هل سقطت دولة الشعر

الأربعاء 2017/02/01
لوحة: معتز الإمام

لطالما اعتبرت الأمم الشعر أعظم الفنون السمعية، وهو مادة الغناء، والعرب يعرفون ذلك أكثر من غيرهم، بل إن تاريخ الأدب العربي هو تاريخ الشعر منذ الجاهلية، وكان شوقي يختار الأصوات التي تلقي قصائده، كما اختار محمد عبدالوهاب ليغنّي بدائعه، وأشهر الأصوات التي كانت تلقي قصائد شوقي في المحافل العامة: حافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وتوفيق دياب، وثلاثتهم من عظماء القادرين على الإلقاء والأداء، ومن أصحاب النظرات والإشارات، وقلما نجد لهؤلاء مثيلاً في أيامنا هذه.

وفي العصر الحديث فتحت أم كلثوم وفتح عبدالوهاب باب التجديد في غناء الشعر العربي، واستمع الناس إلى قصائد شوقي وحافظ وعزيز أباظة وإبراهيم ناجي وأحمد فتحي ومحمود حسن إسماعيل، وغيرهم بصوت أم كلثوم وعبد الوهاب على نغم جديد قديم، لم يستمعوا إليه من قبل.

كانت الأجيال السابقة تتغنى بالشعر القديم، وجاءت أم كلثوم فغنت قصائد لعمر بن فارض والشيخ عبد الله الشبراوي وغيرهما، ولكن الانطلاق العظيم كان من شعر شوقي وأحمد رامي في البداية، ثم كثر الشعراء الذين ترنّم الناس بأشعارهم، وكان آخرهم في هذا الجيل محمود حسن إسماعيل، ومازال بيننا بعض الشعراء الذين يطربوننا بأشعارهم العذبة.

ولكن الكلام الغث الهابط أصبح أكثر من الشعر، وهناك أزمة حقيقية تواجه أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية عندما يتم اختيار النصوص الشعرية الراقية والتي أصبحت نادرة جدًا، بعد أن طغت العامية على الفصحى في لغة الغناء.

وكانت جناية وسائل الإعلام العربية على الشعر، وهي غير مقصودة، من أخطر الجنايات على الأدب العربي الحديث، لأنها فتحت الباب أمام كل من هب ودب أو كتب سطورًا أو كلمات لتغنى، وقديمًا كانت الإذاعة لا تطلق على هذا الكلام اسم الشعر، بل تقول إنها كلمات، ولا بد من ملء الفراغ الزمني في ساعات الإرسال الإذاعية والتلفزية والتي تستمر 24 ساعة، وليست هناك حيلة إلا أن يغني المغنون والمغنيات بأيّ كلمات دون حسيب أو رقيب.

صدقني لو قلت لك إن محمود بيرم التونسي هو سبب هذه المأساة أو الأزمة التي يعانيها الشعر العربي اليوم، فقد استطاع بموهبته الخارقة وبأسلوبه السهل الممتنع أن يكتب بالعامية كلامًا راقيًا محترمًا يصل إلى مستوى الشعر العربي الرصين، وقد ذكر طه حسين أنه لا يخاف على شعر الفصحى إلا من بيرم التونسي، كما كان شوقي يخشى من بيرم أيضًا، الذي كتب ذات يوم عن شوقي، فقال “يا أمير الشعر.. أنا أميرك”.

ولكن بيرم التونسي ظاهرة لا تتكرر، والذين يقلدونه يعجزون عن الوصول إليه بأيّ حال من الأحوال، لأنه كان ينظم بالعامية ومعه أنفاس وروح الشعر العربي الأصيل، وكان في نفس الوقت يملك القدرة على النظم بالفصحى، ولكنه رأى أن شعره الفصيح لن يصل إلى مستوى شوقي وحافظ ومطران، فاختار العامية لينفرد بها، ونجح في ذلك نجاحًا باهرًا منقطع النظير، بينما فشل منافسه وغريمه ومعاصره حسين شفيق المصري الذي لم تظهر أزجاله في لحن واحد من ألحان الغناء، وشفيق المصري هذا حكاية تستحق أن تحكى إذا كان في العمر بقية.

لماذا يعود الناس إلى هذا الماضي؟ إنهم في العالم المتحضر، يستمعون إلى أشعار الشعراء لديهم، ولكنهم لا يجدون بينهم شعراء يقولون شعرًا راقيًا جميلاً عذبًا مثل أشعار شكسبير وبايرون وجوته وشيللر وإليوت وبريشت

أقول لكم لم يكن بيرم التونسي يكتب أزجاله لتغنى، بل كان يكتبها كمبدع يعبّر عن نفسه ووجدانه وحياة أمته بأفراحها وأتراحها، ثم اختارها المغنون والمغنيات بعد ذلك، ولكنه كتب أغنيات للأفلام والمسلسلات والبرامج الغنائية، وكتب أيضًا للغناء، بعد انصهار مواهبه الذاتية، ورغم ذلك من المستحيل أن نقول عنه إنه كان محترفًا لكتابة الأغاني، كما يفعل بعض الذين يكتبون الكلمات السخيفة المملة في أيامنا هذه.

ولكن رغم ذلك فقد جنى بيرم التونسي على الشعر العربي الحديث، حين أقنع الناس بأن العامية قادرة على التعبير الفني الرفيع، مع أن استخدامه للعامية كان وسيلة تعبير مشترك بينها وبين الفصحى، فهو لم يستخدم اللهجة السوقية المبتذلة بل كان له قاموس خاص يضم ألفاظًا فصيحة، وينظم بها قلائده وفرائده على الوزن والقافية، ثم يسقط حركات الإعراب.

وليست موهبة العم بيرم التونسي هي في استخدام العامية الفصيحة أو القريبة من الفصيحة، ولكنها موهبة شاعرية، ترتبط بالتصور الشعري وليست اللغة فيها إلا مطية توصله إلى هذا الهدف الفني.

ونحن لا نعترض على كتابة الأزجال بالعامية (وحتى لو اعترضنا فلن يسمعنا أحد ولا حياة لمن ينادي)، فإن الأدب المصري والعربي بوجه عام يعرف هذا الفن منذ القديم، ولكنه لا يعترف بأنه شعر، لا بسبب الانتقاص من قيمته كفنّ من فنون القول، ولكن لسبب آخر هو أن الشعر فن آخر له قواعده وأصوله غير فن الزجل.

وحتى فن الزجل الذي يكتبه بعض الزجالين اليوم، وقد اشتهر بعضهم في وسائل الإعلام شهرة كبيرة لا حدود لها، بل أصبحوا من المقررين علينا في الإعلام صباح مساء يتحدثون في كل شيء وأيّ شيء، ليس ما يقولونه فنًا يستحق الالتفات إليه، لأنه تكرار لنصوص قديمة معروفة ومنشورة في بعض الكتب القديمة، أخذها بعض الذين يؤلفون الكلمات، أخذوا مطالعها، ثم أضافوا إليها بعض المقاطع التي يسندون بها النص القديم.

ولو أنك رجعت إلى كتاب “سفينة الشيخ شهاب” وهو أضخم مجموعة للأغاني المصرية والشامية لوجدت أن نصف الأغاني التي نسمعها الآن مأخوذة من نصوص قديمة، بل إن هناك مجموعات أخرى للأغاني المصرية مأخوذة بالتمام والكمال منه.

ليس عند وسائل الإعلام شرطة تطبق قانون الملكية الفكرية أو قانون حماية المؤلف، فالشيخ شهاب وأغنياته المجموعة ملك عام، مضى عليه أكثر من خمسين عامًا، وعليه فلن يسمح بمقاضاة أحد، وأذكر أنه ذات يوم ادّعى أحدهم أنه مؤلف أغنية مطلعها “عمار يا مصر عمار”، وهذا المطلع ليس له مؤلف، وكان آباؤنا وأجدادنا يسمعونه في شوارع القاهرة أيام زمان، حين يتغنى به رجل الشارع..

ولكن المشكلة الحقيقية هي الادعاء بأن هذا الكلام شعر مثل شعر المتنبي وشوقي، وأصحاب هذا الادعاء يصممون أحيانًا على أنهم شعراء، مع أن أستاذهم بيرم التونسي كان يخجل كل الخجل من إطلاق لقب الشاعر على نفسه، لأنه كان معاصرًا لشوقي وحافظ، ولو ادعى أنه شاعر لطالبه الناس بقصائد مثل قصائد حافظ وشوقي.


لوحة: معتز الإمام

أنت معي حين أقول إن لغة الشعر في الفصحى، تختلف عن لغة النثر، ولها خصائص دقيقة وقف عندها النقاد منذ القدم، ولاموا بعض الشعراء الذين لم يحسنوا استخدام اللفظ، وأدخلوا ألفاظًا غير شاعرية في قصائدهم، أي أن الشعر له قاموس لغوي خاص، وألفاظه لها جرس أي نغم، وهذه من الأوليات المعروفة في عالم الإبداع الشعري، وقد استخدم بيرم التونسي معجم الشعر الفصيح في بناء إبداعاته، لأنه كان خبيرًا بالشعر العربي عارفًا لأسراره، ولذلك جاءت بعض منظوماته مثل الشعر الفصيح، ولكن بغير حركات الإعراب، واستطاع إدخال أوزان الشعر العربي في هذه المنظومات العامية التي كانت قاصرة على بعض الأوزان المتعارف عليها بين الزجالين.

ولكن حركة العامية التي استشرى أمرها وساعدت وسائل الإعلام والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي على إشاعتها، بسبب الجدب الفكري والإبداعي الذي نعيشه وأدى كل ذلك إلى ضياع الشعر الجاد الأصيل، فقد انصرف بعض الشعراء إلى تأليف الأغاني ثم انصرفوا عن الشعر إلى غير رجعة.

أذكر الشاعر الكبير عبدالفتاح مصطفى (رحمه الله ) بعد أن دخل إلى عالم كتابة الأغاني والبرامج الغنائية لم يعد يكتب الشعر، بل أصبح مجرد مؤلف أغان، مع أنه لو كان قد انصرف إلى الإبداع الشعري لاستطاع كتابة روائع تغنّى، ولكن ما باليد حيلة، فقد أصبح الجو العام هو تأليف الأغاني بالعامية في الأعم الأغلب، وبالفصحى في بعض الأحيان النادرة.

ثم جاءنا شعراء التجديد، الذين كسروا عمود الشعر، وألقوا بالقوافي في غياهب الجب وبحور النسيان، وبعض هؤلاء يكتب نثرًا مشعورًا يقول لنا إنه شعر، وآخرون يكتبون مقالات قصيرة تحمل بعض الصور والأنغام اللفظية ويزعمون أنها شعر، وأكثرهم قدرة يستخدم بعض تفعيلات العروض في نظم كلمات مبتورة لا يكمن بها وزن، ولا تنتهي إلى قافية.

إن مشكلة الشعر في وقتنا الراهن، ليست عربية، بل هي مشكلة عالمية، تسببت في خلقها وسائل الاتصال الجماهيري الحديثة، وأخطرها شأنًا وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك اختراع الأقراص الممغنطة والفلاشات بأنواعها المختلفة كوسائل للتسجيل.

في العالم المتحضر أصبحت قصائد عمالقة الشعر العالمي تسجل على أقراص ممغنطة وتباع في الأسواق، وأنت تستطيع شراء قرص ممغنط مسجل في لندن عليه قصائد لكيتس أو بايرون أو مقاطع من مسرحيات شكسبير، كما تجد مثل هذا في ألمانيا، حيث سجلت بعض قصائد جوته وشيللر على أقراص ممغنطة.

وهذه الظاهرة تدل على أن الشعر أصبح فنا مسموعًا وغير مقروء، وبذلك تعود البشرية إلى عصر جاهلية العرب واليونان، حيث كان الشعراء يلقون قصائدهم، ثم يرويها عنهم الرواة، فأصبحت الراوية في عصرنا هي الأقراص الممغنطة وأخواتها.

ولكنّ الشعر المسموع من هذه الأقراص ليس شعرًا حديثًا، بل هو شعر قديم رصين، ونحن لم نعد نعرف شاعرًا مشهورًا ذائع الصيت في بريطانيا بعد “ت. س. إليوت” أو شاعرًا في ألمانيا بعد “برتولت بريشت”، ويأتي بعد ذلك مجهولون، أو محليون.

ويبدو أن الشعر أصبح في أزمة عالمية، وليس الأمر قاصرًا على الشعر العربي، لأنّ روح العصر في تقدمه التكنولوجي الرهيب لم تعد تطيق القصائد والملاحم التي تربّينا عليها، وأكثر ما يمكن تقديمه هو أغنية في ثلاث دقائق، تكتب كلماتها لتوافق لحنًا موسيقيًا.

إن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومستوى التعليم المنحدر المتخلف واضمحلال الثقافة في بلادنا كل ذلك كان له أكبر الأثر على فن الشعر عندنا، وعليه فالحياة المادية المعاصرة توشك أن تقنعنا بأن عصر العواطف الملتهبة والمشاعر الراقية والعلاقات الودية بين الأفراد والجماعات قد انتهى إلى غير رجعة، وأن “روميو وجوليت” و”قيس وليلى” وغيرهما من ثنائيات العشاق أصبح شيئًا من تاريخ مضى أو بات نسيًا منسيًا.

لكن، لماذا يعود الناس إلى هذا الماضي؟ إنهم في العالم المتحضر، يستمعون إلى أشعار الشعراء لديهم، ولكنهم لا يجدون بينهم شعراء يقولون شعرًا راقيًا جميلاً عذبًا مثل أشعار شكسبير وبايرون وجوته وشيللر وإليوت وبريشت.

منذ منتصف القرن العشرين، بدأت موجات الشعر تنحسر، وتتضاءل، وأتذكر أن هناك شاعرا إسرائيليا نال جائزة نوبل في الآداب اسمه “عجنون” يكتب بلغة ميتة هي العبرية، ولا يقرأ له أحد، ولا يعرفه أحد، وقد يأتي الوقت الذي لا يجد أصحاب جائزة نوبل شاعرًا حقيقيًا يمنحونه الجائزة.

لقد قضت الأغنية الخفيفة السريعة على فن الشعر، وشاركت وسائل الإعلام والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في الجناية على الشعر وقتله، لأنها أصبحت تروّج لهذا اللون من الأغاني، ولم يعد في العالم المتقدم مؤلف أوبرا مثل “ريتشارد فاجنر”، ولم يعد عندنا مؤلف مسرحية شعرية بعد شوقي وعزيز أباظة.

إن الشعر بكل أسف يلفظ أنفاسه الأخيرة، وستبقى منه كلمات فيها روح، ولن نجده على أوراق كتاب أو مجلة، ولكن قد نسمعه عبر الإنترنت أو الأقراص الممغنطة، وهذه هي روح عصرنا، وإذا كان بين العرب شعراء في زماننا هذا، شعراء لا زالوا يطبعون الدواوين حتى اليوم، فإنهم غدًا لن يطبعوا ديوانًا، وستكون آخر دواوين الخالدين هي تلك التي تركها لنا جيل حافظ وشوقي ومن معهما.

والآن تفكروا معي ألا تندرج في هذا السياق واقعة منح شاعر قصائد غنائية هو بوب ديلان جائزة نوبل للآداب.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.