وردة الميلانخوليا

الأربعاء 2020/07/01
لوحة لمحمد الوهيبي

سيماء وجهي تتبدّل كلما نظرت إلى المرآة.

أمس كنت أنا ولكن ما قبل أمس لم أكن أنا، شخصاً كنت لا أعرفه، أو ربما عرفته يوماً لا أدري متى، أمّا غداً فسأكون شخصاً آخر متلبّد العينين أو شديد صحوهما، نقياً كبياض مجهول أو معتكراً مثل ماء بحيرة الأرق.

 سأكون شخصاً لا أعلم من أين أتى، يحيا اللحظة تلو اللحظة، لا ماضي وراءه، مقتلعاً كأنما من أديم السماء، من بئر الاضطراب التي لا قعر لها، معلقاً مثل غيمة على زجاج.

 إنني أنا، اليوم وأمس، ولكن سأكون مثلما أتيت نطفة حبر أو صمغ فكرة ضجر منها إله أو شجرة في فردوس. ربما نثرة ضوء سقطت من الأعلى أو أدنى قليلاً، ربما بقعة سوداء ما برحت تنتشر وسع الحدقتين.

 إنني اضطرابي الذي كنته، الذي أكونه، بعدما نسيت كل ما كان وما سيكون، إنني رجفةُ يدي الله عندما جبل الطين ونسي أن يشعل السراج أمامي.

 إنني أعمق مما أظن، لجّة تطفو على صفحتها بوارق وجروح وبراعم معتمة، لا أحد يمدّ لي يداً لأنجو. لكنني كلما نظرت أدركت أنني نجوت ولكن لا أعلم جيداً مما نجوت.

إنها وردة الميلانخوليا، تتفتح في الأرجاء المجهولة لما أسميه روحاً، ضوؤها يرسم آثار طريق إلى سماء أو جحيم، لكنني على الطريق لا أنظر إلى الوراء، فلا وراء هنا ولا وجه امرأة أسميها أوريديس، ولا صوت يدعوني لاسترجاعه من الأعماق الطافية. ولا مزمار لديّ لأعزف فأسحر الآلهة التي على أهبة الرحيل. أتراها السماء ترشح ماء أسود، أم هي شمس السويداء ترسل أشباحاً في منتصف الظهيرة؟

 يشيع عطر الميلانخوليا أم يتلاشى، الكآبة هي نفسها، سرّ اليقظة الأعمق من نوم يحلّ غفلة. المزاج الذي أضحى أمزجة تختلط مثل ألوان قوس قزح، يتهادى أو يتلبّد، ثم يشفّ ليتراءى من ورائه فجر الأزل، مبهماً أو مشرقاً مثل قمر يغرق في كأس زنبقة.

إنها ميلانخوليا الشفق تجعلني كئيباً أكثر ممّا ينبغي، متجهماً أكثر مما ينبغي. السماء مجدبة والمطر حملته غيوم إلى منقلب الأرض.

 إنها ميلانخوليا الروح المضطرمة تُغرق المنظر الشاسع في نبيذ الأرق. وما تراه عينك يراه عصفور أصابه البرق على غصن.

 تدلهمّ السماء في الداخل مثلما تدلهمّ فوق الجبال، الغيوم التي تنسحب وسع الآكام هي نفسها الغيوم التي تهب من هاوية غير مرئية.

اليقظة في وضح النهار ترادف النوم في ضوء القمر. النقيّ ما يكفي مثيلُ المعتكر ما يكفي. الحواس التي يصيبها خلل ترتجف على مرأى من شمس باهرة تمحو كل منظر يمكن أن تراه، كما لم يكن يوماً، صافياً صفاء وجه لم يولد، مترنقاً مثل ماء جرن تهبّ منه رائحة عشب القداسة.

عيناك تتكدران، تريان شجرة يحملها الهواء، إنها امرأة تناديك فلا تسمعها، من جذعها يسقط جنين من قطن.

كل ما أمامك يتشوّش كأنك داخل شاشة بيضاء، تمشي فلا تصل، وإذا وقعت في حفرة تنهض كملاك بلا جناحين. طريق واحدة تنتهي إلى أبعد أو أقرب مما تنظر، كأنما إلى وهدة. تشمّ ما تراه أو تلمس ما تسمع من أصوات تنحني مثل خيط غمام بألوان تذوب كالماء. الجو خانق مع أن نسائم بحر تهبّ بحبيبات ملح. البحر، البحر، ولكن هذه الصحراء كيف أمكنك أن تعبرها برمالها التي أعمت عينيك المغمضتين. أبنية وشوارع وأرصفة تتطاير في هباء المنظر الذي تبصره ولا تبصره، أشخاص يتساقطون من أسفل، الأعلى مسيّج بأشواك. الحواس تتشوّش، تسمع وجيبها أو تراه مثل غشاء أبيض مبقّع دماً. لا برق يلوح شرقاً وإلى الغرب غراب يفرد جناحين. الحواس تنطفئ رويداً رويداً. بعد قليل ينهض قمر السيروتونين كي يسامر الليل فيصبح ليلين أو ثلاثة، وفي كبد السماء نجوم تضمحلّ لتمسي سهوباً بأغوار وسحب.

عندما أطل على بئر حياة ليست سوى سراب، أبصر ما أبصره يوماً الشاعر الرائي وصرخ بصوت أبكم: إنها الأبدية. حتى الجحيم وهم جحيم والسماء غيوم زرقاء أو بيضاء تنسحب إلى الأقاصي. الشمس في الأسفل بقعة ثلج. لكنّ أصواتاً غائمة ترتفع، أناشيد جنائزية أو أغنيات يتلوها أناس لا مرئيون.

لم أكن غريباً يوما مثلما أنا الآن. ولكن ليس من عالم لأكون غريباً فيه وعنه. لستُ غريباً عن بشر أجهلهم ولا عن صور وأصوات تملأني. إنها غربة الظل عن نفسه. أصرخ لأصحو، لأوقن أنني سأصحو، أرفع يدي، يد الغريق في لجة طافية على وجه الماء، أتسطح تحت شعاع فضي.

 أحلم من دون أن أحلم، لست يقظاً ولا نائماً، لست أرِقاً ولا سهراناً، فالليل عبر منذ ليال.

لم أكن المسيح الذي قال في بستان الزيتون نفسي حزينة حتى الموت، لم أكن الحلاج الذي كابد ألم الانفصال، ولا جيرار دو نيرفال الذي أسدل ستارة الحداد عند منتصف الليل، ولا بودلير الهارب من سويدائه نحو فراديس متوهمة. لم أكن فان غوغ صياد غربان القدر، ولا هولدرلن الذي نعى الآلهة بعينين بارقتين، ولا نيتشه المضطرب الذي لم يعرف سوى الله غريماً. لم أكن ريلكه الذي زاغت عيناه فسمع صوتاً، لم أكن أنسي الحاج شاعر الأوجاع الشخصية الذي لم ينمْ إلا لمرة أخيرة.

إنني جميع هؤلاء المكتئبين الذين غلبوا العالم. إنني كل واحد منهم ولست أحداً منهم. إنني الابن الضال الذي فقد دربه. أفقت يوماً ووجدت نفسي هنا، أطفو على صفحة كتاب لم يفتحه أحد.        إنني نقطة دم، ربما نقطة حبر، سقطت من قمر السيروتونين.

سيروتونين، سيروتونين، منذ أن فتحوا رؤوس البشر لم يستطيعوا أن يغلقوها. آلات تدبّ على الأرض، ماكينات مجنّحة.

سعداء نحن في هذا العالم المريض. أتينا هنا بالصدفة ربما، أو لعلنا ضللنا في سيرنا الفضائي فسقطنا من طبقة شاهقة. لكننا هنا، ننظر إلى القمر فوقنا ونحلم، ننظر إلى النجوم ونحلم، ننظر إلى الشمس ونقول: كم من أعمار ستبقى لك أيتها الأرض المحروقة؟

لوحة لمحمد الوهيبي
لوحة لمحمد الوهيبي

إننا نخاف. أقصد أنني أخاف. لكنّ الجنة، أجمل ما اخترعنا، الجنة، الحلم بالجنة، المؤاساة بالجنة. الجنة التي خبأناها في عيوننا منذ أن سقطنا. الجنة الأقرب إلينا من ظلنا، الأبعد من ظلنا.

سيروتونين. عيناي تضيقان بما أسمّيه العالم وما قبله وبعده. إنني عاجز عن كل ما يمكنني أن أفعل، عن أن أفكر، أن أنسى. إنني حشرة، كل قدم تهدّدني.

سيروتونين. من كان يتصور أن العالم قد يصبح يوماً بحجم قرية. عالم، لعله مصاب بسرطان نفسه. عالم بحجم قرية، وإنسان بحجم حشرة. ولكن من المختبرات تهبّ سحب سود.

سيروتونين، سيروتونين. إنني مصنوع على شكل آلة ميتافيزيقية، آلة تتكلم، آلة لم يقدّر لها أن تقطف الثمرة المحرّمة. إنني كائن افتراضي، ولكن بحنين كائن من لحم ودم، من هواجس ومخاوف، من مشاعر وآلام. كائن افتراضي يهوي مثل لوح زجاج من أعلى.

إنني كائن فضائي بروح لا بجسد. أبناء سلالتي حمر الوجوه، عيونهم زرقاء كالخرز. كل ما أبصره إنما هنا، على شاشة في الرأس لا يقدر أحد على انتزاعها.

إلى أين يا من أسميك سيروتونين؟ في ذروة المحنة، هذا العالم، وقد يصعد في إحدى نوباته جبلاً ليرمي بنفسه من فوق. في المختبرات نطفة تخلقني مرة أخرى، مرة تلو مرة. ولكن من ينقذني من غيوم السيروتونين؟ ليس جنس البشر مهدداً بالزوال. لكننا قرود وراء أشجار ورد.

بشر كأنهم دوماً آخرون. يفتحون عيونهم لمرة أولى، ثم يغمضونها لمرة أخيرة. لكنّ آخرين يأتون، يفتحون عيونهم، ثم يغمضونها. رتابة تجرف الوجود قبل أن يكون. عودٌ أزلي يفقد رهانه.

كيف لهذه العين أن تبصر ما تبصر فلا تنطفئ؟ كيف لهذه الأذن أن تسمع ما تسمع فلا تُصمّ؟ كيف لهذه الروح الراسبة في أعمق الأعالي أن تتسع لما يفوق حواسها؟ حروب، هجرات، مجازر ومقتلات، الغرقى يصرخون، المراكب تنقلب في الموج، القتلة يهيمون تحت الشمس، دم، دم.. لكنّ الله يمشي على مياه الأوقيانوس، يصعد إلى الغيوم. يطوف بين الكواكب.

نصرخ، نستغيث. ننظر إلى القمر، بل أبعد، إلى النجوم المتناثرة مثل حبات رمل. أمام وادي السيروتونين نقف مثلما وقف أنبياء العهد القديم أمام وادي ظلال الموت وبكوا. من السماء يتساقط مطر الكبريت، الشهب تلتمع. الذكاء الاصطناعي، الروبوت، النطفة النووية.. كأننا كائنات بلاستيكية، ولكن نتألم، نكتئب، نختنق، نتبدّد، نحترق، نذوب، العالم يضيق بنا، الروح تضيق. أمواج تتلاطم، أشباح تنهض، أطياف تتخبّط في سديم، أدراج إلى الأسفل، غرف وطبقات. الداخل الذي ما برح يتوق إلى نور، قبس نور، كيما الأعمى يرى بعينين مغمضتين.

ليس لنا هذا العالم، نحن المكتئبين، نحن المضطربين، المتكدّرين، المنحنين على خوائنا، الراجفين، في عيوننا كمدُ الخليقة، أنصاف مجانين وأنصاف آلهة، مرضى السيروتونين، كما تسمينا قواميس عصر النيرو – بسيكياتري، مطرودون من جنة لم تطأها أقدامنا مرة، نحيا وطأة اللحظة غير المحتملة، نطوي صفحة انتحارنا لنفتحها مرة تلو مرة، على شاهق حافة قلعة الملكوت نقف، نرمي بأنفسنا أو لا نرمي بها، ننتظر أو لا ننتظر.

سيروتونين، إنني أرملة العالم، فقدته قبل أن أولد، كانت السماء صحواً والشمس ترفّ على الماء، كان نهار وكانت ظهيرة ثم حلّ ليل. من ينفض عن وجهي ويديّ بقع الليل؟ هذا الليل المشرق من داخل، المقبل أيضاً من خارج أسميه هنالك، من وراء المحيط عندما يبتلع آخر شعاع، آخر رمق من شعاع.

أبصر قمر الغسق يطلع من قاع عينيّ.

قليلاً يشيع الدم البرتقالي في الأفق، ثم يكتمل هزيع الملائكة فوق الأسلاك.

قليلاً تدلهمّ الأرض فلا أبصر إلا أضواء تنكسر في الجهات.

عيناي ترتجفان، ما تبصرانه يرتجف أيضاً. الروح تعبق بعطر سماوات قاحلة، الروح تترنّق مثل ماء مزهرية، الروح تُهرق خمرةً في كأس قفص الصدر. لا أسمع ولا أشمّ ولا ألمس لكنني أبصر ما أظن أنني أبصرته، ساطعاً مثل سكين يسيل منه دم أزرق، لامعاً كالبرق عندما يسقط. خيوط عناكب تنسجها نحلات لامرئية هنا، لا أعلم أين. لحظة عدمٍ تملأني، تفرغني، فأغدو شبحاً يتطاير في هبوب، يحطّ على رابية من غيم. إنني ولدت مدلهماً، ورثت قتامة النظرة من إله تركني هنا، لا أعلم أين. ضبابي يتصاعد ثم يمّحي في زرقة عمياء.

سيروتونين. ميلانخوليا. سويداء. كآبة. اكتئاب. انهيار. سأم. قنوط. انكفاء. حبات بيضاء أو صفراء أرمي بها على طاولة القدر: ليكزوتانيل، كزاناكس، أنافرانيل، زولوفت، سيبرالكس، سيروكزات، بروزاك.. إنها الحبات التي تجلب الحظ. نرميها على لوح أخضر. داخل تجاويف هذا الرأس نرميها، على أدراجه التي تنزل عالماً تلو عالم. عوالم تحتاج إلينا نحن رحالة الغد، أبناء عصر الجنون، المكتئبون أو المنفصمون أو الملهوسون، نكتشفها سراً ونصمت، نخرس مثل حجارة نرد. حبات نرميها على رقعة شطرنج، بلا بيادق، نرميها على خريطة في كتاب الأطلس المفتوح أمامنا.

ليس احتضاراً هذا الذي تموج زرقته في العينين، الذي تصعد غيمته إلى سماء مغلقة في الرأس، الذي ينشر حبره في ضواحي الروح، الذي يرسم زيحاً أخيراً للشفق، الذي يغلق آخر نظرة، الذي يخنق آخر رمق.

ألم، ألم في كل الأطراف وفي لا جهة، أقلّ من أن تستيقظ له حواس، أكثر من أن تحتمله حواس، ألم في العينين، مفتوحتين أو مغمضتين، ألم في اليدين مجروحتين أو مُثلَجَتين، ألم في الصدر، ينشج أو يستكين، ألم في القدمين، في الساقين، في الظهر. ألم في اللامكان من هذا الجسم، ألم لا مرئي، ألم لا مسموع، ألم ينضح نبيذاً، ألم في الروح، في أقاصي الروح.

ما أقلك أيها الجسد، ما أكثرك، ما أقلك أيتها الروح، ما أكثرك. إنني فريسة هذا التقاطع الإلهي، أخذت من الجسد ترابه ومن الروح ضوءاً يكدّر عيني. لكنني في فخّ الجسد وقعتُ ومن بئر الروح لم أخرج.

من أورثني كل هذه الوحشة التي تغلب نمور الغابة؟ من أورثني كل هذا النقاء لأشفّ وأغدو طيفاً لا يبصره أحد؟ أولئك الأسلاف الذين لم أحصهم مرة، يفتحون حفرة نومي وينظرون إليّ ويقهقون. لقد ورثتَ دمنا الأزرق، يقول أحدهم، ذو العين الواحدة. ذهبتُ إلى الكنيسة لأطردهم بالماء المقدس، لكنهم ما برحوا يصرخون في حنجرتي: نحن أسلافك.

كنت كلما وقفت على ربوة أنظر من حولي فلا أجد سوى ظلال خرساء. قد تنطق الحجارة لو سألتها. أغصان الوزال تبتهج بي. لكنني سرعان ما أجد نفسي في الأسفل مثل نعجة ضالة. السهوب شاسعة ولكن ما من صوت. ما من حفيف. إنني في اللاهواء، أختنق وكأنني لا أختنق.

على قلق، على اضطراب، كأن عاصفة تهبّ عليّ من كل الجهات.

كمثل شخص جالس على كرسيّ في غرفة غير مأهولة، لا يجرؤ على النظر من النافذة خوف أن تسقط من عينه غيمة. مثل شخص يحدّق منذ أيام في ورود ذاوية داخل مزهرية على طاولة. شخص يرتقب الشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة كلّ غسق خلف شجر الصنوبر. شخص ينام من أرق إلى أرق. يسهد نومة تلو نومة. شخص بينه وبين الزمن خيط ضئيل. شخص أصبح شخصاً من شدة ما شخصَ في الخواء. شخصٌ اخترقه الخواء فأضحى كأن لا يراه أحد. كمثل شخص مجهول الوجه والعينين.

سيروتونين، سيروتونين. على حافة نفسي.

 لا أقفز إلى الأمام ولا إلى الوراء، الأمام نصف هنا والوراء نصف، قمر فوقي كأنه نصف قمر، شمس في الأسفل كأنها نصف شمس. النهار نصف، الليل نصف والشجرة التي أتكئ عليها نصف شجرة. وجهي نصف وجه، عيني اليسرى نصف عين، وعيني اليمنى أيضاً، يدي نصف يد، صدري نصف صدر. وها نفسي في انتصافها، لا تكاد تكون نفسي، إنها نصف آخر، نصف لآخر أجهله. أما أنا فاسم بلا كنية أو كنية بلا اسم. نصف شخص، ينام نصف نوم، يستيقظ نصف يقظة، يحلم نصف حلم. نصفه قطب شمال ونصفه قطب جنوب. نومي ليس نوماً ولا أرقاً وأرقي ليس أرقاً ولا نوماً. إنني النصف المكتمل بنفسه، الناقص بنفسه، الأنا المقسوم على أناه، الآخر المقسوم على آخره.

كأنني مستلقٍ على كنبة مستطيلة، نوم اصطناعي يحلّ عليّ، فوق عينيّ سماء مغلقة، ولكن صامتاً، أبصر مع أن عينيّ مغمضتان. إنني مريض العالم كما يكون قتيلٌ، قتيلَ العالم، كما يكون هاربٌ، هاربَ العالم. إنني مريض هذا المجهول الذي أسميه العالم، مريض هذا المجنون الذي أسميه العالم، مريض هذا المريض الذي أسميه العالم. إنني مريض نفسي التي هي نصف ليس سوى المجهول نصفها الآخر.

سيروتونين، سيروتونين.

باكراً فقدت طمأنينة الملائكة في الصور.

باكراً فقدت طائرة ورق ملوّنة كنت أطلقها فوق التلال، هبّت غيمة وسرقتها.

باكراً فقدت صندوق الحكايات التي كانت تبهجني، مرّتِ الساحرة وسرقته.

باكراً فقدت المرآة التي كنت أبصر فيها فراشة. جاء الذئب وخطفها.

باكراً طارت من جيبي يمامة أطلق النار عليها صياد فسقطت في نهر.

تعكرت مذاك عينا ذاك الفتى فبات يبصر أشباحاً. بات يخاف الليل عندما يحلّ، بات يخشى النظر في وجوه أو عيون، بات يخشى طاحونة تدور على مشارف هاوية.

كان غالباً ما يغمض عينيه ليحتمي بنوم رقيق كصلاة كان يتلوها كل مساء.

كأنما صوت أسمعه يقول: تذكر، تذكر. أنهضُ عن الكنبة المستطيلة، النوم الاصطناعي طار من النافذة. إنني وحدي، نصف وحدي.

إنني قطعة من ظلام يخفي في قرارته قبس ضوء مفقود.

أكتشف نفسي كما لم أكتشفها مرة. كأنما النفس لا تُكتشف إلا في ظلامها، في قبس الضوء المتواري في ثناياها.

في البدء كانت وردة الميلانخوليا.

وردة السر التي زرعتها يد الله لتكون سراج الضالين في ليل العالم.

وردة الميلانخوليا التي أذروها ورقة ورقة، في هواء يسمّى الأبدية.

شمس سوداء، قمر أعمى، نجوم مقفرة في صحراء هي العالم، أعني نفسي.

هذا أنا لكنني شخص يشبهني. هذا شخص يشبهني لكنه أنا.

لوحة لمحمد الوهيبي
لوحة لمحمد الوهيبي

أستيقظ في الهزيع الأول من الليل، في الهزيع الثاني والثالث.. لأسأل نفسي من أكون، من كنت، أين أنا. ثم يأخذني دوار، ثم يحلّ عليّ ضيق حتى لأشعر بأنني أختنق. وفي أحيان يمرّ عليّ الهزيع الأول والثاني والثالث فلا يغمض لي جفن. في عينيّ المتفرّستين في خواء الغرفة، يرسم الأرق أزياحاً زرقاء، فاتحة أو كامدة. أنهض وأضيء لمبة النيون فينهال عليّ ضوء كاربوني أصبح رفيق هذه الروح المستيقظة فيّ.

يا لهذا النيون، علاج المكتئبين شرط أن تكون النافذة مغلقة والستائر مدلاة. لو جعلوا النيون كبسولة يتناولها المكتئب مثل حبات دواء، لأنارت أنفاق عتمته الطافية على ماء الكينونة.

تحت ضوء النيون يحلو الجلوس أو القراءة أو تأمل الوقت يمضي ببطء، أو تعداد الثواني التي تتكّ مثل ميناء ساعة إلهية. تك تك تك.. في الرأس أم في العينين أم في الداخل، في كل ما أعجز عن تسميته فأقول عنه: الداخل. ولكن ما كان لي أن أظنّ أنّ الخارج أشد وضوحاً من هذا الداخل. تنقلب التخوم بينهما حيناً تلو حين، فلا أبقى قادراً على أن أفرّق بينهما. عندما يكون الخارج صحراء يصبح الداخل سراباً. والعكس. الجغرافيا هنا خطأ جسيم، وخط الأفق ضئيل حتى ليكاد يمّحي.

هذا كلام غامض، أقول لنفسي. ولكن إن لم أفهم الآن سأفهم لاحقاً. هذه الـ”لاحقاً” لا تعني ما سوف يأتي بل ما أتى ولم أنتبه إليه. كانت عيناي مفتوحتين دوماً لكنّ سبحة الزمن لا يمكن أحداً رؤيتها.

الشك جواب وحيد يحصل عليه من يقف على حافة السيروتونين. الشك في كل شيء، في كل أمر، في ما يسمّى هنا أو هناك، في اللامكان. أشك في نفسي ذاتها، أشك في وقوفي هنا على الأرض، في جلوسي على كرسي، في الوراء والماوراء. إنني وهمُ نفسي، وهمُ العالم الذي ليس سوى ضرب من وهم. أشك في نومي إذا نمت وفي يقظتي إذا استيقظت. في لا نومي ولا يقظتي. إنني ظلّ وهمٍ يتهادى أوهاماً.

كلام غامض، أقول لنفسي.

من هذا المستيقظ قبل اليقظة؟ من هذا النائم من غير نوم؟ هذا المسرنم ليل نهار؟ العابر ضفافاً بين عدم وعدم؟ بين وجود ووجود؟ من هذا الصارخ ملء صمته لئلا يسمعه أحد؟ هذا الصامت في أوج اختناقه؟

خارج العالم أو على تخومه. داخل العدم أو على تخومه.

على تلّة عالية وقفت، لكنني لم أرمِ بنفسي. قلت: جبان. حقاً. جباناً ولدت وجباناً أبقى. بلغت شفا الانتحار ولم أنتحر. مثلما أبلغ شفا الحياة ولا أحيا. مثلما أبلغ شفا الموت ولا أموت. لديّ لذة الامتناع في عزّ الاستباحة، لديّ رغبة الانقطاع في عزّ البلوغ. متعة البرود في عزّ الاغتلام. النقيض هو الأصل وليس الأصل إلا وهمه. أقول لا لمن يُسمى الله، عوض أن أقول نعم. ملحد لأنني مؤمن. مؤمن لأنني ملحد. باكراً لم أفهم أمراً من أمور العالم وما وراء العالم. كل ما عرفته لا يدعو للتفاؤل ولو قليلاً. جعل الله كل شيء معقداً من حولنا، وقال: إياكم وشجرة المعرفة. إنني ضئيل منذ ذاك الحين، لم أجد جواباً أسميه الأخير. تركنا الله في هذه الأرض لأنه لا يحب الأجوبة.

عندما تشتدّ شمس الميلانخوليا تمسي السماء جحيماً. من يحتمل قضاء فصل في جحيم؟ شهر؟ يوم؟ قلت كذب أورفيوس. كذب دانتي. كذب رامبو. والآخرون كلهم. الميلانخوليا صحراء لا ينبوع ماء فيها، لا شجرة فيها، لا وردة. الميلانخوليا بقعة من جليد لا تعبرها يمامة ولا غيمة.

ميلانخوليا.

كنت كأنما أخرج من نفسي وأمشي، فإذا نظرت أبصرتها نفسي، وحدها. لم أكن منفصماً، كنت أهلوس ربما. تعشى عيناي، تتبلّدان، ومنهما يعلو ما يشبه وشيشاً مبهماً. ثم يأخذني دوار يفصلني عما حولي للحظة. إنني هنا لا أعلم أين، أبصر ما خيّل لشخص أنه يبصره بلا عينين. من يمدّ يده لي؟ أرفع يدي فأدرك أن لا يدَ لي.

سيروتونين.

ندوب، ندوب، ندوب.. كما لو أن لي ألف عام، ألفين أو ثلاثة. كأني في أحيان لست صاحبها، كأنما أشخاص استودعوني إياها، وغابوا. ندوب يمكنني أن أسميها الحياة بحرف أسود أو أبيض. أن أسميها الموت داخل الحياة نفسها، داخل الموت نفسه.

في البدء كانت وردة الميلانخوليا، زرعها الله ونسيَها هناك، في رؤوس كلّ مكتئبي الأرض، الأنقياء القلوب، الملعونين، العبثيين، العدميين، المنبوذين، الغرباء، المتصوفة، النساك، الشعراء، الرسامين.. ليدركوا أن العالم وهمُ عالمٍ، أن الأرض أصغر من تفاحة، أن الموت يتطاير مثل ورقة خريف، أن ضوءاً يلوح على منحدرات عذراء.

في البدء كانت وردة الميلانخوليا، في المنتهى ستكون، وردة أول الأزل، وردة آخر الأبد.

شباط/فبراير 2019

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.