هل نتعلم من سقراط؟
الفكر المخالف لما هو سائد محكوم عليه، تلقائيا، بالإقصاء والتهميش، بل وأكثر من ذلك، بالتعذيب والقتل، أي بما هو أبشع وأشنع، إذ لو تأملنا التاريخ لوجدناه مليئا حد الثمالة بنماذج من هؤلاء الذين تعرضوا للتعذيب والقتل، وذلك فقط لأنهم تجرّؤوا على النظر في اتجاه آخر غير الاتجاه الذي ينظر إليه الجميع. إن عملية رؤية الأمور عكس ما يراه الجميع، عملية ارتداء نظارات مختلفة عن النظارات التي ترتديها الجماعة، حوّلتهم إلى شياطين. لهذا عملت الجماعة، التي لا تحب أن ترى رأيا آخر مخالفا لرأيها، على التخلص منهم. ومن بين هؤلاء، الذين يمتلئ بهم التاريخ، أختار الحديث في هذا المقال عن سقراط الذي لم يكتب شيئا، لكن عمله الفلسفي العظيم، لم يكن سوى حياته وموته. أما سبب اختياري له ومبرره دون الجميع فيرجع إلى إيماني بأنه يمكننا التعلم والاستفادة منه.
سقراط، فيلسوف يوناني، ولد قبل ميلاد المسيح بما يقارب الخمسمئة سنة، استوحى سقراط فلسفته، مثلما ادعى أرسطو، من الشعار المنقوش على معبد أبولو في دلفي “اعرف نفسك“. في حين أن هناك من يرى أن فلسفته هي نتاج صوت داخلي سمعه سقراط وأملى عليه أن يوقف ما يفعله ويغير سلوكه. ونتيجة سماعه لهذا الصوت أضحى يتصرف على نحو مختلف، يتجاهل العادات، وما اجتمع عليه الناس، وينشغل بتعلم كيفية عيش أفضل حياة يمكن تصوّرها.
ومهما كان مصدر تفلسفه، فقد تميز سقراط بشيئين الأول من حيث المظهر الخارجي، حيث أنه كان يعتبر قبيحا وفقا لمعايير اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، قلت وفقا لمعايير اليونان، إذ كما تعلمون القبح ليس ثابتا، بل هو متغير بتغير الزمان والمكان، بمعنى أنه يبنى اجتماعيا، وما يكون قبيحا في زمن أو مكان ما يمكن أن يكون غير ذلك في زمن أو مكان آخر. والثاني بأسلوبه الفريد في التفلسف والذي يسمى “فن التوليد”، أي أنه كان يستخرج الأفكار من محاوريه، لا يعطيهم شيئا من عنده/يساعدهم على استخراج ما سيعرفونه انطلاقا من أنفسهم بأنفسهم. يقول عن ذلك في محاورة تيتياتورس “إنني مثل القابلة، لا ألد الحكمة، لأنه لا حكمة عندي، إن مهمتي هي مساعدة الآخرين على الإنجاب“. ويضيف “ليس عندي أي نوع من الحكمة، وإنما كل صناعتي هي توليد الأفكار من الرجال، إن أسئلتي ساعدت الناس الذين أجادلهم – رغم أنهم لم يستفيدوا مني شيئاً – أن يكتشفوا بأنفسهم كثيرا من الحقائق الرائعة التي تولدت منهم واستخلصت من أنفسهم وأعماقهم”.
عدم ادعائه الحكمة والمعرفة، وتوقيفه للناس في الأماكن العامة، وجعلهم يدركون، عبر أسئلته المزعجة، مدى محدودية ما يعرفونه، خلق له العديد من الأتباع، الذين اعتبروه الرجل الأكثر حكمة على قيد الحياة. بيد أنه خلق له أيضاً أعداء ضربوه، واحتقروه وسخروا منه. ووصل بهم الأمر إلى محاكمته. إذ أنه وهو في سن السبعين اتهم من قبل مواطني أثينا بتهمة الإلحاد – عدم الإيمان بآلهة المدينة – وإفساد عقول الشباب. لقد خرّب، حسب قولهم، عقول الشباب وجعلهم ينحرفون عن الطريق القويم، وطالبوا انطلاقا من ذلك بإعدامه.
في المحاكمة تصرف سقراط بشجاعة وخاطب المحكمة بجرأة قل نظيرها “طالما أنني أتنفس وأملك القوة، لن أتوقف عن ممارسة الفلسفة وإسداء النصح لكم وتوضيح الحقيقة لكل من أصادفه… وبذلك أيها السادة… سواء برأتموني أم لا. أنتم مدركون أنني لن أغير سلوكي حتى لو مت مئة مرة “. ولأنه لم يتراجع عن قناعاته، ومعتقداته، فقد انتهت المحكمة بالحكم عليه بالموت “لم يزعج الحكم سقراط بالمرة، بل ذهب بهدوء إلى سجنه ” في السجن حاول بعض تلامذته تهريبه، لكنه رفض ذلك رفضا قاطعا، ومات موت الشجعان، ليصبح بعد موته مبجلا أكثر مما كان عليه وهو على قيد الحياة. إن استعداده للموت بدلا من التخلي عن معتقداته ضمن له الخلود، إذ لو هرب أو تراجع عن أفكاره لما ضمن له هذا أي شيء. “وبعد خمسة قرون كتب المؤلف الروماني ماركوس فابيوس دفنتيليانوس: باستغنائه عن السنوات القليلة الباقية له كسب خلودا عبر القرون”.
هكذا انتهت حياة سقراط، الذي نجح في مهمته المتمثلة في “توعية الناس بنقص معرفتهم”، مضايقا محاوريه مثل الذبابة بأسئلته المزعجة، لكنّ مأساة الفلاسفة والمفكّرين والعلماء لم تنتهي عنده، فقد أدين أرسطو أيضاً، لهذا اضطر للهرب وقال أنه هرب كي لا يرتكب الأثينيون جريمة ثانية في حق الفلسفة، في إشارة إلى جريمتهم الأولى في حق سقراط. وبعد مرور المئات من السنين صلب الحلاج، ونفي ابن رشد، وأحرقوا برونو الذي أكد نظرية كوبرنيكوس القائلة بأن الأرض ليست هي مركز الكون، وحاولوا قتل الفيلسوف إسبينوزا بطعنة خنجر.. وهو الخنجر نفسه الذي انغرس في رقبة نجيب محفوظ.
قلت في التقديم إنني أؤمن بأنه يمكننا التعلم من سقراط والاستفادة منه. لهذا أرى من المفيد أن أتحدث عن ذلك، ولو بشكل مختصر ومقتضب: إن الدروس المستفادة من سقراط كثيرة ولعل أبرزها أنه أولاً يدفعنا إلى وضع ما نعرفه ونؤمن بصحته موضع فحص وتمحيص. سقراط ينزع عنا الثقة، ويخلق لنا نوع من القلق ويضع أمامنا إمكانية أن يكون ما نؤمن به خاطئ، وهذا الأمر نحن في الغالب، لا نفكر فيه ولا يخطر على بالنا، نعيش حياتنا مطمئنين إلى صحة ما نعتقد وذلك فقط لأن الأغلبية تعتقد نفس ما نعتقد. وثانيا يعلمنا أن نتجاوز جبننا، وأن نتحلى بالجرأة والشجاعة.
كيف ذلك؟
لنفترض أننا اكتشفنا تهافت ما نعتقد وتضعضعه، بعد إخضاعه للمساءلة. غالباً ما سنخاف من التصريح بهذا الأمر بشكل علني خوفا من رد فعل الأغلبية، لكن سقراط لن يفعل ذلك، سيختار المواجهة بدل الاختباء وحتى عندما سيكون في ذلك هلاكه، لن يتراجع ولن يطأطئ رأسه مُذعناً.