هل يفشل المصريون فعلا في كتابة الشعر؟
هناك “كلام” لا يستحق مجرد الرد عليه أو إضاعة الوقت في مناقشته لأنه -ببساطة- يخلو من النظر العلمي ويطلق أحكاما جزافية تفتقر إلى دليل. فهذا الناقد يتعامل مع الشعر المصري منذ حركة الإحياء إلى شعر التفعيلة كما لو كان هذا الشعر كله قصيدة واحدة يصفها بالرداءة ثم يستريح من الأمر وكأنه قد قال كل شيء.
"مصر تخلو من الشعر” هذه هي المقولة الأساسية التي يفتعل هذا “الناقد” من أجل إثباتها وهي مقولة واهية تفتقد المنطق والموضوعية، فأنت لا تستطيع أن تحكم على وطن بحجم مصر إنه خال من الشعر منذ عصر النهضة إلى الآن، فلا مصر ولا غيرها يمكن أن تصفها بهذا الوصف.
لكن دعنا نتأمل بعض أدلته فهو يقول -مثلا- إن البارودي سطا سطوا مسلحا على شعر الشريف الرضي وهي رؤية نقدية تقليدية تجاوزها النقد الحديث، فهو يتجاهل ما عرف في الشعر العربي بالمعارضات ناهيك عن عدم معرفته بالتناص، وأن فكرة السرقات هذه ليست أكثر من أكذوبة تداولها القدماء ولم يعد أحد يقول بها الآن إلا أمثال هذا “الناقد”. أما ما قاله عن شوقي فلم يكن أكثر من مغالطات، ومن ذلك قوله إن النخبة المصرية هي التي اختارت شوقي أميرا للشعراء، لكن ما هو معروف وشائع أن وفود العرب من الشعراء جاؤوا لمبايعته وليس من الوارد أن يجتمع كل هؤلاء على باطل. أما عجزه -أي هذا الناقد- عن تذوق شعر شوقا فهذا شأنه، ويمكنني أن أحيله إلى مئات الكتب التي تناولت جماليات شعر شوقي، وأحيله –تحديدا- إلى كتابي الصادر عن هيئة قصور الثقافة المصرية بعنوان “شعرية شوقي -قراءة في جدل المحافظة والتجديد” والذي أوضحت فيه نظريا وتطبيقا ما قام به شوقي من تجديدات في العروض، والأهم تجديده على مستوى الأساليب الشعرية. وقد رصدت في هذا شيوع عدة أساليب منها الأسلوب الغنائي والملحمي والدرامي والكنائي.
أما العقاد فله شعر متوسط القيمة حقا لكن له شعر يعد من عيون الشعر المعاصر من ذلك قصيدته “ترجمة شيطان” التي قال عنها زكى نجيب محمود بحق إنها لا تقل أهمية عن “الأرض اليباب” لإليوت. ويمكن لهذا الناقد أن يعود إليها إذا أراد أن يكون منصفا بالإضافة إلى اقتراب لغته في ديوان “عابر سبيل” من لغة الحياة اليومية وكيفية تحويلها إلى لغة شعرية، وأكثر من ذلك فقد كتب شعرا قريبا من شعر التفعيلة. ويكفى العقاد جهوده النقدية التي ساهمت في ترسيخ الشعر الرومانسي ولولا هذه الجهود لظل الشعر العربي في إطاره الإحيائي الأول. ولا أدري كيف يشير هذا الناقد إلى مدرسة الديوان وأبولو دون أن يتوقف أمام شعراء في حجم عبدالرحمن شكري الذي كان رائدا لما يسمى بالشعر المرسل، ومحمود حسن إسماعيل الذي يمكن وصفه بأنه شاعر متجاوز للاتجاهات، فقد عرف معمار القصيدة القديمة وتجديدات الرومانسيين، بل إنه سابق لشعراء التفعيلة في كتابة هذا النمط الشعري خاصة في قصيدته التي يرثى فيها أحمد شوقي، وإبراهيم ناجى وعلى محمود طه الذي سافر السياب من العراق إلى مصر من أجل أن يطلعه على ديوانه المخطوط طمعا في أن يكتب له مقدمة.
وإذا ما انتقلنا إلى شعر التفعيلة فيكفي أن نشير إلى إنجازات صلاح عبدالصبور على مستوى اللغة الشعرية وبناء القصيدة الدرامية التي كانت تمهيدا لمسرحه الشعري، وأحمد عبدالمعطي حجازي وأمل دنقل ومحمد عفيفى مطر.
أما كلامه عن افتقاد مصر للحاضنة اللغوية فعليه أن يعلم أن مجمع اللغة العربية في مصر يعد أهم المجامع العربية، وقد أصبح من غير المستساغ أن نتحدث عن الحواجز الجغرافية في عصر الطباعة ووسائل التواصل الحديثة.
أما ما يشير إليه من افتقاد مصر لسلطة الخلافة المركزية يعد ميزة لا عيبا لأنه حرر الشعر المصري من الخضوع لهذه السلطة التي أضرت بالشعر أكثر من إفادتها له.
وأخيرا فلا أدري كيف يربط الخيال واتساع الأفق بتعدد الأعراق والجنسيات داخل الوطن الواحد وهو يعلم ما جنته هذه الأعراق من اقتتال نتمنى أن ينتهي سريعا.