وحش الجهل وسلطان الصمت
من البديهي أوّلا، تسجيل هذا الاعتراف الصّريح، وهوَ أنّ السُّلطة في الوطن العربي بكافة أشكالها وتجليِّاتها، دائمًا ما تعيش حالة من التنافر والتّضاد الكبيرين مع المجتمع وتكويناته المدنيِّة والثَقافية، ودائمًا ما تنشأ معارك بينهما واضحة في شتى الاتجاهات فمن جهة الثقافة والفكر تحديدًا، وهما محوران مهمان وأساسيان، ويفرزان كل أشكال الصِّراعات الأخرى.
مازالت السُّلطة الدينية والأبوية هي المهيمنة برغم اتساع رقعة التحدّيث والتكرّيس لها بمختلف الأساليب والرؤى واعتبار تاريخيتًّها المستمدة من الحقب والفترات الاستعمارية المختلفة، فكل التشريعات والقوانين الصادرة من السلطة، بمختلف أشكالها وأفكارها وبرامجها، تعمل على تعطيل حركة الحداثة، وخلق بدائل مشوهة، لاعبة على وتر السياسي والأيديولوجي وتذويبهما، فتثبيت مفهوم الموروث والمعتقد تحت غطاء المقدس والديني تارة، والقومية تارة أخرى، متمسكة بشكلها الوجودي الصنمي، والاجتماعي والمذهبي الجامدين، فإذا ما وضعنا في الاعتبار أن القانون والُّسّلطة، هما الطَّابع المتمثل دائما من ناحيتي السّياسة والثقافة، ومنهما يتم توليد روح المجتمع وحراكه ونظم تعليمه وتقويمه، وبذر نواة استمراريته، فبالتأكيد أننا سنواجه من واقع التجربة، ومن نماذج كثيرة حولنا بالعديد من التساؤلات، فلا سبيل لإيجاد مخرج حقيقي لأهم وأكبر معضّلات مجتمعاتنا العربية، سوى طرحها بشجاعة ومواجهتها بشفافية وتصويب أسئلتها النقدية مباشرة بلا مواربة.
أسئلة البدايات
فسلطة الأسرة على سبيل المثال، كأول جدار يقف مواجها ومراقبا لأسئلة البدايات الكبيرة لدى الفرد، وبسطوتها الأبويّة والأزلية تخفي عمدا أدوات الوعي بالوجود المستقل للإنسان، وتضليل ذاكرته الباحثة من هذا التحقق، وتحجمّها باسم العاطفة والرعاية وتصويب المسار لمصلحتها، وهي لا تدري بأنّها تقدمه بهذا المنوال صيدا سهلا لوحش الجهل، وسلطان الصمت، تغلق أمامه أبواب النهل من المعرفة الحقيقية، وتسلبه بجبروتها المهاب إرادة مواجهة غموض الطبيعة ولغز الحياة، فهو لا يتعرّف -تحت هذه السطوة- على إجابات تشفي غليله ولا تنضجه اختراقات الأسئلة العميقة والمشروعة بحكم بديهيات إعمال العقل، حيث يظل كتاب خياراته ووجهته بيدها، ودائما هو أسير أحلامها وأمنياتها، وجنديا مخلصا مطيعا لتعليماتها وأوامرها، فسلطة الأسرة ما لم تعي باكرا لحجم مسؤوليتها بمنحه الحق في تصويب الأسئلة، وتعمل معه لإيجاد إجابات مقنعة ومحرضة له لمزيد من المعرفة، في حين أنّ السلاح الأكثر فتكا هو التجاهل لرغبته واقتحام أسوار كينونته وذاته لزرع قيم أخرى باسم التربية والأخلاق، فهذا يجافي الطبيعة البشرية، وهنا تشتعل حروب الوجدان والضمير، وتمتد أثارها دائما كلما تقدم العمر، واستجدت عناصر الحياة، مخلفة أرتالا من الضحايا، والمبدعين غير الفاعلين والمجهولين والمهمشين.
فالنظام التربوي والتعليمي ومساره التاريخي عبر السنين، ظل هو المسؤولية المشتركة بين سلطات عديدة، أهمها على الإطلاق سلطتي الأسرة والمجتمع، ويرتبط هذا النظام ارتباطا وثيقا بواقع ومستقبل الفرد والمجتمع ككل، حتى لكأنّ التاريخ يعيد نفسه بين كل حقبة زمنية والأخرى، لدرجة التسليم بأن التاريخ في حركته في قبضة السلطة، ورهينا لقوانينها وحزمة تقاليدها، إذن فثمة تحديات جسام يواجهها النظام التعليمي دائما، باعتباره النواة الأولى لمجتمع يسهل تركيعه وتسليمه لسلطة الواقع، وعليه تستند الكثير من القضايا الملحة، والمؤشرات التي يمكن القياس بها مدى حرية وتبعية المجتمع وتخلفه، وكيفية خضوعه لفلسفات قديمة وأنماط بالية، وركونه لقيم معرفية وأخلاقية سالبة، تعد بحساب الراهن وتجلياته شكلا متخلفا وغير مواكب، ويجب نقده وخلق مسارات جديدة تنهي سيطرته وارتهان إرادته وقانونه للماضي، بل تذهب ابعد من ذلك بكثير، لتخليصه من أسباب تخلفه، ووهنه إلى الأبد..
تحديات مستمرة
إنّ كشف عتمة الهوّة التي بدأت تُشكل آلام وتطلعات الجيل الجديد في الوطن العربي، تبقى تحديات مستمرة له ولتطلعاته وطموحاته، فالجيل الذي يحس غربته ومنفاه في واقعه المهزوم، فهذه التحديات هي بالأحرى أسئلة شائكة تحرض للحفر عميقا في تربة الوجود للإنسان العربي، فالإحساس المقلق والمختبئ وراء النزوع باتجاه الرفض لكل ما هو عادي والتمرد على سطوته، وخلق علاقات مختلفة تؤول دائما للشعور باللاجدوى وأحيانا تضرب على تخوم العبث، فتشريح معضلاته وتحقيق ذاته في اللحاق بركب الأمم، فالأصوات التي بدأت الآن تنادي -وإن بدا صوتها خافتا ومقموعا بشكل فظيع- يجب السماع لها، فهي الخبيرة من وحي معايشة أحوال الإنسان الضحية، والأكثر التصاقا بتجربته وبغرق الغريب منه في نهر الواقع، والمعوّل عليها فتح نوافذ الأسئلة الكبيرة والمقلقة، ولها أدواتها الجديدة في سبر أغوار الظلام، ولها أيضا مبرراتها العقلانية بانحيازها لمشاريع النّهضة والتنوير، فهي أيضا قد انتبهت باكرا لضرورة تجديد بنية الوعي الخلاق، وأحست بوهج وإشراقات العولمة واكتساح فيضانها لكل المجتمعات، وعرفت أنّ الوقوف ضد تيارها يشكل خطرا محدقا وكارثة داوية لا تبقي ولا تذر، فالأساس الذي يمكن اعتباره حجر الزاوية للتغيير يكمن في تشريح بنية النظام التعليمي والتربوي، وفتح آفاق أرحب لقطف ثمراته، وبث روح وملكات الخلق والابتكار في منهجه، ومنحه الدرجة الأولي لقيادة وتوجيه المجتمع، فما قاله السيد بيتر كروبوتكين مثلا في سفره العظيم الموسوم بـ»السلطة والقانون»، فهو يمثل تعبيرا صارخا ومفيدا عن واقع التعليم في الوطن العربي، حيث ذكر السيد بيتر في كتابه «إننا فاسدون بسبب التعليم الذي يقتل فينا روح الثورة منذ الطفولة، ليضع فينا روح الخضوع للسلطة، إننا فاسدون بوجودنا تحت عصا القانون الذي يتحكّم في كل حدث في الحياة -ولادتنا وتعليمنا وتطورنا وحبنا وصداقاتنا- ولو استمرت دولة السلطة والقانون فسنفقد كل مبادرة وكل عادة تفكير من أجل أنفسنا. والظاهر أن مجتمعنا لم يعد قادرا على فهم إمكانية وجوده إلا في ظل سيادة قانون وضعته حكومة نيابية تمثيلية تدار من قبل حفنة من الحكام. وعندما ذهب إلى حد تحرير نفسه من العبودية، كان همه الأول إعادة تشكيل العبودية على الفور. ولم تستمر ‘سنة أولى حرية’ أكثر من يوم واحد، لأنَ الرجال في اليوم التالي مباشرة وضعوا أنفسهم تحت وطأه القانون والسلطة..
والحقيقة، أنه لبضعة آلاف من السنين، لم يفعل أولئك الذين حكمونا شيئا سوى سلسلة من التغيرات المبنية على ‘احترام القانون وطاعة السلطة’، وهذا هو المناخ الأخلاقي الذي نشّأ فيه الآباء أطفالهم، ولم تخدم المدرسة شيئا قدر تأكيد هذه الفكرة الغامضة. فغرست -بدهاء- في ذهن الأطفال نفايات منسّقة من العلم الزائف لإثبات ضرورة القانون، وأصبحت طاعة القانون دينا في حد ذاتها، وصُهر الخير الأخلاقي وقانون السادة في نفس الذات المقدسة. وصار البطل التاريخي لغرفة الدراسة هو ذلك الرجل الذي يطيع القانون ويدافع عنه ضد المتمردين» (انتهى كلام بيتر)، فالمتأمل لكلامه ولما يرمي إليه برويِّة، يجد الحقائق المذهلة والأليمة ماثلة وواضحة، ماثلة حتى في تجربته الشخصية مع غول التعليم وقوانينه الجائرة وأساليبه الفاسدة، وواضحة في شؤم الحاضر اليوم، ومن المهم جدا أن يتخيل المرء مستقبل المجتمعات العربية إذا ما استمر الحال وظلت مقاليد الأمور ومفاتيحها بيد سدنة وزبانية السلطة الحالية وحوارييهم مِمّن يدّعون الفكر الصّائب والخبرة التراكمية، وهل حقا نحن عاجزون بالفعل عن فهم طبيعة وجودنا؟ وهل التغيرات الحالية التي تمر بها شعوبنا هي محض تحولات سطحيّة ومزيفة طالما أن السَابقين قد شيّدوا حصونا يصعب دكها وتكسيرها؟ وأننا فقط نستنسخ صورا تشبه خضوعنا؟ إذا نحن في أمسِّ الحاجة لتفعيل الهمة والسعي الجاد والحثيث للتغيير الشامل والحقيقي، وانتشال الأجيال القادمة من مستنقع الواقع المرير، يجب أن يكون التغيير الشامل في بنية المجتمعات شعارا مقدسا لكل نفس أبية، وصاحب هم بالمستقبل العريض، أو أيّ جماعة تعمل بتجرد ونكران ذات للتعجيل بإنجاز مهامها والتبشير بمستقبل غايتها، فالمرحلة الحالية من عمر شعوبنا تستحق بالفعل اجتراح الأسئلة الحرجة، وتحقيق الأهداف النبيلة التي تخدم غرض الأمة وتجسير هوتها نحو بر الأمان من أجل مستقبل زاهر ومضيء.
البيئة التعليمية الفاسدة من جهة لا تنتج سوى قادة فاسدين، والمسيّجة بجدار العزلة والكبت لا تخرّج سوى أجيال متطرفة، وجامدة وغير نافعة لأوطانها ولا العالم
العولمة ومسألة التعليم
لعل من أحرج الأسئلة التي تواجه مسيرة التعليم الآن، هو سؤال قضية العولمة وثورة المعلومات الهائلة، وبروز مجتمعات شبكية تحمل سمات مختلفة، ولها اشتراطاتها الافتراضية الخاصة، وظروفها الاجتماعية والاقتصادية المغايرة تماما، توازيها بالمقابل ضرورة ظهور اتجاهات جديدة في المناهج والأساليب التعليمية والتربوية، وكيفية التماهي معها والتكيف وفقا لمعطياتها وإفرازاتها المتعلقة بالتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فهو بالتأكيد سؤال المستقبل العربي وطوق نجاة أجيالنا القادمة، فالتخطيط السّليم والبناء المواكب لتطلعات العصر يجب أن يرتبط ارتباطا كاملا بالعملية التربوية والتعليمية وتقاطعاتها مع قضايا التنمية والاقتصاد، ومن قبلها القوانين والتشريعات المواكبة، فالعولمة صيرورة شاملة، وحركة كونية مكتملة تتلاشى على أثرها كل الحدود الجغرافية والفواصل الثقافية، ولها خاصية هضم التحولات والتفاعلات وتقديمها في قوالبها الخاصة، وإنتاج مركزها الواحد، وبالتالي لها القدرة على كسب صراعاتها وحروبها الخفية، دون تكلفة تذكر، لذا من المهم الانخراط في مدارها واليقين بجاذبيتها، وتبقى الثقافة والتعليم والهوية والكينونة مجردة من سماتها ما لم تتحسن ظروف تطورها، وتمليكها أدوات تبادلها المعرفي والحضاري مع رصيفاتها، تبقى حجر الزاوية لبقائها واستمرارها، دون شروط تحد من ذلك، وتبعا لمنظومات وقوانين تمنحها صفة التواؤم والتكيف.
فالعملية التعليمية بشقيها التربوي والمادي في بلداننا العربية، تحتاج لنقلة حضارية كبيرة، ونوعية في نفس الوقت بإنشاء خطط تنموية تستوعب طموح وتطلعات أجيالنا للحاق بركب الأمم المتطورة، فالتشريع لنظام تعليمي حديث يهدف إلى الاستقلالية وتحقيق الكفاءة العالية، ومخاطبة الوجدان المبدع والعقل الخلاق، بالإضافة إلى وضع مناهج تستجيب لهذا التطور وتهيئ الفرد للانتقال الدائم نحو العولمة واستقلال كينونته الاجتماعية والثقافية، فكل هذا لا يتأتى إلا بالنظر على أن التعليم ضرورة فلسفية لبناء الفرد والمجتمع، وتبنّى وجهات نظر حقيقية وشاملة تؤدي إلى ترقية التعليم بما يتناسب مع حاجة الفرد والمجتمع وتطلعاتهما معا، وعليه فإن إخضاع المناهج والنظم والقوانين لرؤية متجددة، يؤدي إلى قفزة كبيرة في أساليب الابتكار، وطرح الأسئلة المهمّة في البناء المجتمعي وحرية الفرد، فالتمسك بالثوابت واليقينيات والتقاليد البالية، يتناقض تناقضا كاملا مع مسألة احترام الفرد وتطوير المجتمع، فالمدرسون وهم عصب الترقي في السلم التعليمي، عليهم يقع العبء الأكبر في تقديم العالم للنشء ككتلة واحدة ونظام واحد، وإرشادهم إلي ضرورة إزالة مسببات العزلة والانكفاء على الذات، وإظهار القيمة الإنسانية لهم كغاية.
كما يقع على عاتقهم تهيئة البيئة التعليمية السليمة، ومناخها المعافى من أمراض التسلط الأعمى، وعاهات الكبت والحجر على عقول النشء، واستبعاد الطرائق العقيمة والسالبة في مجالي التربية والتلقين، واعتبار المدرسة بيئة صالحة للتبادل والحوار وإبراز المواهب، وصقلها بما يتماشى مع روح العصر في كل حقول الفنون والثقافة والعلوم، فليس الوقت الآن لإرسال الرسائل الجامدة، والمحرضة لتحويل المدرسة لقلاع أيديولوجية صماء، وحصنا تتحطم عليه طموحات أجيال وأجيال وتكسر فيها القيم الإنسانية العظيمة، وتتحجر فيها العقول باسم الهويات والمركزيات والجهويات، ويشعر فيها المرء بغربته وموت كينونته، فتتسرب روحه وعقله في فضاء الكآبة والأمراض النفسية والعقلية، ونتائجها الكارثة، فهنالك الكثير من النماذج والأمثلة في محيطنا القريب قد وقعت وكانت مآسي وفجائع وخسارات جمة لا يمكن حصرها هنا.
فالبيئة التعليمية الفاسدة من جهة لا تنتج سوى قادة فاسدين، والمسيّجة بجدار العزلة والكبت لا تخرّج سوى أجيال متطرفة، وجامدة وغير نافعة لأوطانها ولا العالم، بل تصبح أكثر ضررا وتهديدا لأمن وسلامة الآخرين، ومن جهة أخرى فإن محاولة تغبيش الوعي بمفاهيم لا تمت للواقع بصلة، وغير معنية بالإنسان كثروة لا بد من تنميتها، ولا تعتني بخصوصيات الآخر وقبوله، تقدم للعالم كائنات مشوهة وتصطدم بواقع مختلف لا يمكنه أن يوازن بينه وبين ذاته، فيقع فريسة سهلة لسهام الصمت والجنون، وتتبدل أهواؤه لتناقض نفسه، فالانسجام الكامل، والتصالح مع المجتمع والآخر هو لبّ المسألة التعليمية، وأحد أهم أهداف التربية السليمة، والخلاصة المرجوّة من أجل تهيئة البيئة الإبداعية النظيفة، غير ذلك نكون كمن يحرث في البحر، ونحن نرى أجيالنا تتسرب في صمت، وتغادر بلا ضجيج باتجاه الغرق، في نهر الواقع العدمي.