هل ما زال المسرح العربي يبحث عن هويته
محاوله لقراءة مغامرة البحث عن النص الجديد في المسرح العربي، وفي رحلة تقصّي الأحوال الراهنة للظواهر والأجناس الأدبية في الثقافة العربية نبدأ بالتوقف عند السبعة عشر نصا مسرحيا التي يضمها العدد (17) من مجله «الجديد” يونيه 2016 وهي بالترتيب «قبل أن يأتي الربيع» لأحمد إسماعيل إسماعيل -السوري المقيم في ألمانيا- بطلاها شخصيتان زوج وزوجة، وحالة الرعب التي تصيب الزوج ظنا منأ انه يهاجم النظام الفاسد الذي يحكم البلاد في مجرد أحلامه! وتقوم الزوجة بأكثر من دور في النص فهي الزوجة الثرثارة ، وهي التي تضخم الدور أو (تدّعي) الذي قام به زوجها أمام المحقق في جهاز أمن الدولة الذي يطارد المعارضين تباهيا أمام الأصدقاء والجيران، وهي التي تقوم بمحاكمة زوجها وكأنها عضو في الجهاز المحقق، وهي أيضا التي تعترف بأنها هي التي تعمل في هذا الجهاز، وإنها وشت به لديهم عندما كان يحلم -كي تعيش حياه الرفاهية- بينما الزوج كان غافلا عن كل ما يدور حوله، وعندها لا يتوانى عن قتلها خنقا، ويبقي منتظرا رجال الجهاز القمعي دون جدوي كي يقبضوا عليه ، وتمر الساعات ولا يحضرون، فهم يعرفون كل ما يحدث. وهو نص مسرحي محكم الصنع وظف فيه الكاتب اللعب بالشخصية الرئيسية (الزوجة) لتلعب أكثر من دور، وبلمسة ملهاوية ساخرة، إلا أن النهاية لم يتم التمهيد لها لتبرّر إقدام الزّوج الجبان والسلبي على فعلته الجريئة فجأة! وعلى قتل الزوجة التي تدبر كل شيء، وقد صيغ النص في لغة إخبارية واضحة وبها أصداء التأثر بالكتابة المسرحية الغربية في ستينات القرن العشرين كما في أعمال فردريش دورينمات وغيره، وكذا لم يختلف الموضوع الذي يتناوله كثيرا عن تلك الموضوعات في الكتابة المسرحية الغربية. وفي نص «ذئب البوادي” النسخة السورية لحازم كمال الدين من سوريا والمقيم في بلجيكا، يقدم الكاتب شكلا عربيا تجريبيا صميما شكلا ومضمونا، ومستلهما أقاصيص العرب في «ألف ليله وليلة، وقيروشاه، والهلالية ” وغيرها من الملاحم، والتي تتناول علاقات البشر بعالم الجان، يربط بينهما خيال مشتط عن علاقه الأسياد والعبيد، واستبداد السلطة التي تجند حتي عالم الجان لأهداف التسلط ، وقد اختط الكاتب بناء مختلفا في تنميه الأحداث وتطورها عن تلك البنيات المسرحية الغربية التقليدية، واقترب من صيغ السرد والتعبير في التراث العربي، فالنص يسعي إلى نوع من التأصيل والتحذير لهويتنا المسرحيه.
في نص «صمت النوافير” -مقطع من نص مسرحي- للحسن المؤذن من تونسي، وهو شذرة قصيرة جدا من نص صيغ صياغة شاعريه صوفيه تحمل رؤى مطلقة.
أما مسرحية «أناشيد الربيع والخريف” فهي مسرحية مونودرامية كما يطلق عليها مؤلفها الحسن بنمونة من المغرب ، وهي مليئة بالثرثرة والكلمات المكرورة التي لا تثير الدهشة أو تحرك الركود، فتطور الحدث اصطناعي ولا دلاله له . فالحدث إذا كان ثمة حدث ليس سوي نفاق الزعيم ونفاق السيدات مُسقطا به أحوال سياسية.
وعن مسرحية «حاله حصار” فهي مشهد من مسرحية لحمادي المزي من تونس، يتناول نهاية مثقف مناضل تطارده كل قوى الاستعمار والقمع الخارجي والداخلي، وبنهاية رومانسية رقيقة.
وفي مسرحية «أكاذيب صغيرة” -مسرحية من فصل واحد لدرويش الأسيوطي من مصر والتي يسخر فيها الكاتب من الانفتاح الاقتصادي مجسدا في شخص أحد العلماء، وإلى جواره الشيخ المتدين فيحولان الجميع إلى عالم من الدمي باسم المدنية، وتبدأ أحداثها من الواقع ثم يحولها إلى فانتازيا تثير السخرية من تلك النمطية والتشابهات.
وفي مسرحية «الإضاءة الأولي” -السيرة والذات- في لوحتين لزبير بن بوشتة من المغرب، وفيها تجريب متميز حول فكرة الموت والحياة. مكونة من لوحتين، اللوحة الأولي تجد شخصية الروائي المغربي المتمرد محمد شكري صاحب «الخبز الحافي” وغيرها من الروايات عند رحيله إلى المقبرة التي تبرز فيها مريودة حارسة القبور، وكذا شخصيه اليوناني القديم أنطيوس وحبيبته طنجيس. في اللوحة الثانية بعنوان «الإضاءة الثالثة” أي الوردة وأريجها وتدور حول اليوناني أنطيوس المحبوس في مغارة كي يكتشف -لهرقل- كيف يتحكم في الكون، وعلى مقربة منه حبيبته التي يكتشف من خلالها الكون.
وفي مسرحيه ” دوله السيد وحيد الاذن ” (مسرحية صامتة) تأليف صباح الاأباري من العراق، وهي سيناريو -في تصوري- لفيلم صامت يعتمد علي السرد والحكي، وليس في الدراما. إذ أن غرائبية الحدوتة تقترب بها من عالم الأطفال والتخييلات الطفولية التي قد تتوفر في أفلام (التحريك) الكارتون أو العرائس.
ويعالج نص «كونتينر” لعباس الحايك من السعودية نفس قضايا القهر وقمع السلطة للمواطن وعذابات الإنسان البسيط في ظل سلطه متوحشة، وبالنص لمسات ميلودرامية تتكرر، وأحداث تتحرك ببطء كيفما اتفق، ومشاهد معادة.
أما نص «صاحب الأثر” لعقيل مهدي يوسف من العراق فيتكون من خمسة وعشرين مشهدا، وهو ديودراما من شخصيتين، بين هو وهي، وتكشف المسرحية من خلال المرأة (هي) التي تزوجت (هو) ثم غدر بها وبأمها.. يدور بينهما حوار شيق يسرد أحداثا لم يتم تجسيدها معتمدا على السرد ثم السرد، وعلى النقلات السريعة (25 مشهدا في نص قصير) .. مبرزا فيه حياه الطاغية الذي يبرر طغيانه بناء على تفاهات يدّعيها ثم نهايته ..
وعن النص الأجنبي «النصب التذكاري لكولين واغنر يقدم عواد علي من العراق نصه «أصوات الغابة”، وهي عبارة عن محاكمه وممارسه التعذيب تقوم به المرأة (كريمة) (لزعور) الجندي القاتل والسفاح الذي قتل ابنتها ونسوة أخريات، إلي أن تجبره المرأة بإذلاله حتى يستطيع العثور علي جثه ابنتها. فتزهد في التنكيل به، ويفترقان، وكأن الحساب بينهما قد تمت تصفيته لكي تظل الأحداث السياسية والحروب تهيمن على الأحوال.
وفي نص «كوكب الذكورة ” لمختار شحاتة من مصر، هو نص في خمس لوحات ولوحه أخيرة، والذي جاءت لوحاته ساخرة حول أساليب الدولة في علاج «فيروس سي” (التهاب الكبد الوبائي)، والذي يفتك بالآلاف من الضحايا، بينما لا تدري الجهات المختصة والمسؤولة شيئا عن هذا العلاج الجديد، رغم تصريحات الوزير المسئول، ويتحول البحث عن علاج إلى مجرد مشاوير طويلة منهكة للمرضي دون الحصول علي أيّ علاج أمام لامبالاة الأطباء والموظفين، حتي ظن المرضي أن هذا العلاج مجرد وهم. ويطرح الكاتب موضوعه ساخرا من الدعاية والإعلام الذين يهتفان في كل وقت بحب مصر، وتحيا مصر، وغيرها من الأغاني والشعارات، والتي يمكن أن يوظفها الكباريه السياسي والكاريكاتير وهو ما يستلزم (المباشرة) والخطابية، والخفة في التناول.
وفي مونودراما «عندما توقف الزمن في القبو” لمصطفي تاج الدين الموسى من سوريا والمقيم في تركيا ، يقدم الكاتب نصه في خمسة مشاهد متتالية تحددها الإضاءات والإضاءات المتعاقبة، حيث يدور الحدث في قبو يختفي فيه هارب من الحرب التي تدور رحاها فوق القبو. تلك الحرب التي دمرت أسرته (أخاه وأمه) لكنه يتشبث بالحياة، ولا يؤنسه في قبوه سوي قط حبسه في قفص حديدي، إلى أن ينتهي به الأمر إلى قتل هذا القط الكائن الحي الوحيد في القبو، فيبقي الجندي وحيدا بين صورة أو لوحة معلقة على الحائط وتمثال لأمرأة شوهاء.
في نص «جريمة قتل في شارع المطاعم” المتكون من فصلين لوجدي الأهدل من اليمن، يعتمد على الحوار الذكي ككثير من النصوص الأخرى تأثرا في تصوري بالحوارات الذكية لتوفيق الحكيم
وفي نص «تغريبة ابن سيرين” الذي كتبه مفلح العدوان من الأردن كمونودراما يبدو فيه ذكاء الكاتب في اختباره لشخصية ابن سيرين صاحب الكتاب التراثي «تفسير الأحلام”، إذ يعيد اكتشاف محنه ابن سيرين الرجل الذي فسر أحلام ومنامات كل الناس ما عداه! ويكتشف ابن سيرين أنه لم يجد أحدا يفسر له حلمه. لكن تظل المونودراما وكأنها لم تكتمل، واكتفى بعرض الموضوع الذي بدأ فيه ذكاء الاختيار. أما في مونودراما «فكرة” لناهض الرمضاني من العراق، فتحولت إلى مجرد فكرة ذهنية أقرب إلى المسرح الذهني حول ميلاد الفكرة والأفكار عموما، وقد أسرف الكاتب في تداعياته الذهنية واختتمها بشكل درامي جيد.
وفي نص «جريمة قتل في شارع المطاعم” المتكون من فصلين لوجدي الأهدل من اليمن، يعتمد على الحوار الذكي ككثير من النصوص الأخرى تأثرا في تصوري بالحوارات الذكية لتوفيق الحكيم. نجد فيه شخصيه محوريه عبثية وشخصيات أخرى أكثر منه عبثية مثل «محمد مدير البنك” وهو مجرد صوت مؤذٍ للأذن، وتصرفات الجميع يحكمها منطق العبث، ويتجسد في النص الصراع الشرس الدامي بين قوى الامتلاك والاستيلاء والسطو وحب السيطرة والمقاومة الضعيفة للإنسان الطيب الذي يريد أن يعيش في سلام لتنتصر عليه في النهاية قوى الشر فيتحول إلي إرهابي قاتل..
وأخيرا نجد مونودراما «نوستالجيا” لصالح زمانان من السعودية، وهو رصد لإنسان عربي ممثل من الممثلين يتحكم فيه المخرج عندما يربطه بحبل، هذا الإنسان المنسحق تشتعل فيه نار الأخذ بالثأر، من ذلك الذي تسبب في إصابته بالعرج عندما كان يجري وراء السيارة التي حملت أمه في رحلة الموت الأخيرة فتعثرت قدمه وأصيب بالعرج. وليكتشف في النهاية أن من يطالبه بالثأر هو نوع من المسخ أي لوح ذو مسامير أصابه بكسر وجرح فأصيب بالعرج. أتصور أن المؤلف لم يستطيع أن يجسد فكرته كما يقول عنها «رجل عربي، ضالع في متاهات الزمان والمكان العربي، ومتورط وممسوس بفكرة الوجود والعدم، يحمل مرض النوستالجيا الذي يجعله في حاله حنين دائمة وعميقة لماضيه البعيد، الواقعي حيناً والافتراضي أو الخيالي في حين آخر”، ولا أريد أن أذكّره بمقوله الجاحظ «الأفكار ملقاة علي قارعة الطريق” لأنه لم يستطع أن يقدم فكرته التي أشار إليها في متنه.
تلك هي النصوص السبعة عشر التي تنوعت ما بين مسرح الفصل الواحد ذي اللوحات المتعددة ، والمونودراما التي تتدخل فيها عناصر السرد والشعر والوثيقة والتشكيل عبر المونولوجات غير الدرامية للشخصية، إذ يفتقد أغلبها إلى الحسّ الدرامي القوي، ولا تتوفر فيها عناصر مسرحية الشخصية الواحدة أي دراما الممثل الواحد، وهي المسرحية المتكاملة في ذاتها والتي تتطلب ممثلا واحدا أو ممثلة كي يؤديها كلها فوق الخشبة أمام المتفرجين ، وأرى أن المونودراما الحقيقية هي تلك التي تتم فيها معايشة الموقف الحيّ والآني في الحاضر ومواجهته في التو واللحظة، وهذا هو الذي يضفي على المونودراما القوه والفاعلية ويساهم في تطوير الحدث وإبراز ملامح الشخصية، وأشير إلى المسرحية المأخوذة من المسرح الأوروبي الحديث مثل نص «أصوات الغابة” فقد اختار له مؤلفه عواد على مصطلح «تكييف” عن «النصب التذكاري” لكولين واغنر، وهو مصطلح يختلف عن المصطلحات القديمة مثل تعريب واقتباس وإعداد، وهي العمليات التي تشمل الحذف والإضافة والتحويل إلى بيئة محلية وهو ما وفق فيه بشكل متميز عواد علي في نصه المكيّف.
وتتعدّد الأشكال الدرامية في هذه المجموعة مثل الأشكال الدرامية الأوربية الحديثة ومن بينها مسرح اللامعقول أو العبث، استلهمتها نصوص مثل «قبل أن يأتي الربيع»، «حالة حصار”، «كونتينر”، «صاحب الأثر” ، «عندما توقف الزمن في القبو”، «جريمة قتل في شارع المطاعم”، وأشكال أخري تنحو نحو التجريب في الحداثة مثل نصوص «نوستالجيا”، «فكرة”، «عندما توقف الزمن في القبو”، «حالة حصار”، «أناشيد الربيع والخريف”، وهم في نصوصهم سعوا بحثا عن الحداثة وهم بذلك يستكملون تجارب مسرحية كانت أكثر نضجا قام بها بعض المسرحيين العرب في العالم العربي منذ الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين بدت في تجارب توفيق الجبالي وعز الدين قنون في تونس، وعبدالله السعدواي في مجموعته الأخيرة «روح جرينمو ومسرحيات أخرى” في البحرين والتي تتحرر من قواعد الكتابة الدرامية التقليدية، وتحول المسرح أحيانا إلي دلالات إيحائية وإشارة وأيقونية دون التزام بالإشكال التقليدية والمسرحية جيدة الصنع.. لكن أغلب كتابنا في هذا العدد يتمركزون تقريبا حول قضايا القاهر والمقهور والسيد والعبد وتقزم الفرد أمام سلطة غاشمة.. سواء كانت عسكرية أو استعمارية أو في السقوط في «العبودية المختارة” التي اختارتها عن رضوخ أو رضا، وكذا تعكس كثير من النصوص ما تضج به منطقتنا من حروب وتشرذم وانشقاق وطائفيه وداعشية تنشر الإرهاب، وهجرات جماعية والآلاف من القتلى..
لوحة: وليد نظامي
أما نص «أكاذيب صغيرة” لدرويش الأسيوطي ونص «كوكب الذكورة” لمختار سعد شحاته فيعكسان واقعا مصريا غارقا في الفساد واللامبالاة، لكنهما اكتفيا بالسخرية من الواقع المعش واليومي، وإن خلطا بين هذا الواقع المعيش وتناقضاته مع واقع الصور والإعلانات في «كوكب الذكورة”، كما أن اللجوء في النصين إلى اللهجة العامية اليومية كان لإثارة مرارة السخرية.
وفي مغامرة البحث عن النص الجديدة تثرى الحركة المسرحية العربية برؤي وأفكار ولغات فنيه تعكس التموجات الكبرى للمجتمعات العربية والتحولات الجارية والتي كان بعضها عنيفا عنفا مذهلا، ويشكل بالتالي تحديا للنصوص والمخيلات معا. وهي في نفس الوقت تنتمي بوقائعه إلى أرض التراجيديا الإنسانية، وذلك بعد أن عرفنا المسرح بشكله الغربي منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، وبالتالي فمع دخولنا في حركه المسرح في العالم لم يعد بالإمكان حلّ مشكلات المسرح العربي على حدة لأن الحركة المسرحية العربية أصبحت مرتبطة بالحركة المسرحية في العالم.. حيث يتم التبادل والعطاء والأخذ حتي ولو كان من جانبنا فقط. فيصبح المحك الأساسي بالنسبة إلينا هو البحث عن الأعمال التي تستطيع أن تضعنا أمام الواقع الذي نعيشه، وتضعنا أمام أفعالنا، وأن نستخدم الوسائل التي تكون وظيفتها أن تضع في الزمان والمكان وفي التفكير مسافة كافيه تتيح لنا القدرة علي تناول ما يهمنا. فنصبح أسيادا له وهذا يتطلب حرية بلا حدود، ويتطلب تزاوجا بين الأدب المسرحي رغم صعوبة وتعقيدات التوازنات التي يقتضيها مشروع المزاوجة.. بمعني أن يكون لدينا الوقت الكافي لأن نتوقف من أجل أن نعود إلى ذواتنا ومتأملين أنفسنا في مرآة نقدية.
ونحن في مغامرة البحث عن نص مسرحي عربي جديد في العدد السابع عشر الذي تضمنته مجلة «الجديد” وفي رحله تقصّي الأحوال الراهنة لظاهره المسرح العربي نجد أنفسنا أمام أربعه نصوص جادة من العراق والمغرب وتونس والأردن. إذ أنها تقترب حداثياً من العورة وعالم الصور العربية الخاصة والتركيز على الذات، وأنها من ناحية أنطولوجيا أو علم وجود المسرح تنتمي جميعها لثقافة بعينها هي العربية بكل ما تحويه من ماض وحاضر، ومن أعماق وظلال ورؤى وملامح، نبحث عن واقعنا الذي علينا اكتشافه بمطلق الحرية بعيدا عن جمود الرؤية واللامبالاة بما يجري في العالم من تغيرات.
أول هذه النصوص «ذئب البوادي” للعراقي حازم كمال الدين الذي يخلق بطلا يجمع بين العصور الغابرة والمعاصرة في تراتب لا منطقي بين الصور الغابرة والمعاصرة، وفي حوار نشط وسريع وسرد مليء بالصور المثير للخيال يلتقي ذئب البوادي بالمرأة (ابنه شيخ الجان) في الحقيقة وهي العائدة إلى مدينه تدمر، وسرعان ما تختفي فجأة فيسعي البطل لكي يسرق خاتمها الذهبي -الخاتم الدمشقي- كي يتمكن من الهرب تحت الأرض، لكنها تعود وتواقعه وتخفيه في جرة ويفشل مرة أخرى في الحصول على الخاتم، ويهرب ثانيه ليأتيه الراعي الذي يحمل له أوامر تنفيذ مهمة كلفته بها إدارة المخابرات العامة وهي أن يستنبت الصقور في بادية الشام، ويحاول ويفشل، لكن المرأة الجنية تنجب له صقرا بعد مواقعتهما، ويهرب إلى الأحراش فتطارده التعاليم الجديدة من السلطة الأمنية بأن ينفذ سرا خلق الرمال لكي تزحف على المدن، وأصبح واجبا عليه أن يخفي الأسرار التي يحملها في مخابئ أخرى، ويأتيه الراعي مرة أخرى فيقتله.. فتكشف له المرأة الجنية أن الراعي كان يأتيه على هيئتها الإنسية في النهار لذا فهو قد قتلها، وتهرب بعد أن يسقط من إصبعها الخاتم الدمشقي فيهرع لالتقاطه لكنه يتدحرج بعيدا عنه.. إذ يمتزج في هذا النص عوالم البشر والجان، والماضي والحاضر، والواقع الافتراضي الممسوس الذي يعيشه ذئب البوادي أي شيخ الجان الذي يقف عند قلب الأرض وجها لوجه هو وصورتاه الجنية والبشرية وجيوشه من جهة، والخاتم وقلب الأرض من جهة ثانية.. فنحن أمام صياغة ونسيج عربي حداثي مستوحى من عالم الغيبيات والسحر الشرقي.. يقابله الوعي بما يدور حوله .
وثاني النصوص نجد مقطعا قصيرا من النص المسرحي «صمت النوافذ” لحسن المؤذن من تونس، وهي تجرة يبدو فيها زخم الصورة الدرامية وجماليات اللغة، ويبدو المقطع تجربة كاشفة لواقع حي يتبدى في حوار الشيخ والجوق، تتكشف فيه صوره عالمنا العربي المختل باحثا عن عشبة مسكرة تجعله لا يرى إلا «المسالك جمرا والمدى مقبرة!”.
وثالث النصوص هو «الإضاءة الأولى-السيرة والذات” لزيبر بن بوشتة من المغرب. وهو نص مكون من لوحتين يربط بينهما حاضر وماض. اللوحة الأولى تدور في مكان مهجور يشبه خلاء أو مقبرة بلا أيّ انتماء ديني حيث تستقبل حارسة المقابر مريودة جثه الروائي المغربي محمد شكري صاحب رواية «الخبز الحافي” وغيرها من الروايات والذي استهان بمحرمات السياسة والجنس والدين فتعيد مريودة اكتشاف شخصيه المبدع الرجل الذي تحول إلى تمثال بملابسه الكاملة من خلال التقليب في جيوب معطفه، وتقترب منه أكثر وأكثر وتتأمله إلى أن يتبادل معها الحديث.. وكأنه قد بعث حيا يجلس إلى المقهى ويتأبط صندوق ماسح الأحذية، تلك المهنة التي كان يمتهنها في طفولته، وتنتهي اللوحة بلقطه ساكنة وساحرة توحي بخلود المبدع بينما تورد اللوحة الثانية أو كما يقرر الكاتب «الإضاءة الثالثة.. وردة أرناها أريجها”، وتدور أحداثها في مغارة على شاطئ بحر متلاطم الأمواج حيث يحدّث أنطيوس نفسه في مونولوج طويل حيث أن أمه الأرض وأباه نبتون إله البحر، وقد حكم الإله هرقل على أنطيوس أن يكتشف له كيف يحكم العالم ويتحكم في الكون.. فتظهر له في يأسه حبيبته طنجيس فيتعانقان عناق روح واحدة أو كأنهما روحان في جسد واحد، وتتردد قصيده أبو منصور الحلاج «أنا من أهوى ومن أهوى أنا”، وكأن طنجيس قد أنقذ نفسه من عبودية هرقل بالفناء في الحب.. وهي رؤية تتبدى فيها كونيه الرؤى ذات أصول إنسانيه شرقا وغربا، استطاع الكاتب أن يقدم لوحتين دالتين قد لا ترتبطان في الظاهر لكنهما ترتبطان في الأعماق .
ورابع النصوص هو «تغريبة ابن سيرين” مونودراما لمفلح العدوان من الأردن، وهي نموذج جيد للمونودراما.. تتوفر فيها عناصر النص الحي الذي ينبض بالتحول والتغير، وبدت في ذكاء اختياره لشخصيه ابن سيرين صاحب الكتاب التراثي «تفسير الأحلام” الذي نهض حيا أمامنا ليعيد حساباته مع ماضيه. إذ أن محنة الرجل أنه فسر أحلام كل الناس، وفجأة لم يجد أحدا ليفسر له حلمه الذي عاش به طوال حياته، مصدّرا لنا حيرته وأزمته التي ألقاها إلينا لكي نشاركه البحث عن حل لها. فالنص يبحث عن التفاعل مع المتلقي، ويستحثه على بذل مزيد من الجهد في المشاركة والبحث عن العلامات الدالة وشبكه العلاقات التي تتخلل نسيج النص.
أتصور أننا في معترك الأسئلة والإشكاليات حول: هل صار لدينا مسرح عربي؟ وهل تمكنت الكتابة المسرحية العربية من التأسيس لمسرح عربي يمكن أن يضاهي بجمالياته وخصوصياته التجارب المسرحية في العالم، وهل يمكن الحديث عن نص مسرحي عربي معاصر يمكن أن يعالج ويعرض في العالم، وهل يسمح لنا هذا العدد من النصوص أولا وأخيرا بأن نعترف في النصوص المنشورة في هذا العدد السابع عشر من مجلة «الجديد” التي حاولنا قراءتها في ضوء أنها أمثلة وليست ظاهرة بل مجرد أمثله قد تشير إلى ظواهر في المسرح العربي وتنفتح على تجارب جديدة تثري الحركة المسرحية العربية برؤى وأفكار ولغات فنية تعكس التموجات الكبرى للمجتمعات الكبرى والتحولات الجارية، وبعضها عنيف عنفا مذهلا، ويشكل بالتالي تحديا للنصوص والمخيلات معا، وهو ينتمي بوقائعه إلى أرض التراجيديا الإنسانية؟
وفي تصوري أن الأسئلة والإشكاليات هذه مازالت تطرح في الساحة المسرحية والثقافية حتى الآن ، وستظل تطرح دائما لأن هويتنا المسرحية لن تكون فقط مجرد عودة إلى ماض نتصوره مثاليا، أو نوغل فيه بحثا عن جذورنا المفقودة فقط، وإنما تكون توكيدا ملحّا وجارفا لقيم أفكار شخصياتها من التبعية والشعور بالدونية، وتؤكد الاستقلال الموضوعي الذي يكون بالضرورة حيويا ومتحركا ومتعدد الأوجه، ويتطلب هذا التوكيد للذات تحررا ثوريا، وصنع مجتمع أكثر عدلا متحررا من الاستعمار الثقافي والتبعية المسرحية، والمطلوب الآن تمثيل واع وناقد لخطابنا الثقافي المسرحي، ولهذا أتصور أن الدعوات المتأنية برفض المؤثرات الخارجية تمثل قصورا زائفا لدى النقاد والمسرحيين والذي تمتد جذوره إلى الاتجاه المتزمت والمحافظ، وترجع أيضا إلى الخوف وعدم الثقة، فيكون رد الفعل هو محاولة الاختلاف والمعايرة السطحية.. إذ أننا في الحقيقة لا نستطيع أن تستغني عن الأفكار والمؤثرات الإبداعية التي تأتينا من الخارج.. فمشكلات المسرح العربي لا يمكن حلها على حدة وكأننا في جزيرة منعزلة.. فنحن نرى في العالم الخارجي -والعالم الغربي على وجه الخصوص- مسرحا حقق إنجازات مسرحية واضحة عبر خمسة وعشرين قرنا من التطورات. لهذا فهو خير دليل على صحة معيار الأخذ والعطاء إذ وجدنا الكثير من هؤلاء الغربيين وغير الغربيين يتجه إلى المسرح الآسيوي، على سبيل المثال، وغيره من الأشكال المسرحية، والمواد المسرحية الخام في أفريقيا وأميركا الجنوبية حيث يتم التبادل والأخذ والعطاء والازدهار وتنوع المدارس والأشكال.