هل ولّى عهد اليسار واليمين
منذ قيام الثورة الفرنسية والانقسام بين اليمين واليسار يهيكل الحياة السياسية في بلد الفلسفة والنقاش السياسي الساخن تحت تسميات مختلفة وإن لم يعرف تحت تسمية يسار/يمين سوى مع قضية دريفوس الشهيرة. فهل ينجح الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون في تجاوز هذا الصراع الأيديولوجي الذي تربت عليه الأجيال الفرنسية المتعاقبة بعد ما فشل في ذلك كثير من قبله كحزب الحركة الديمقراطية المتحالفة معه برئاسة فرنسوا بايرو، وزير العدالة وحافظ الأختام في حكومته اليوم، ومن قبله ميشال روكار الوزير الأول في عهد الرئيس فرنسوا ميتران؟ وما معنى شعاره “يمين ويسار معا”؟
في وقت يجد فيه الناخبون الفرنسيون أنفسهم في حيرة من أمرهم ويكفر جلّهم بالاقتراع ويهاجر الكثير منهم نحو اليمين واليسار المتطرفين، وفي وقت يحتضر فيه الحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريين اليميني المرتكز عليهما الاستقرار السياسي التداولي منذ ولادة الجمهورية الخامسة في فرنسا سنة 1958، وفي وقت تتأزم فيه الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، أصبح أغلب الفرنسيين ينظرون بريبة إلى ذلك الصراع المزمن بين اليسار واليمين ويعتقدون أنه صراع أيديولوجي عقيم بات من مخلفات الماضي إذ لم يعد يعقد عليه أيّ أمل في حل المشاكل المتجددة التي تطرحها الحياة المرقمنة والمعولمة.
وفي الحقيقة ما يجري في فرنسا على المستوى السياسي ما هو إلا انعكاس لما يحدث على مستوى العالم المتقدم كله، فإن لم يكن هذا العالم أمام نهايته فهو يعيش مع بداية الألفية دخولا إلى عالم جديد تهيكله شبكات التواصل ومختلف المنتجات الذكية.
تعيش الديمقراطيات في قلب مرحلة لا تزال تبحث لها عن تسمية، فهل هي في أزمة بالمعنى الذين يعطيه الفيلسوف أنطونيو غرامشي للكلمة إذ يرى بأن الأزمة وضع يموت فيه القديم ويجد فيه الجديد صعوبة في الظهور وقد تنتج عن ذلك العسر ظواهر مرضية يتمظهر فيها الخوف والحيرة والقلق. وعموما فالمراحل الانتقاليّة هي، في نظر المفكر الإيطالي، وجه من وجوه الأزمات. هي مرحلة الثورة الصناعية الرابعة، مرحلة الذكاء الاصطناعي، مرحلة العبر-إنسانية، مرحلة انفجار التجارة التقليدية والخدمات (الأبررة أو أوبريزيشن). ومع ذلك يبقى عجز علماء الاقتصاد مزمنا في القدرة على التنبؤ بالأزمات وتبعاتها السياسية والاقتصادية والمالية ولا أحد بإمكانه التنبؤ بما سيكون عليه العالم في المستقبل القريب.
وقد تجلت الأزمة الشاملة عبر أزمة 2008 المالية التي لا تزال تأثيراتها مستمرة على المجتمعات الغربية وقد امتدت إلى الحياة الاقتصادية بشكل عام ومسّت أفكار وتصورات الناس وساهمت في زعزعة هوياتهم السياسية التقليدية وكل ذلك بسبب عجز الحزبين المتداولين على الحكم، الحزب الاشتراكي وحزب اليمين بمختلف تسمياته المتتالية، على إيجاد صيغة ما للوصول إلى الشروع في إصلاحات اقتصادية وسياسية، فرنسا في أشد الحاجة إليها.
ومن هذا المعطى ينبغي تحليل النقد الموجه لـ”أفول” كلّ من اليمين واليسار. لم يعد الكثير من الفرنسيين يؤمنون لا باليسار ولا باليمين إذ لم يدع فشل نيكولا ساركوزي اليميني ثم فرنسوا هولاند اليساري خلال العشرية السابقة مجالا للشك في تصدع القطبية الثنائية القديمة وبات الفرنسيون يبحثون عن بديل آخر كفيل بإخراجهم من الأزمة متعددة الأبعاد. وهو العرض الذي بدأ في بنائه إيمانويل ماكرون لبنة لبنة منذ حوالي 3 سنوات حينما وصل إلى قصر الإليزيه كمستشار للرئيس هولاند ثم توليه للوزارة وإعلان ترشحه والقيام بحملته حتى الفوز بالرئاسة تحت شعار “يمين ويسار معا” والذي استقطب أغلبية الناخبين إذ عندما يكون التلميذ جاهزا يظهر المعلم، كما يقول البوذيون في أمثالهم.
وهكذا وجدت الرأسمالية المعولمة تعبيرها السياسي والانتخابي الأكثر نجاحا وإقناعا في المتسابق إيمانويل ماكرون الذي بات يمثل أمل مجموعات اجتماعية كثيرة متناقضة المصالح والمشارب، تراهن على حياده الأيديولوجي لتكييف بلدهم فرنسا مع الرأسمالية الجديدة وتوجيهها نحو ليبرالية اجتماعية على الطريقة الأسكندنافية.
في حقيقة الأمر لقد اقتنع الفرنسيون في أغلبيتهم بوجوب بناء كيان سياسي آخر يكون وراء استراتيجية منفتحة على الجميع وقد يكون مزيجا بين اليمين واليسار في مرحلة أولى ولكن دون أن يكون توفيقا أوتوماتيكيا بينهما.
تعيش فرنسا إعادة تركيب للمشهد السياسي وعودة أخرى لطبيعة النقاش بين اليسار واليمين لا تكون مبنية على مخلفات الصراع الطبقي القديم وإنما على التعارض الجديد بين الذين يحلمون بعالم موحّد والذين يريدون المحافظة على الخصوصيات الوطنية والثقافية. بكلمات أخرى سيكون التعارض بين الفردية الليبرالية والقومية المحافظة.
ولكن يبقى السؤال مطروحا: هل يمكن الوصول إلى براغماتية معينة تتوّج بتحالف واسع يسير البلد حسب معايير النجاعة الحيادية كما هو الحال في المؤسسة الاقتصادية بعيدا عن القناعات والعواطف أم لا يتعدى الأمر مجرد وهم إجماع سرعان ما يتلاشى أمام قوة الواقع؟
بعد الثورة الفرنسية في 1789 كان النواب المدافعون عن التقدم والثورة يحتلون يسار قاعة الجمعية الوطنية بينما كان معارضوهم الذين يحنّون للنظام القديم والملكية والكنيسة يجتمعون في يمين القاعة ومن هنا جاءت تسمية اليمين واليسار. فأين يجلس نواب التحالف بين اليمين واليسار قيد التشكل بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون وحركة “إلى الأمام”؟ تتساءل صحافية فرنسية، هل يجلسون على اليمين أم على اليسار؟ هل يقفون في رواق القاعة؟ وعلى طرافة الأسئلة فهي تشير إلى قدوم مرحلة جديدة تتطلب تسييرا فرنسيا للغموض.