‭ ‬جدرانِ‭ ‬حدائقِ‭ ‬النساء

أوتذكرونَ‭ ‬يا‭ ‬رفاقَ‭ ‬الجدار

‮ ‬كم‭ ‬كانَ‭ ‬حلماً‭ ‬مهوساً

خصرُ‭ ‬فتاة‭!‬

أوتذكرونَ‭ ‬يا‭ ‬رفاقَ‭ ‬الجدار‭!..‬

18

بعدَ‭ ‬أن‭ ‬سئمتُ‭ ‬من‭ ‬نطاحِ‭ ‬الصخور

عدتُ‭ ‬واستدرتُ‭ ‬للنملِ‭ ‬والذباب

أكسِّرُ‭ ‬النبالَ‭ ‬والرماح

على‭ ‬شواهدِ‭ ‬القبور‭.‬

***

وهل‭ ‬يا‭ ‬سادتي‭ ‬الحضور

وجوهكم

شواهدُ‭ ‬القبور‭..‬


تخطيط: حسين جمعان

19

‮ ‬‭(‬الجرحُ‭ ‬الممدود‭)‬

إلى‭ ‬الفنان‭ ‬والإنسان‭ ‬لؤي‭ ‬كيالي‭ ‬قبيل‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬26‭-‬12‭-‬1978‭ ‬بأيام‭.‬

جرحيَ‭ ‬الممدودُ‭ ‬من‭ ‬صدري‭ ‬لصدرك

قل‭! ‬من‭ ‬يداويه‭ ‬وكيف؟

وهل‭ ‬يُداوى

ما‭ ‬دام‭ ‬في‭ ‬الدنيا

في‭ ‬أولِ‭ ‬الدنيا

في‭ ‬آخرِ‭ ‬الدنيا

وجهُ‭ ‬إنسانٍ‭ ‬يُمعَّسُ‭ ‬بالوحول

أو‭ ‬طفلٌ‭ ‬يجوعُ

وطفلٌ‭ ‬يُيتَّم

وأمُّ‭ ‬تنوحُ

وأمٌّ‭ ‬تموت

ماذا‭ ‬أقولُ

والسكينُ‭ ‬والمسمارُ

في‭ ‬عيني‭ ‬وقلبي

ماذا‭ ‬أقول

جرحُكَ‭ ‬الممدودُ‭ ‬من‭ ‬صدري‭ ‬لصدرِكَ

قل‭! ‬من‭ ‬يداويه‭ ‬وكيف؟

***

حولَكَ‭ ‬يا‭ ‬حزين

يمضغُ‭ ‬الزيفُ‭ ‬ويؤكل

والحبُّ‭ ‬قناع

حولَكَ‭ ‬يا‭ ‬حزين

يمضغُ‭ ‬الحزنُ‭ ‬ويؤكل

والكذبُ‭ ‬يُباع

ربما‭ ‬تدري

وربَّ‭ ‬لا‭ ‬تدري

ملايينٌ‭ ‬من‭ ‬الأفراحِ‭ ‬والأحزان

بينَ‭ ‬الطفلِ‭ ‬والزيفِ

فقل‭! ‬لي

من‭ ‬أينَ‭ ‬للأطفالِ‭ ‬عينُ‭ ‬الزيف

من‭ ‬أينَ‭ ‬للإنسانِ‭ ‬عينُ‭ ‬الزيف

جرحنا‭ ‬الممدودُ‭ ‬من‭ ‬صدري‭ ‬لصدرِك

قل‭! ‬من‭ ‬يداويهِ‭ ‬وكيف‭.‬

***

حملٌ‭ ‬على‭ ‬الأكتافِ‭ ‬لا‭ ‬تُحسد‭ ‬عليهِ

أو‭ ‬ربما‭ ‬تُحسد‭!‬

وأمانةٌ‭ ‬في‭ ‬العنقِ‭ ‬يا‭ ‬لؤي

أن‭ ‬لا‭ ‬تبور‭!‬

أن‭ ‬لا‭ ‬يبورَ‭ ‬الجرح‭!‬

أن‭ ‬لا‭ ‬تبورَ‭ ‬الأرض‭!‬

حملٌ‭ ‬على‭ ‬الأكتافِ‭ ‬لا‭ ‬تُحسد‭ ‬عليهِ

أو‭ ‬ربما‭ ‬تُحسد‭!‬

أن‭ ‬لا‭ ‬يبورَ‭ ‬اللون‭..‬

أطيافُ‭ ‬العبور

1-‭ ‬سندباد

أقفُ‭ ‬أتمسَّكُ‭ ‬بالحبل

والمركبُ‭ ‬يطير

والجوقةُ‭ ‬تهلل‭ ‬للرب‭.‬

***

الأشرعة‭ ‬مشرعة

والبحارةُ‭ ‬سكارى

والمركب‭ ‬يطير‭ ‬بالجوقةِ‭ ‬المنشدةِ

‭(‬هاليلويا‭)‬

لأقاصي‭ ‬البحار‭ ‬المجهولة‭.‬

***

أحسُّ‭ ‬بالضياعِ

عندما‭ ‬أطالعُ‭ ‬البحر

ولا‭ ‬أراكِ

‮ ‬وأحسُّ‭ ‬بالخواء

عندما‭ ‬أرى‭ ‬الأشجار‭ ‬هلعةً

تقرؤها‭ ‬الريح‭ ‬بخبث

ويخطفها‭ ‬الإعصار‭.‬

***

مررتُ‭ ‬على‭ ‬الجبال

فكتبتها‭ ‬في‭ ‬مذكراتي

وألقيتُ‭ ‬على‭ ‬الشطآن

فأحببتها

وذابت‭ ‬في‭ ‬عينَيَّ

السفنُ‭ ‬والمرافئ‭.‬

***

وفي‭ ‬رواية‭ ‬أخرى

وجدتُ‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬الثلج

ولأن‭ ‬النخل‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الفرنجة

نادر

جعلت‭ ‬النخلةَ‭ ‬تاجي

وبغداد‭ ‬موطني

وكانت‭ ‬زوجة‭ ‬السلطان

تخونه‭ ‬مع‭ ‬عازفي‭ ‬الموسيقى

وعابري‭ ‬الطريق‭.‬

***

أنا‭ ‬متعبٌ‭ ‬وبردان

ولا‭ ‬أصلح‭ ‬للقتال‭ ‬مع‭ ‬العملاق

أو‭ ‬أن‭ ‬أعلو‭ ‬صهوة‭ ‬الرخِّ‭ ‬الأسطوري

أنا‮…‬‭.‬

متعبٌ‭ ‬وبردان‭..‬

الأعمال‭ ‬الأكثر‭ ‬نفعاً

***

على‭ ‬الشعراءِ‭ ‬أن‭ ‬يكفّوا

ويجلسوا‭ ‬مكتوفي‭ ‬الأيدي

على‭ ‬الشعراء‭ ‬أن‭ ‬يرسلوا‭ ‬لي

كلَّ‭ ‬ما‭ ‬لديهم‭ ‬من‭ ‬أقلامٍ‭ ‬وأوراقٍ‭ ‬ومحابر

ويبطلوا‭ ‬كتابةَ‭ ‬الشعر

على‭ ‬الشعراء‭ ‬أن‭ ‬يناموا‭.‬

‭-‬

على‭ ‬الشعراءِ‭ ‬أن‭ ‬يلتفتوا

للأعمالِ‭ ‬الأكثرِ‭ ‬نفعاَ

ليصيرَ‭ ‬لي‭ ‬وحدي

كلُّ‭ ‬الأقلامِ‭ ‬والأوراقِ‭ ‬والمحابر

فأكتبُ‭ ‬لكِ‭ ‬وحدكِ

كلَّ‭ ‬أشعارِ‭ ‬الحبِّ

والقصائدِ‭ ‬الغزلية‭..‬

ما‭ ‬بينَ‭ ‬الشمسِ‭ ‬والقمر

ما‭ ‬بيني‭ ‬وبينكِ

وما‭ ‬بينكِ‭ ‬وبيني

هو‭ ‬ما‭ ‬بينَ‭ ‬الشمسِ‭ ‬والقمر

وما‭ ‬بين‭ ‬القمرِ‭ ‬والشمس

أقفُ‭ ‬في‭ ‬أولِ‭ ‬الطريق

أو‭ ‬في‭ ‬آخرِ‭ ‬الطريق

ودائماً‭ ‬في‭ ‬منتصفِ‭ ‬الطريقِ

أنتِ‭..‬

نسيتُ‭ ‬أن‭ ‬أنسى

نسيتُ‭ ‬أن‭ ‬أتذكرَ

أنا‭ ‬جدارٌ

أبكي‭ ‬بلا‭ ‬دموع

وأضحكُ‭ ‬بلا‭ ‬أسنان

ومن‭ ‬الذي

يحبُّ‭ ‬أن‭ ‬يبكي

وأن‭ ‬يندم

نسيتُ‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭..‬

بسهولةٍ‭ ‬أقعُ‭ ‬في‭ ‬الحب‮ ‬

بسهولةٍ‭ ‬أقعُ‭ ‬في‭ ‬الحب

لأني‭ ‬بسهولةٍ‭ ‬أنزلق

***

صعب

والوقوف‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬صعب

وفي‭ ‬الحالة‭ ‬الرئيسية‭ ‬الثالثة

لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقف

لكني‭ ‬أنسى

في‭ ‬منتصف‭ ‬الأمر‭.‬

***

تأكد‭ ‬لي

وهذا‭ ‬وحده‭ ‬يكفي‭ ‬لقصيدة

أنه‭ ‬منذ‭ ‬سنتين‭ ‬أو‭ ‬أكثر

أو‭ ‬فقط

أو‭ ‬أقل

أحببت‭ ‬في‭ ‬مساء‭ ‬واحد

خمس‭ ‬نساء

الأولى‭: ‬تزوجها‭ ‬صديقي‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬اللائق‭ ‬ذكر‭ ‬الاسم

الثانية‭: ‬نسيتها

الثالثة‭: ‬روزا‭ ‬الحمراء

الرابعة‭: ‬بريجيت‭ ‬باردو

الخامسة‭:‬‮…‬

الكل‭ ‬الكل‭ ‬يعرفها‭.‬

تاج‭ ‬أحاسيسي‭ ‬وثوب‭ ‬كلماتي

‭(‬إلى‭ ‬محمد‭ ‬سيدة‭ ‬عاشقاً‭ ‬قبل‭ ‬وبعد‭ ‬كل‭ ‬شيء‭)‬

هذا‭ ‬المساء‭ ‬أحسست،‭ ‬أنني‭ ‬سيف‭ ‬متعبٌ،‭ ‬وأنك‭ ‬غمد‭.‬

هذا‭ ‬المساء‭ ‬أحسست،‭ ‬أنني‭ ‬جسد‭ ‬مدحور،‭ ‬وأنت‭ ‬الحبيبة‭ ‬والزوجة‭ ‬والبيت‭ ‬والفراش،‭ ‬وماء‭ ‬الوجه‭.‬

هذا‭ ‬المساء‭ ‬أحسست،‭ ‬أنك‭ ‬الحرف‭ ‬الذي‭ ‬يؤلفني،‭ ‬والاسم‭ ‬الذي‭ ‬أنادى‭ ‬به،‭ ‬والكلمة‭ ‬التي‭ ‬تدلُّ‭ ‬عليّ‭.‬

***

كنت‭ ‬دائماً‭ ‬أخفي‭ ‬أمام‭ ‬الناس،‭ ‬وهن‭ ‬ساعدي،‭ ‬ونعومة‭ ‬راحتي‭. ‬هذا‭ ‬المساء‭ ‬خفت‭ ‬من‭ ‬وهن‭ ‬ساعدي،‭ ‬ونعومةِ‭ ‬راحتي‭ ‬على‭ ‬خصركِ‭ ‬الرقيق،‭ ‬وهائل‭ ‬الدقة،‭ ‬وشعرت‭ ‬أن‭ ‬أصابعي‭ ‬صارت‭ ‬من‭ ‬الخشب‭ ‬اليابس،‭ ‬ولن‭ ‬تعرفي،‭ ‬لأنك‭ ‬قليلة‭ ‬الخبرة،‭ ‬كم‭ ‬ملأتني‭ ‬الدهشة،‭ ‬وكيف‭ ‬ساقني‭ ‬الارتباك،‭ ‬حين‭ ‬ذابت‭ ‬أصابعي،‭ ‬كالشمع،‭ ‬عندما‭ ‬لمست‭ ‬أطرافك‭ ‬الدافئة‭.‬

***

هل‭ ‬تجبينني‭ ‬عن‭ ‬قرب،‭ ‬أم‭ ‬عن‭ ‬بعد‭. ‬وهل‭ ‬تحبينني‭ ‬شاعراً،‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬صخر‭.‬

***

تلفتي‭ ‬تلفتي،‭ ‬كما‭ ‬يحلو‭ ‬لك‭ ‬ويليق‭. ‬فلن‭ ‬تتوجي‭ ‬بتاج‭ ‬أثمن‭ ‬من‭ ‬إحساسي،‭ ‬ولن‭ ‬تزفي‭ ‬بثوب،‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬كلماتي‭..‬

‭(‬انتهى‭ ‬الدفتر‭)‬

‭ ‬

الخاتمة

لا‭ ‬ريب‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬هلال‭ ‬الحاج‭ ‬بدر‭. ‬بشر‭ ‬ولدوا‭ ‬وعاشوا‭ ‬وماتوا‭ ‬ولم‭ ‬يتركوا‭ ‬أيّ‭ ‬أثر‭ ‬على‭ ‬مرورهم،‭ ‬سوى‭ ‬ذكريات‭ ‬عابرة‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬من‭ ‬عرفوهم‭ ‬والتقوا‭ ‬بهم،‭ ‬ستمّحي‭ ‬بغياب‭ ‬هؤلاء،‭ ‬لكن‭ ‬هلال‭ ‬ترك‭ ‬معي‭ ‬هذا‭ ‬الدفتر‭. ‬الذي‭ ‬شعرت‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬واجبي‭ ‬تجاهه،‭ ‬وتجاه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬شابهه‭ ‬من‭ ‬بشر‭ ‬رائعين،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن،‭ ‬لو‭ ‬ساعدتهم‭ ‬الظروف،‭ ‬أن‭ ‬يقدموا‭ ‬لنا‭ ‬الكثير‭ ‬والكثير‭ ‬مما‭ ‬نفتقده‭ ‬ونحتاجه‭. ‬ولصاروا‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الناس‭ ‬المعروفين‭ ‬والمشهورين‭ ‬الذين‭ ‬تتردد‭ ‬أسماؤهم‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شفة‭ ‬ولسان،‭ ‬وتفتخر‭ ‬بهم‭ ‬أممهم،‭ ‬وربما‭ ‬العالم‭ ‬أجمع‭. ‬ولكني‭ ‬شخصياً‭ ‬أحسب‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬أوفيت‭ ‬بهذا،‭ ‬ديني‭ ‬لهلال،‭ ‬وإن‭ ‬ليس‭ ‬كاملاً‭ ‬لأنه‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬بورخيس‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬بأيّ‭ ‬صفقة‭ ‬مع‭ ‬هيديس،‭ ‬إله‭ ‬العالم‭ ‬السفلي،‭ ‬استعادة‭ ‬حياة‭ ‬شخص‭ ‬مات‮»‬‭.‬

هلال‭ ‬الحاج‭ ‬بدر‭.. ‬أين‭ ‬أنت؟

‭ ‬

اللاذقية 15-02-2015

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.