هل التشاؤم مهنة الفيلسوف؟
وهي تحدق في صورة أرتور شوبنهاور الشهيرة التي يظهر فيها الفيلسوف بذلك الوجه المكفهر العبوس، قالت ابنتي: هل ينبغي أن يكون المفكر متشائما ليكون فيلسوفا؟ وبالمناسبة، أضافت المراهقة ضاحكة شبه مرتابة، وهل يوجد فلاسفة متفائلون أصلا؟
ولئن كان السؤال طريفا لأول وهلة، فهو سؤال في العمق إذ بوسعنا أن نروي على ضوئه وانطلاقا من محاولة الإجابة عنه تاريخ الفلسفة برمته. لنذكر من المتفائلين الكثيرين أكثرهم شهرة: الألماني كارل ماركس والفرنسي أوغست كونت واللذان تولى التاريخ دحض تفاؤلهما ولو أن التاريخ لا يزال طويلا ولم ينته بعد كما اعتقد فيلسوف متفائل آخر معاصر، الأميركي، ياباني الأصل فرنسيس فوكوياما.
لقد طور كارل ماركس وأوغست كونت خلال القرن التاسع عشر رؤيتين متفائلتين كبيرتين مفادهما أن التاريخ والعلم سيخلصان ويحرران الإنسان من وضعه المأساوي وشقائه بعد مدة قد لا تكون طويلة. ولكن جاء القرن العشرين لينسف على الأقل التجارب التي بنيت على قراءة معينة في فهم الفيلسوفين الكبيرين وخيبت آمال العلمويين والحالمين بغد عادل خال من الطبقات ومن التراكم الخرافي.
في مقابل الفشل الذريع للتجربة الشيوعية كما انتهجها الروس ومن أجبروا على محاكاتهم وأمل العلموية الذي ضاع بين التصورات العلمية الجديدة كان لا بد أن يعود البعض إلى أفكار الريبة المتشائمة وفكر العبث وخاصة بعد أهوال الحرب العالمية الثانية وما خلفته من دمار أخلاقي. فهل وعي التجربة ملازم للتشاؤم وعدمه للتفاؤل؟ بكلمات أخرى هل العقلانية توصل حتما إلى رؤية سوداوية واللاعقلانية إلى رؤية للوجود وردية؟
عودت الديانات التوحيدية البشر التعلق بعالم غيبي صُوّر لهم على أنه أفضل من العالم الذي يعيشون فيه، فالدين عموما تعزية ومواساة بينما ليس للفلسفة من طموح سوى التفكير في ما هو كائن بكل ما يحمل من عنف وظلم وشر ومن هنا يبدو الفلاسفة لأغلبية الناس كأنهم أقرب إلى التشاؤم بل يظهرون وكأنهم متواطئون ضد الفرح والأمل أحيانا. ومرد ذلك أن الناس غير متعوّدين على النظر إلى الواقع كما هو لأن الديانات قد زرعت في أذهانهم أوهاما كثيرة عن طبيعة واقعهم و’ما بعد واقعهم’ خصوصا.
ومن الطبيعي جدا أن يكون الفيلسوف حاملا همّ الوجود لأن وجوده في العالم يطرح عليه ألف سؤال وسؤال ولو لا إشكالية الوجود لما وجدت الفلسفة أصلا. ولأن الغيب صامت والحياة معقدة وتزداد تعقيدا كل يوم يغدو معنى الوجود ذاته غامضا، ويخوض الإنسان تجربة الفلسفة ويبدأ في التساؤل عن جدوى حياته وليس من الغريب إذن أن تحمل الفلسفة جرح ذلك الهم الذي أوجدها. ولكن لا يعني أن ذلك الانشغال بالمعنى والمصير ولا ذلك الجلاء الذهني ولا ذلك القلق هي بالضرورة تشاؤم.
ولكن هذا لا يعني السقوط في ما أطلق عليه المفكر الفرنسي باسكال بروكنر “الابتهاج الدائم” في كتاب أصدره منذ سنوات تحت هذا العنوان نقد فيه نقدا لاذعا أيديولوجية الفرح المفروض اليوم كواجب في المجتمعات الغربية. وهو ما ذهب إليه منذ أشهر مواطنه الفيلسوف روجي بول دروا في مؤلف لا يقل أهمية وعمقا هو “الفلسفة لا توصل حتما إلى السعادة.. وهذا أفضل”، شن فيه حربا ضروسا على أنبياء السعادة الجدد ومروجي الغبطة والسرور.
وحتى وإن كانت حقيقة الوضع الإنساني محزنة وتراجيديا الوجود مرعبة بعد “موت الإله” وانتفاء معه إمكانيات العزاء الكلاسيكية، فربما تبقى الفلسفة هي الطريق الوحيد الذي نتعلم ونحن نسلكه أن نحب الحياة مع وعينا بأنها منتهية وأننا سنموت يوما.
وعموما ليس للإنسان خيار آخر غير ذلك، فالاستمرار في العيش كالابتهاج برحلة نقوم بها مع علمنا المسبق بأنها ستنتهي حتما. تشاؤم الذكاء وتفاؤل الإرادة كما كان يقول الفيلسوف أنطونيو غرامشي.