وطأة اليقين.. من تضاريس الخطاب إلى أسرار العَتبات
في قراءة نقدية لهذا العمل ينهض برتوكول/ميثاق ينفسح إلى مجالين، يخصُّ الأول منهما تضاريس الخطاب وجغرافيته، في حين ستجري في فضاء الثاني مطاردة العتبات النَّصية ومحاولة الإمساك بأسرارها وكيف تُسهم هذه الموازيات النَّصيّة في مَنح النَّص شكله النَّهائي ومضاعفة دلالاته.
تضاريس الخطاب
تتأسَّس رواية «وطأة اليقين: محنة السؤال وشهوة الخيال» (دار السؤال، ط1، بيروت، 2017) للكاتب هوشنك أوسي، وهي الرواية الأولى له، وفقَ تضاريس وطبقات متعدّدة من الخِطاب، أو لنقل ثمة ممارسات خطابية ثلاث تأتلف مع بعضها وتتداخل فيما بينها؛ لتشكَّل متن الخِطَاب السَّردي في هذه الرواية:
1ــ الخطاب ــ المراسلة: الذي يتراكم عن مراسلةٍ بين معتقلين سوريين؛ العلوي «حيدر لقمان السنجاري» وصديقه الأرمني «هاغوبزارادشتيان». وفي هذا القسم ينتقل حيدر السنجاري كقوة فاعلة في النَّص السَّردي بعد فقدان الإيمان (أكاد أختنق، مات بروميثيوس)، أو انسداد الأفق بانبثاق لحظة تاريخية جديدة في العالم العربي عامةً وسوريا خاصةً إلى استعادة الأمل بقدوم هدير الحرية (غروب الأصنام، لحظة القيامة).
وفي تضاريس هذا القسم من السَّردية سوف يجري تدشين لقاء تعارفٍ بين صحفي كردي سوري «ولات أوسو» -الذي يكشف عن الخطابات الجوفاء لحزب العمال الكردستاني بعد أن التزم معهم ردحاً من الزمن ثم انشق عنهم بعد الانتفاضة السوريةـ ومواطنة بلجيكية»كاترين دو وينتر»، ذات جذور يسارية ومتعاطفة مع الحلم السوري، أقامت في دمشق لخمس سنوات انتهت بطردها ومنعها من دخول سوريا، سوف يقودنا هذا اللقاء إلى أحداث مثيرة تبدأ في القسم الثاني.
2ـ جسد الخطاب: (ساحة لابورس): هنا ينفسح جسد الخطاب ليغدو تضاريسَ معقدة من الأمكنة: بروكسل، أوستند، دمشق، تونس، بيروت، أنطاكيا، واشنطن، حيث تغدو ساحة «لابورس» في بروكسل البؤرة المكانية التي تستقطب مجموعةَ قوًى فاعلة ترسم فضاءات الرواية وتقوم بأحداثها: رولان كايمبي، كلارا، جورجينو الذين أخُضِعُوا لعمليات زرع أعضاء (الكبد لرولان، والشبكية لجورجينو، والكلية لكلار)، هؤلاء يرتبطون بصداقة مع الصَّحفي الكردي «ولات أوسو» والمواطنة البلجيكية «كاترين دو وينتر»، لكن ما يجمع هذه الشخصيات الثلاث حصراً بعد زرع أعضاء جديدة في أجسادها هو شعورها الغريب بالانحياز العاطفي للثورة السورية ومن ثم المشاركة في اعتصاماتها ببروكسل فضلا عن الاهتمام الجديد والطارئ بالفن والأدب والثقافة.
هذه التغيرات الشعورية تدفعهم إلى التحري والسؤال وهذا ما يسمح بدخول قوى فاعلة أخرى إلى المشهد الروائي: الممرضة إيليس، الصحافي يان دو كاستيلر (العميل المزدوج) والدكتورة مارسيل ماكسيمليان وزوجها الأكاديمي جورج ساندرز ذو الرؤية التاريخية ثم مدير مشفى زرع الأعضاء ببروكسل البروفيسور إدوارد فاندرويه. ستكشف تحريات مجموعة الأصدقاء بطرائق بوليسية -غاية في الحذاقة- عن علاقة بين المستشفى وضابط في النظام السَّوري «ذو الفقار العلي» عن تولي الأخير انتزاع الأعضاء الحية من المعتقلين وتوريدها للقارة العجوز مقابل الملايين من الدولارات، وتنتهي الأحداث بمسؤولية ذو الفقار العلي بالانتقام من المناضل حيدر لقمان السنجاري (ابن قريته جيبول ورفيق دراسته) بالضرب وانتزاع أعضائه وبيعها ثم قتله، ستتحقَّق المجموعة بعد بيانات دقيقة عن الـ»DNA» الخاص بشقيق حيدر السنجاري؛ بأنَّ الأعضاء المزروعة في أجسادها هي للمعتقل السياسي حيدر السنجاري الذي لم يعد في آخر مشاركة له في مظاهرات الثورة حيث يتنبأ بذلك في رسالته الأخيرة لصديقة الأرمني هاغوب «عزيزي هاغوب… كما قلت لك، غداً سأخرج في مظاهرة جمعة آزادي، ولا أعرف إن كنت سأعود إلى بيتي أم ستأخذني رصاصة قناص، إلى حيث لا أريد. تصبح على آزادي.. تصبح على حرية». وهكذا ينتهي هذا القسم بلقاء كلارا بشقيق حيدر السنجاري (علي) للتأكد من فحص (DNA) الذي يثبت التوقعات الأولى للمجموعة؛ ليبدأ القسم الأخير من الرواية بلقاء المجموعة مع صديق حيدر السنجاري المقيم في ستوكهولم هاغوبزارادشتيان.
3ـ خطاب الرواية غير المكتملة لحيدر السنجاري: هذا القسم من الرواية يتخذ من بيت كاترين دو وينتر بؤرة للقاء هاغوبزارادشتيان الذي يقصُّ على مجموعة الأصدقاء بعض الأسرار الخاصة بحيدر السنجاري: مجموعة أوراق تتضمن مشروعا روائيا عن تجربة سجنه (المنفردة رقم 16) وشذرات تشفُّ عن لقاء بين حيدر وجده (رحلة السؤال في اشتهاء الخيال)، لينتهي هذا القسم ومعه هذه الرواية بحادث أليم، تودي بحياة (رولان، جورجينو، كلار) مع ضيفهم هاغوبزارادشتيان أثناء مرافقتهم له إلى مطار «زافينتم» الدولي، بعد أن صدمت سيارتهم شاحنةٌ مجنونةٌ. كان لا بد من هذا التكثيف لأحداث الرواية وقواها الفاعلة قبل معاينة أسرار العتبات النَّصية التي تحفُّ بالخطاب الروائي، حيث يمكنها بعد التحليل الكشف عن كثيرٍ من الصنعة الروائية وعن مدى ضرورتها لاستكمال التحليل السيميائي للخطاب الأدبي.
أسرار العتبات
حُضُورُ النَّص في –ومع- العَالم يرتهنُ بمصُاحباتٍ نصية وتشكيلية، تجعل هذا «النَّصَّ» في متناول «العالم»، أي تعمل على تقديمه ككينونةٍ مكتملة، فتتفكك ثنائية الأساسي/الثانوي من تلقاء ذاتها، وتغدو العناصر النَّصية في الأهمية سواء. وهكذا فالنُّصوص الموازية (the paratext) من عنوان وإهداء وبداية وخاتمة وكائنات الغلاف (اسم المؤلف، العلامات الأجناسية، اللوحة التشكيلية،.. إلخ) بقدر ما تَهَبُ النَّصَّ حضوراً، ووجوداً قدر ما ترمي بهذا الحضور الدلالي على أقواس القراءة وتزجُّه في لعبة التأويل المرتقبة. وقبل أن نشرع بقراءة عتبة العنوان، العتبة الأكثر استراتيجية والأكثر سراً في هذا «السردية»، لا بدّ من الإشارة إلى أنَّ عنوان النَّص يقودنا ويدفع بنا نحو عتبتي «الإهداء» و»الافتتاحية» اللتين تَعْقِدَان مع القارئ ميثاق/برتوكول قراءة، فالإهداء يخصُّ مدينة «أوستند» البلجيكية حباً وتكريماً حيث يقيم الكاتب، وكذلك إلى «كلِّ مَنْ ظلم هذه الرواية».
هذه التفريعة العلاماتية هي التي ترسم بعد عتبة العنوان تخوم برتوكول قراءة، عبر سؤال ناهضٍ وحادٍّ: مَنْ هؤلاء الذين ظلموا هذه الرواية ولماذا…؟ لكن الإجابة مرهونة بقراءة الرواية للإمساك بأسباب الظلم الذي تعرضت له هذه الرواية!
يبدو أن الافتتاحية النّصية التي تترامى على صفحةٍ كاملةٍ تتضمن من العلامات والإشارات الكثير لتورّط القارئ مع النَّص وتهيكل له فضاء القراءة «… ولكن، هل حَدَثَ كلُّ هذا، كما روي، أم أنَّ الأمرَ محضُ التباسٍ، لا أكثر؟!»، إن الافتتاحية هنا تستعيد تقاليد الموازيات النَّصية لإبرام مواثيق القراءة بقصد اقتناص القارئ، وإحداث فعل القراءة المرتقب.
لوحة: حمد الحناوي
يشرعُ برتوكول القراءة في حركته الأولى بالانفساح عبر التموضع في المحيط النَّصي بغية الكشف عن أسرار لعبة العتبات النصية التي تمنح النَّص السَّردي هويته كحضور سيميائي. هنا؛ يبدأ اللقاء مع النَّص بنهوض عنوان مُلغز يستعير علاماته من المعجم الصوفي «وطأة اليقين: محنة السؤال وشهوة الخيال»، تركيب إضافي يتكرر ثلاثاً بغموض متقصّد دون رأفة، حيث يفتح فجوةً من الحيرة ويربك مسار القراءة عن التقدُّم في طيات النَّص وتشعباتها، وهذه ميزة تصبُّ في خانة العنوان الأدبي الذي لا يكتفي بتعيين النَّص هويةً وإنما يتجاوز «التعيين»وظيفةً إلى استملاك البعد الجمالي؛ الذي به يكون العنوان الأدبي خطاباً مفارقاً، خطاباً يتلاعب بالدِّلالة المحدّدة عرفياً؛ لينزلق إلى دلالات جديدة معاكسة، خطاباً يسكن الإرجاء الدلالي، وهذا ما يمارسه العنوان الرَّاهن، فالقارئ لا يحتاجُ إلى جهد كبيرٍ ليمضي معه إلى فضاء المعرفية الصُّوفية، وهو ما يوهم بأنَّهُ إزاء كتابِ في أفهومات التَّصوف الإسلامي ومعجمه «وطأة، محنة، شهوة، اليقين، السؤال، الخيال»، غير أنَّ العلامة الأجناسية «رواية» التي تتخذ من منتصف الغلاف مسكناً لها تقوّض هذا الاحتمال في انتماء الكتاب إلى المعرفة الصوفية، لتعلن عن انتمائه إلى السَّرد الأدبيِّ.
وهكذا فالعُنوان تسميةٌ لسرديةٍ؛ يؤثث منطقةً معتمةً من الغموض الدلالي، يمتنع عن الوصول إلى القارئ، فالعنوان الرئيسي «وطأة اليقين» المفخّخ بالغموض يُدجَّجُ على غير العادة بعنوان فرعي «محنة السؤال وشهوة الخيال»، وبدلاً من تخفيف وطأة العَتَمة في العنوان الرئيسي نجده يهبط بعلامات العنوان الرئيسي في لجةٍ من غموضٍ المضاعف. ولذلك لا بدّ من تخفيف حدة التوتر الدلالي، حيث نلفي أنَّ «اليقين» يؤمئ إلى الثبوت والتأكيد والحتمي، فهو في المعرفة الصُّوفية «العلم الذي لا يتداخلُ صاحِبَهُ ريبٌ على مُطلق العرف»، إزاء هذا اليقين الموصوف بوطأة حضوره الكثيف ينهض العنوان الفرعي عبر علامتي «السؤال، الخيال»، ليعصفَ بـ»اليقين» الماثل ويجعله محفلاً للتسآل حيث الشكُّ والاستفسار والاستخبار والاستيضاح، هذا اليقين وتحت مطرقة الاستشكال (علم السؤال) يغدو في فضاء الخيال وهماً، ظنوناً، وتَمَثُّلاً عابراً، كما لو أنَّ العنوان بعلاماته «اليقين، السؤال، الخيال» في سياق السيرورة الدلالية للتأويل إنما يعكس عملية الاختلاق الأدبي وذلك بالانتقال من عَالم يقينيٍّ في نطاق المحسوس إلى عالم آخر، قوامه متخيَّلٌ، خَيالٌ يتأسَّسُ تحت شهوة أسئلة المُخيِّلة وبها. ومن جهة أخرى فهذه الدِّلالات التي يحتاز عليها العنوانُ بوصفه نصاً مستقلاً سرعان ما ينحرفُ عنها حينما يغدو علامةً دالةً على النَّصِّ الذي يسمّيه ويمنحه الكينونة، أي حين يتناصُّ مع النَّصِّ في علاقة تزاوج، فالعنوان من ممتلكات النَّص وإليه يحيل، وهذا ما يجدرُ بنا الوقوف عنده، فثمة ميثاق، عهدٌ، التزام لا بدَّ أن يأخذ مجراه في سياق تَبَنْيُنِ العلاقة بين الكائنين: العُنوان والنَّص، لكي يدلَّ الاسم على المسمَّى.
تبدأ العَلاقة التناصية بين العنوان والنَّص بالتمظهر في الرسالة الأولى «أكاد أختنق» للمعتقل السياسي حيدر لقمان السنجاري لصديقه هاغوب، فعنوان هذه الرسالة آنف الذكر يعكس الواقع الذي يحياه المعتقل السياسي السابق «فكلُّ شيءٍ برسم الفساد» «الزمنُ شديدُ الانحطاط، الهواء الفاسد، الماء الفاسد، النهار، الليل، الأفكار، الغناء، الرسم… فاسد»، ليعلن أخيراً عن الواقع-اليقين الأبدي، اللاتاريخي والرافض للتغيير، فليست «وطأة اليقين» إلا هذا «الواقع-المستنقع»، يكتب «قياساً على حالنا هذه، من أين سيأتي التغيير الذي ربما يلقي بحجر في هذا المستنقع الآسن الذي نعيشه، ونسميه وطناً!(…) أكتب إليك تحت وطأة يقين يزدادُ تراكماً، لسان حاله؛ ألا تزحزح عن هذه الحال التي نعيشها» (ص 12). يمتدُّ هذا اليقين إلى كلِّ شيء على عكس ما كان يعيشه في السّجن حيث الحماس والهيجان والأحلام، لكن خارج السّجن غدا ذاك المستقر-الموات «إذا كان هنالك ثمّة شعب بلا أحلام، فهو نحن. إذا كان هنالك ثمّة وطن بلا أحلام، فهو حيث نعيش» (ص 14).
ينهض التناصُّ بين العنوان الرئيسي والرسالتين الأوليين «أكاد أختنق، ومات بروميثيوس» اللتين أرسلهما حيدر السنجاري لصديقه هاغوب معبراً عن وطأة اليقين المسيطر على العالم العربي. غير أنَّنا سرعان ما نلمس انعطافةً على الصعيد الدلالي في الرسالتين التاليتين «غروب الأصنام» و»لحظة القيامة» تساوقاً مع الحركة الدلالية للعنوان الفرعي «محنة السؤال وشهوة الخيال» الذي انبثق كضديد للعنوان الرئيسي، فالرسالتان تعبران عن الأمل الجديد بتقويض «اليقين»، حيث الهيمنةُ الأسطورية لاستبدادٍ لا مثيل له، عاكفٌ على ابتلاع العالم العربي عموماً والسوري خصوصاً. ومن هنا فهذا الأمل بالتغيير لا يمكن إلا من خلال «السؤال» بوصفه أداة الفكر في المساءلة والتشكيك في اليقين ذاته، يقين السلطة الأبدية، فالتقويض لا يبدأ إلا بمطرقة السؤال، بالسؤال الذي كان «محنة» في ذاك الزمن الصعب، السؤال الذي كلّف ويكلف الكينونة تغييباً في سجون «الرجل-الأبد». هنا يومئ حيدر السنجاري بـ»غروب الأصنام»إلى رحيل فرعوني تونس ومصر زين العابدين ومبارك! غير أن ما يمثّل لحظة فارقة في التاريخ، أو ما يشبه الخيال في شهوته إيجاد ما لا يوجد؛ هو «لحظة القيامة»، آنَ انبثاق هدير الحلم السوري، اللحظة-الخيال التي لم تكن متوقعة بأيِّ حال في واقع كالواقع السوري؛ لذلك يكتب السنجاري غير مصدق «أتخيّل سورية، تنهض من تحت ركام ألف غورينيكا وحلبجة وهيروشيما…، بعد تحطّم الباستيل الذي كنا نعيشه. ولن نعود إليه. تحطّم سجن تدمر، سجن صيدنايا، سجن المزّة، سجن درعا،.. وإنها القيامة ولا ريب. قيامةُ شعب، قيامة وطن، قيامة مجتمع، قيامة ثورة، سيغمر دفئها وحرارة أفكارها، عموم الشرق الأوسط» (ص 195).
هكذا الالتزام بين العنوان والنَّص من القوة بمكان سواء على الصعيد اللفظي أو الدلالي، ويكتسب شكله شبه النَّهائي في ختام النَّص الروائي من خلال كتاب «رحلة السؤال والتخمين في مقابر اليقين والتلقين» (ص347)، وهو الكتاب الوحيد الذي تركه الجد الشيخ أزدشير بن حيدر بن معصوم بن علي السنجاري بعد وفاته، فيوصى به لحفيده المعتقل حيدر السنجاري بعد الخروج من السجن. بيد أنَّ هذا الكتاب الذي يتفاعل صيغةً ودلالةً مع عنوان الرواية ما يلبث أن يظهر ثانيةً بين الأوراق التي تركها حيدر السنجاري لدى صديقه هاغوبزارادشتيان، ليكتسب تسمية أكثر رشاقة «رحلة السؤال واشتهاء الخيال» (ص 355)، حيث يتضمن الأسئلة التي طرحها الحفيد على جده الشيخ حول الحياة، والموت، والوجود، والفناء، والزمان، والإيمان، والعقل، والنفس، والعناصر.. إلخ.
وهكذا يتبين للقارئ انضغاط هذين العنوانين في بنية عنوان الرواية بصورة متشاكلة إلا قليلاً «وطأة اليقين: محنة السؤال وشهوة الخيال». وليس بخافٍ على القارئ أن «الرحلة» ولا سيما «رحلة السؤال» تنطوي على المحنة واشتهاء المعرفة، فالرحلة ليست إلا محنة الكائن في الوصول إلى السر. وبهذا التَّشاكل التّناصي بين العنوان الرئيسي والداخل النَّصي يؤدّي العنوان أدواراً بنائية غايتها التماسك وتقوية البنية النَّصية. بيد أنّ عنوان الرواية يفتح مساحة من الاختلاف الدلالي مع العنوانين المذكورين، وهذا هو ديدن العنوان المفارق من خلال ممارسة التماثل والاختلاف دلالةً.
ما ينتظر القراءة من الموازيات النَّصية الاستراتيجية يتمثَّل في «خاتمة الرواية» ذاتها، فالخاتمة تسمح لنا بالخروج من تضاريس النَّص، أي أنها تشكّل حدّاً فيزيائياً لامتداد المساحة اللغوية للنص الروائي، لكنها في الوقت ذاته تفتح عالماً سيميائياً من التساؤلات والدلالات. لكن ما يثير الانتباه أن رواية «وطأة اليقين» تلوذ بخاتمتين نصيتين، الأمر الذي يثير جملةً من التساؤلات، فالتماسك البنائي للنَّصِّ يفترض إنهاء الرواية في الصفحة الـ348 بعد لقاء كلارا بعليٍّ (شقيق حيدر السنجاري) في تركيا، وتحديداً عندما يبلّغ علي كلارا عن هاغوبزارادشتيان الصديق الحميم لحيدر السنجاري في سجن تدمر ويقيم الآن في السويد، فتطلب منه دليلاً يدلُّ على عنوانه فيسهّل لها المهمة «هو سياسي وكاتب معروف. يمكنكِ الاستعانة بالنشطاء ومواقع التواصل الاجتماعي للوصول إليه» (ص 384).
هذه النهاية المفتوحة التي تمنح القارئ فضاء للتخيَّل والتصور سرعان ما يقفلها الكاتب بإضافة حيز سردي ثالث «خطاب الرواية غير المكتملة لحيدر السنجاري»؛ الأمر أطاح بالتماسك البنائي وخلّف فجوةً في البنية السردية، ودفع الكاتب إلى اختتام النص الروائي بنهاية ثانية، لكنها مقفلة دلالياً «بعد مضيّ أربعة أيام على تواجده في بروكسل، قرر هاغوب العودة إلى ستوكهولم نهار يوم 20 أيار 2013. فاتفق الثلاثة، رولان وجورجينو وكلارا، على إيصاله إلى مطار بروكسل الدولي. لكن طائرة هاغوب أقلعت دون أن يلحق بها. إذ شاء القدر أن يأخذه والثلاثة الذين يصطحبونه إلى حيث يتواجد صديقهم حيدر السنجاري. وذلك بعد أن صدمت شاحنة مجنونة سيارتهم، على بُعد خمسة كيلومترات من مطار ‘زافينتم’ الدولي» (ص380).
هكذا يتبين لنا أنَّ هذه «الخاتمة» تقاوم بدلالاتها «الخاتمة» الأولى، أي في الوقت الذي تشرف فيه الرواية مع الخاتمة الأولى على فضاء مفتوح واحتمالات وإمكانات وتساؤلات متعددة، تفضي الخاتمة الثانية إلى فضاء مقفل! مغلق بفعل الحضور المريع للموت، كما لو أنه -بموت الشخصيات الأربع- يشير النَّصُّ إلى انسداد الآفاق وانغلاقها أمام الانتفاضة السورية بدخولها في مضائق وممرات غير متوقعة!
لا بدَّ من الإشارة في نهاية هذه المقاربة إلى أنَّ المتن السردي (الذي يتطلب مقاربة خاصة في رواية «وطأة اليقين» يشغل مساحات شاسعة وتشغله فضاءات وأزمنة وشخصيات كثيرة ومتنوعة) يغدو من الصَّعب في مقالةٍ محدودة المساحة محاصرة كل هذه الكائنات النَّصية ولا سيما أن البرامج السردية تتنوع بتنوع هذه الكائنات النَّصية، وما يحتّم الإشارة إليه هنا أن السَّرد في هذه الرواية الثرية بثيماتها يمتاز بإيقاع بطيء نتيجة التساهل مع تقنية الحوار، الحوار الطويل بين القوى الفاعلة في المشاهد الروائية الكثيرة والمتوزعة على الشريط اللغوي للرواية، لتهيمن هذه التقنية على الرواية فتعرقل انتظام الرواية في إيقاع سريع يجذب قارئ الرواية بقوة أشدّ إلى عوالم اليقين السُّؤال والخيال.