ولكن قَلْبي مُتنبّي الألفيّة الثالثة

الثلاثاء 2021/06/01
تخطيط: حسين جمعان

وكم من جبالٍ جُبتُ تشهَد أنّني الـ

جبالُ وبحرٍ شاهدٍ أنني البحر

في الدفتر المطمور داخلَ صدري أكثرُ من حُلّة للسماء. أقلّب الصفحات لأتفقّد ألوانَها. الأحمر لا يعني الموتَ دائماً لكنّ الأخضر عادةً نبات. وبين الزَهريّ والبُنّي مَلمَسٌ أو عبير، لا أَكاد أَحِنُّ إليه حتّى أَخزَى. أنا عمِلتُ هكذا مع هؤلاء؟ في الخَلوة أُطالِع الدفتر فيوحِشُني المنظر بريئاً ممّا جرى. بالبرق مع زُرقةٍ كالنوم أو بِرِمالٍ تجعل الجَوّ ذَهَباً يخنُق، بزَبَدٍ قُطْنيّ خِلْوٍ من الأمواج. الضوء يَخبِل حقّاً. وكنتُ وساحاتُ الوَغَى تنتزِعُني كلّما ودّعتُ خَصماً حرّرتُ صفحةً بالنَجِيع. السماء مطمورة في صدري، معقودة على الانتصارات. لكنني اليومَ عَارٍ أمام المرايا أتحسّس جراحي وأجثو. لأننا الناسُ الذين عوّرونا يا حبيبتي، الذين أودعناهم نصالنا قبل أن تجِفَّ دموعُنا عليهم. ونحن دفاتر الأعوام تصبِغنا حُلَلُ الأرض حيث نبذُر الفيافيَ بالمعجزات. نُعانِق الصفحاتِ حتى تصيرَ صدورَنا. مَن سَبَحَ في البحر باتَ ماءً مالحاً. ومَن صَعِدَ الجبل تحوّل إلى هواء.

*****

وكنتُ إذا يمّمتُ أرضاً بعيدة

سريتُ وكنتُ السرَّ والليل كاتِمُه

وكأنّي قاتلٌ فعلاً، الرعشة إذ أواجه ضابط الجوازات. فمي الملآنُ دُرّاً يتعثّر في التحيّة. هكذا الإقلاع كلَّ مرّة. دونَ أنْ يَدلهمّ شيءٌ، ظَلَامُ المَسَارات. فكلّما هَفَوتُ نَأَمَتْ سرينة تَطعن الوَلَه في صدري. وحيث يومِضُ قِمعٌ أحمرُ تتلاحق الخُطى ضربَ نارٍ. لأنني جُبلتُ على الوَجَل يا حبيبتي. قلبي نفسُه ضربُ نار. وحتى فوق السحاب مُهجةٌ هَمُّها مُهجتي. الخيل والليل مقصورة الدرجة الاقتصادية على إيرباص ركِبتُه لأَهْرَب، أما البيداءُ فهذا القَفْرُ المكتظ حيث مصابيحُ المركبات قَنَاً تُمزّق الهواء. ولقد وصلتُ ولكنّ خلفَ المصاريع ساديّين سَفَلة، الموتُ أهون من ضيافتهم… ليس سيرَ الليلِ وحدَه. السُرَى شوارعُ لا تؤنِسُ رَغم أعمارٍ مضت في عَرَصاتِها. وهو مشيٌ بلا وِجهة بديلٌ عن الانتظار. السُرى فِرارٌ من عِقاب خيالي حين تكونين جريمةً لا شهود لها. الاختباء خلف أسوار الحفلة خيْرٌ من الحفلةِ حقيقةً، لأن النَغَم لا يترقرق حتى يخرِق الجدار.

*****

تخطيط: حسين جمعان

وإنّي لَنَجمٌ تهتدي بي صُحْبتي

إذا حالَ من دونِ النجوم سَحاب

مثلاً: قِرشٌ يزْدَرِد أُخطبوطاً حيث المَسيرةُ الاحتجاجية سِربٌ من السَلَمون راجعٌ إلى حيث يفقِس بيضُه في الماءِ الحُلو. مثلاً: أدباءُ يتهادوْنَ مُمْتطينَ درافيلَ مُسرَّجةً، يُنادمونَ فلاسِفةً سَكَارى على ضوء ثُعبانٍ فوسفوري. في القارب المتهالك حِرباءةٌ ظننتُها أليفة. لا تعرف إلا الجوع. ها هي تسْتطعِمُ دمي نبيذاً فوقَ أغصانِ المُرجان. تطلّعي! تحتَ عُبابٍ كَتّانيّ حيتانٌ نائمة، غَطيطُها رَدَى قارّاتٍ من المتديّنين. سُفُنٌ تنوحُ. يُطَقْطِقُ أرخبيل. وبينما القاعُ يتفصّد كائناتٍ أبشعَ من كوابيسِنا، سواحلُ تتخَضخَضُ حيث التيّارُ يحمل مُدمِناً مُتعافياً إلى المَسْبَح. مثلاً: كتيبة من عُجُولِ البحر تَشهَر هِراواتِها إذ تزحف على مَدْرَسةٍ أجنبيّة، حيث في ملعَب كرة السَلّة فريقانِ من أبناء العِزّ يتضارَبان بوحشيّة مُدهِشة. مثلاً: حنين. يرتدّ قلبي سمكةً من أن أجل أن تتشكّل الأفلاك أهراماً وقناطِرَ وسككَ حديد. لأنّ البحر ليس سوى السماء مقلوبةً يا حبيبتي. وفي جسدي العائم ألْفُ مخلوقٍ نبيل.

*****

أمِطْ عنك تشبيهي بما وكأنه

فما أحد فوقي ولا أحد مثلي

وإنّ الدَرْبَ ليس الدَرب والأيامَ لا الأيام. وإنّ عَروضَ هذا الشِعرِ عُكّازٌ.* ولمعتْ صَلْعةٌ كالتَلّ. هَبّ زَفير. لا أعرف منذ متى وأنا أَسري سائِقاً بمُحاذاةِ النّهر ولا طريقَ، فماذا أجلَسَ هذا الشاعرَ المغبونَ جَنْبي؟ متى بدأ حديثَه عن العشيرة؟ الذين يُخبِرونَكَ إنّ الشِعر هواءٌ في أُنوفهم، قال. ومع أني لم ألتقِ أحداً منهم كانوا يَشخَصون أمام عيني أصناماً تحتمائيّة تُصلّي لأصنامٍ أكبرَ حجماً وأقربَ إلى الأعماق. في الغَبَش الأسْفلتيّ رأيتُهم مُشاةً متبالِهين أمتَنِع بصعُوبة عن صَدْمِهم. إنني أعرفهم. أعرف الجالس جنبي شاعِراً وأعرِفُني مثله. قال: أساس قِلاعهم الرمليّة أشلاء جَسَد الشِعر نَثَرتْه أيديهم مُقَطّعاً بعدما نَزَعتْه المطاوي. لهذا هم خاصمونا. وكنتُ وأنا أستدعي الأيام الخوالي لأنفُخ مُنطادَاً من الأحزان أرى السماء خلّابة ومُرحِّبة. ليس الطموحُ سوى بُعدِكِ عني. لكنّ الشاعر المغبون يؤنِسُني والمُنطاد يطفو فأُصفّق وأنا أرتفع أعلى فأعلى فوق رؤوس العشيرة.

*****

عَرَفتُ اللَيالي قَبلَ ما صَنَعَت بِنا

فَلَمّا دَهَتْني لَم تَزِدني بِها عِلما

فكَوْني سائلاً لا يُصيبني بَلَل. وكوني حُزْناً لا أصبو إلى الألوان. الماءُ جَفنٌ لِجَسَدي أُغمَدُ بِلا صوتٍ حيث أَهبِط مستوياً ويائساً وظمآنَ سوادٍ. هل تعلمين أن الجَفن ليس للعين وحدَها؟ عيناي مِنشفة لجسدكِ المرتعش كطائرٍ قَنَصَه غُولٌ سارِحٌ لكنّه لا يموت. إنهما رعشةُ ذلك الطائر تنثُر دَمَاً طازَجاً على خطّ الأُفُق، وهما الضوْءُ يَطفِر لؤلؤاً من جبينك حين انبَلَجْتِ تُجيبينَ أربعةً وأربعين عاماً من الدُعاء. هل تعلمين أن الغِمد أيضاً جَفنُ سيْف؟ كَفّي تعانق الطائر حتى يتأوّد مُلتذّاً بينما فمي على الجُرح يكبَحُ النزيف. وجهي خريطةُ السنين مفروشةً حيث جئتِ: وطؤك أكسجين. ها هو السائل يتجمّدُ سيْفاً يُسَلُّ لطِعان غولٍ آخرَ حيث الماءُ بدلَ الهواء وطعمُك في فمي وأنا أغطِس. مع انطفاء أنوار المَسبَح وأنفاسي تُبَقبِق إلى أعلى أتأكّد: سأموت قبلَكِ. لكنّك عُمرٌ آخرُ يا حبيبتي. وأنت مِثلي من قَبل أن تَعرفي تعرفين.

*****

وإنّ رحيلاً واحداً حالَ بيْننا

وفي الموتِ من بعد الرحيل رحيل

وحملتُه ميّتاً فإذا بي أُضِلّه بيْنَ أهل الربوةِ مِن المُشَيّعين. وكم كرِهتُ عَويلَهم وأنا أتبع أثَرَه. كانت أسفارٌ مُصْفَرّة تُطِلّ من وسْطِ رماد السجاير. كان كثيب. وفي القبو كانت مطْبَعَةٌ أثَريّة على رأسِ عُدّة تغيير العالم. لم يُعِق بحثي أحد من أهل الربوة لكني لمْ أُصدّق صفاقَتَهم. كفّتْ ضحكاتُه فكيف لهم أنْ يواصِلوا العيشَ وإنْ دامَ النحيب؟ كيف للربوة أن توجَد أصلاً! ولقد حملتُ انتحاراً مؤجّلاً وأنا لا أدري. حملتُ وقتاً فاسداً وخِذلاناً كالأساطير. حين لم أجِدْه على شُرْفةِ ذَهَبِيّةٍ متداعيةٍ طَرَقتُها لأذوقَ شاي عشيقَتِه والعَصرُ أَلْماسٌ في عجين المياه، أيقنتُ أنّي بدونه فعلاً. نَعَم لمستُ جَمالَاً زائلاً والعجوز تَحضُنني، وربما لِطَرَبٍ في بكائها سأظل ساكتاً عن الغناء. ذاك الصباح كان نحيفاً لا يكاد يُرى في لَفَّةٍ بيضاءَ على باب جامع. بدا أن الربوةَ تَشهَق من أعماقها. لم أَغفِر. انبثق في صدري مُحيطٌ.

*****

أزورهم وسواد الليل يَشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يُغري بي

أنّ رجُلاً يدخُلُ مقهى وحياتُه تحتَ إِبِطِه قد لا يَخرُجُ نفْسَ الرجل. هذا هو. أنّه قد ينسى حياته فوقَ مائدةٍ نحيلة، أو يخبّئها خلفَ مِخَدَّةٍ على مُتّكإ. هذا ما تعرفينه. على الجانبيْن وجوهٌ مُصمَتَةٌ كأقراصِ جَصّ، عيْني تَسُوخ في سوادِها. بل ويَحدُثُ أنّ رجلاً لا يرُومُ سوى دابل إسبريسو وحديثاً يُبصِرُ حبيبَتَه القديمة إلهةً بيْنَ سحابتين. فجأة هكذا. غيومٌ من الصابون تُحيط بكتِفِها بينما شفتاها الضَيّقتانِ تَرسُمانِ نَفْسَ النَظرة. وقبل أنْ يُدرِك أنّ التجلّي شاشةُ إعلاناتٍ، يَعجَبُ كيف أضحتْ ذكرياتُه مخلوقاتٍ ما ورائيةً على الآفاق. رجلٌ صارتْ حبيبتُه القديمة نَجمةَ تلفزيونَ وهو يقودُ سيّارته الحقيرة وسْط أبواق القوافل. إنّ حياته لم تَعُدْ تَحتَ إبطِه. هذا المهم. في منامات الغرام كنا نتمشّى والضوءُ سادِر، كأنّ الليل يمضِغ الشمسَ فينثُر وَهَجَها رذاذاً. خَطَواتُنا متصلّة. وكان بياضُ وجهِكِ يشُف حتى صرتُ أنظرُ إليكِ فأرى الدنيا كلّها.

*****

وأهدى الطريقيْن التي أتجنَب

كنوعٍ من الترفيه ربّما أو لعلّه علاجٌ نفسيّ. فلولا المياه التي تُراوغ يديه لِتُغرِقَ البلاطَ ولِباسَه لَما هدأ قلبُه لدى انبلاجِ الصُبحِ في الشبابيك. شخصٌ يُغادِرُ حوْضَ المَطبخِ مُبتلّاً فإذا الخَسَاراتُ التي حاقَتْ بعُمرِه كلِماتٌ ذاتُ وقع. وإذا الثرْوَةُ التي خَزَنَها لأولادِه مُعجزاتٌ تَفقِسُ بين غِلافين. حتى لو عَزَفَ عن فِراخِه تُجّارُ الدواجن، ماذا عساه يَصنع بجسدٍ تملأُه الكتاكيت؟ كُلّما غَسَلَ شِحْنَة أكوابٍ تراكَمَ مثلُها على الفور. وفي المرايا ذِكرَياتٌ تصيح. فقط لو لم يَشرُد عن خَطّ سيْر العِير قبل خمسةٍ وعشرين عاماً… لكنّ أعماراً مرّت منذ صحِبَ الوحشَ. ومع أن الملاعِقَ في خاناتها حِذاءَ السكاكينِ وسَطحَ المَوْقِدِ الفِضّي يوحي بالصفاء، ليس ثَمّةَ شكّ. غداً في غيابه، تتشكّل الآنيةُ المُلَطّخة أشجاراً وأزهاراً وفوانيس. ترتدّ طيوراً خرافيّة تنفِض أجنحة لتُحلّق. إنها تافهة من بلاستك، لكنْ لَو تشبّثَ ببراثنها يمكن أنْ يَصِلَ إلى السماء السابعة.


الكتاب يصدر هذا الشهر في القاهرة

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.