وَردةُ الجنـــرال
في الوقتِ المواربِ مِن آخرِ النهار، والشّارعُ مقفرّ، لَسَعَتْني ريحُ الشّمالِ خارجاً مِن مبنى السّجن. رفعتُ ياقةَ معطفي نازلاً درَجاتِ البَوّابَةِ الخارجيَّة، التفَتُّ إلى المَبنى المتطاولِ خلفي، وفي اللّحظَة، أضاءَتْ مصابيحُ أسوارِه، تخيّلتُه وراءها يودِّعُني مِن زنزانتِه بنظرَةٍ مُستحيلة، واستويتُ ماشياً على الرَّصيف.
سِرْتُ يديّ في جيبي، أتذكّرُ عَشاءً عائليًّا دعاني إليه في ليلةٍ بعيدة من عامِ 1981، كان لا يزالُ ضابطاً في الجيش، حينما أخرجَ أمامنا مِن الدّولابِ رصاصةً معَ سلاحِه الناريِّ المفضَّل، جائزةَ تخرّجه مِن الأكاديميَّة العسكريَّة، وأقسَمَ، ناظراً نحوَ صغيرَتِه، بأنّه لَنْ يطلقَ منه طلْقة، إلّا احتفالاً بأوّلِ حفيد.
كانت الصَّغيرةُ آنذاك في العاشرةِ من عمرِها، والضّابطُ، الذي سيغدو جنرالاً، كان صديقي.
في الزِّنزانةِ سلَّمتهُ خلسةً أنبوبةً بلاستيكيَّةً بحجمِ الأصبع، تحْوَي خصلَ شعرٍ كستنائيَّة تلفُّ الرَّصاصةَ الذهبيَّة نفسَها التي رَفَعَها أمامَنا قبلَ ثلاثين عاماً، لكن ليسَ ليُطْلِقَها، بل ليحتفظَ بها ويحملَها معَه الليلةَ إلى لاهاي. كان إحضارُها إليهِ طلبَ لقاءٍ أخيرٍ لَبَّيْتُهُ لَه، ولمْ تكُن أقصى أمانيه.
عصرَ أمس، توقَّفَتْ أربع عرباتِ لاند روفر أمْنَيَّةٌ عندَ مقبرةِ ضواحي بلغراد، وترجّلَ الجنرالُ مِن سيارةِ نقلٍ مُصفَّحَة كان الموكبُ يُطوّقها، سبعينيٌّ مُقيّدُ اليَدَيْن، يجرُّ خُطاهُ مثل ليثٍ كهلٍ وجريح بَينَ حرّاسٍ مسلَّحين نحو ضريحٍ من الجرانيت الأسوَد. سَمَحَ لَهُ الحَرسُ بالجُثِوِّ عندَ القبرِ حيث وَضَعَ على سطحِه المُمَرَّدِ جوريةً بيضاء، وأشعلَ بِيَدَيْه المُكَبَّلَتَين شمعةً أسفلَ الشّاهدِ المنقوش: 1971-1994. كان صديقي يحقِّقُ أمنيةً أخيرة.
وَدَّعْتُهُ للتَوِّ وأنا أُخفي عنهُ أنّي سَـأَتْركهُ مُتَوَجّهاً مباشرةً إلى البلدةِ القديمة، لرؤيةِ شخصٍ لم يلتقِ به، ويبادِله الضَّغينة. انطويتُ داخلَ سيّارتي المَركونة، ونفحةُ ريحٍ باردة تنثرُ أعوادَ الصّنوبرِ المتساقطةَ على الرّصيف.
***
هَبَطَ الليلُ على البلدةِ القديمة وأعمدةُ النورِ بالكادِ تُضيءُ السِّكَكَ الضَّيِّقَة. وها هُوَ يجلسُ أَمامي في المقهى المفتوحِ على المَمْشى، رجلٌ تجاوزَ الأربعين بعامٍ أو عامَيْن، بُنْيَتُهُ رياضيّة وبشرَتُه لوَّحَتْها الشّمس، تشردُ نظرَتُه بظلالِ العُشّاقِ السّائرين بينَ عَمَدِ الإنارةِ الخافِتة، وَعَيْناهُ تَتَرَقْرَقانِ بالأسى.
أَيَلْمَحُ الآن طَيْفِها إذْ سارَ مَعَها هُنا يوماً؟
مَصابيحُ المَقهى الواهِنَةُ لُؤلؤيّةٌ صَفراء، ورائحةُ شواءِ اللّحمِ وفوحِ البيرةِ الفائرةِ تَسْرِيان في الجوِّ مِن مَطاعِم مُجاوِرَةٍ مَعَ غِناءِ موسِيقيّين مُتَجَوِّلين. وافَقَ الرّجلُ أخيراً عَلى رؤيتي هُنا في البلدةِ القديمة، حيث يَغدو العالمُ ليلاً مأسوراً بالوداعةِ والسّلام. كانَ مُتَوجِّساً مِن مُلاقاتي، وَلَسْتُ أَلومه. لَم يطمئنّ إلِيّ، حتّى أَقْسَمْتُ لَهُ البارحةَ عبرَ الهاتف، بِشَرَفِ مِهنَتي كَطَبيب، وَبِحُبِّه لَها، وحبِّها لَه، أَلّن يَمسَّه سوءٌ مَن جانِبي. ولَمّا أبدى تَرَدُّداً رَجَوْتُه: “لِأَجْلِها”. فَوَثَقَ بي. وَأَتى.
أحاديثُ مُرتادي المَقْهى تَنْحَسِرُ حيناً فَتُسْفِرُ عَن عَزْفٍ عَلى البُزُقِ وَالكورديون مِن ناصيةِ السِّكَّة، وَرغم عُذوبَةِ السِّلامِ الظّاهِرِيّ حَوْلنا، كانَ الصَّمتُ بَيْننا صاخِباً، وَمُثْقَلاً بِأَحْداثٍ نوشِكُ عَلى استعادَتِها. شَكَرتُ ثِقَتَهُ وَعناءَ مَجيئِه، ثُمَّ سَكَتُّ مَجَدَّداً. كانَ لا يزالُ شارداً بِأزواجِ الظِّلالِ السّائِرةِ عَلى المَمْشى، تَميلُ رُؤوسُها إِلى بَعْضِها، لَمّا سَحَبْتهُ مَن حُلمِ يَقَظَةٍ أَبحَرَ فَيهِ بَعيداً:
“ما الذي حَدَثَ في موسكو؟”.
استفاقَ مِن حُلمِهِ راجِعاً إليَّ بنظرةٍ تزيغ:
“… استدْعاؤها يُؤلِمُني”.
“مَضى 17 عاماً”.
“نشيخُ ولا تبهتُ المأساة “.
“قَدَرُ ابنُ آدم التَّحاملُ عَلى الألم”.
أَطْلَقَ ناظِرَيْهِ في المَمْشى ثانيةً، وَارْتَدَّ إليّ:
“ما الذي تَعْرِفُه؟”.
“كُنتُما ضِمْنَ بِعْثَةٍ طلابيَّةٍ إلى مؤتمرٍ طِبِّيّ، لا أَكَثَر”.
“كيفَ لِمَلاكٍ مثلها أَنْ تَأْتِيَ مِن وَحْشٍ مثله؟”.
تساؤله نمَّ عن ضَغينَة. حاوَلتُ استِدْرارَ شَفَقَتِه:
“إنَّهُ اليومَ عجوزٌ ومَريض، يَبيتُ ليلته سَجيناً في لاهاي”.
“تَقادُمُ الزَّمَنِ لا يُسْقِطُ الجَريمة”.
” مَصيرُه لَمْ يَعُدْ بَأَيْدينا، هُو بِيَدِ العالَمِ الآن”.
فَواصِلُ صَمْتِنا قَصيرة، تَتَخَلَّلُها وَصلاتُ عَزْفٍ تتناهى من أَوْتارِ البُزُقِ يُصاحِبُه الكورديون الحزين.
“أَلا يَقْتَضي وُجودُ العَدالَةِ أَنْ يَقْدِمَ هُو عَلى ما أَقْدَمَتْ عَليْهِ هِيَ؟”.
لم أملكْ إجابةً رجوتُ أن يزوّدني بها.
“أريدُ معرفةَ ذلكَ مِنك؛ لمَ فَعَلَتْها؟”.
أجابَ متردّداً:
“لأنَّها تُحِبُّه!”.
لَحْنُ الكورديون يطفو شَجِيّاً مِن بعيد. أَكْمَل:
“… كَأَشَدّ ما تُحِبّ فتاةٌ أباها. كانَت طفلةً تركضُ إليهِ لمّا يعودُ مساءً ببزَّتِهِ العسكريَّة، تحتضنُ ساقَيْه، فَيَرْفَعُها إلِيْه، إلى عَيْنَيْن تُوارِيانِ قَسْوةً لَمْ تَرَها منه إطْلاقاً. هكذا نَشَأَتْ إلى أنْ نَشَبَتِ الحَرب، فَصارَ يَقْتَنِصُ أوْقاتَ عَودَتِهِ مِن الخُطوطِ الأَمامِيَّةِ إلى بلغراد، يَقْضِيَ ليلةً تَجْمَعُهما بِبَقَيَّةِ أُسْرَتِهِ الصَّغيرة: أمّها وأخيها”.
أَصْغَيْتُ إليْه، رغم عِلمي، بِحُكْمِ صَداقتي المُقرّبةِ بالجنرال، بأكثَرِ ما رَواهُ لي عَن عِلاقَتِها بِأبيها. لكنّي تريّثتُ، كابحاً نَفْسي عَن مُقاطَعَتِه، لَعَلَّ أُموراً تَتَكَشَّفُ لي، مُتَحَيِّناً بُلوغَه نقْطَةً أَصْبو إليْها.
“كانتْ فخورةً به. تَتَحَّدَثُ عَنْهُ على نَحْوٍ أُسطورِيّ، وَلَمْ تَكُن الوَحيدةَ في ذلك. كانَ الجنرالُ فتنةَ شَعْبٍ بِأًكْمَلِه. أَلَمْ يكُن البطلَ الذي لَم يَجْنِ ثَرْوَةً مِنَ الحربِ كَرِفاقِه مِن الجنرالات، المتفاني الذي لَمْ يُعاقرْ الخَمْرَ في خَيْمَتِهِ ليلاً أوْ يُبدّد المالَ على النِّساءِ بَعيداً عَنْ خَطِّ النّار؟ أَما كانَ القائدَ الذي يخوضُ الوحلَ زحفاً معَ رجالِه إلى المَعركة، مُتمرِّغاً بالطّين مثلهم؟ أَوَلَمْ يَعْبدوهُ لِأَجْلِ ذلك؟”.
التَقَطَ أنفاسَه، أو ربَّما كان يستعيدُ ما كانت تَرْويهِ لَهُ عَن أبيها. نَظراتُهُ لَمْ تَزَل مُترّددةً عَلى الظِّلالِ السّائِرةِ في المَمشى. “كنتُ…” تَلَعْثَمَ قليلاً. سَيْطَرَ عَلى انفعالِه وَأَتَمّ:
“كنتُ.. أَقْسو بِجَفْوةِ رَدّي عليْها. لا يَجْرحُ فتاةً مثل النَّيلِ مِن والدٍ يَحنو عليها؛ هُو مِن ذلك النَّوعِ مِن الآباء، وَهِي المُغيَّبةُ تَماماً عمَّا تَقْتَرِفُه يَداه. الصَّحافةُ الصِّربيَّةُ آنذاك كانت تنقلُ جانباً واحِداً مِن الصّورة. شِبهُ الحقيقةِ في زمنِ الحربِ أسوأُ مِن طمسِها كلِّها.
في غُرْفَتِها بَفندُقِ موسكو فَتَحْتُ التِّلِفِزيون، وَأَشَرْتُ إلى الشّاشة. كانت نَشْرةُ الأخبارِ تَعرِضُ آثارَ قصْفِ السّوقِ القَديمِ في سراييفو المُحاصَرَةِ بِقُوّاتِ أَبيها: أشلاءٌ مُتناثرة عَلى أرضٍ تغمرها الدِّماء، رجالٌ يكدِّسون جُثَثاً في عَرَبَة نَقْلٍ مَكْشوفة، شيْخٌ يجهشُ في نوْبةٍ هَسْتيريَّة فَيَحْتَضِنه آخر، امرأةٌ تبْكي، رجلٌ يرفعُ ساقاً مَبْتورة، أُناسٌ يَفِرّون مَن السّوق، جَرحى يتوافدونَ إلى مستشفى مُتهالِكٍ تَعُمُّه الفَوْضى.
أَمَسَكْتُ بَكَتِفَيْها، اعتَصَرْتُهما بِقَبْضَتَيّ ناظراً في عَيْنَيْها، كانَتا تَعِكِسانِ المَجْزرة، والهَلَعُ يطلُّ مِنْهُما. تَماَلَكْتُ نَفسي. اصطَنَعْتُ هُدوءًا أُداري بِهِ غَيْظي: أَتَحْسبينَ تَفانيهِ يَجعلهُ أفضَل مِن رفاقِه؟ قَتَلةٌ مَسعورون كلُّهم وأبوكِ أسوأهم، يَداه الغاطِستان في نهرِ الدَّم، لّن يطهِّرَهُما شَطْفُهما بِكلِّ ماءِ البَحر.
ظَلَّتْ ساكِتَة. شَدَدْتُ عَلى كَتِفَيْها أَكْثَر: أَخْبِريني، أَتَقِفينَ في صفِّه؟ لَمْ تَهْمِسْ بِحَرْف. عَيْناها مُتحَجِّرَتانِ تُحَدِّقانِ بِالشّاشَةِ خَلْفي. أَفْلتُّها: لا مُستقبل يَجْمعُنا، حتّى تواجِهيه!”.
كانت عَيْناهُ تَذْرُفان.
“أَشَحْتُ عَنها. وتَركْتُ الغُرفة.
وَحيدةً ظَلَّتْ مَعَ مَشاهِدِ المَذْبَحَة”.
***
قدْتُ سَيّارتي مُغادرًا البَلْدَةَ القَديمة. من خلال زجاج المركبة الأمامي، لَمَحْتُ طائِرةً تَعْبرُ سَماءَ الليل. بَدَتْ صَغيرةً جِدّاً وَضَئيلة، كانت تومِضُ مثل نَجْمَةٍ بَعيدة. تَبدو المدينةُ وادِعةً للنّاظرِ إليْها ليلاً مِن السَّماء. أكانتْ تَقِلُّ الجنرالَ إلى لاهاي؟ أَتُراهُ عَلى مَتْنِها، يَطِلُّ مِنْها، مُوَدِّعاً بلغراد بَنَظرةٍ أَخيرة؟
أَعْرِفُ أنّهُ لَن يَنسى، سَيَتَذَكَّرُها أَبَداً، تَلْكَ الليلَة المُريعَة مِن ليالي 1994. لَعَلَّ أَحْداثها تَتَراءى لَهُ الآنَ وَهُوَ يَنظرُ إلى المَدينةِ مِن الأَعْلى. مِسكينٌ أنتَ يا صَديقي، سَتَحْمِلُ وجَعَ ذِكرياتكَ لِتُرافقَكَ خَلْفَ القُضْبان، وَتَغْزُو منامَكَ بالرُّؤى والجَواثيم.
لازِلْتُ أَتَذَكَّرُ اتِّصالَكَ حينَ أَيْقَظَني في جَوْفِ اللَّيل. كانَ تَماسُكُ صَوْتِكَ مُصْطَنَعاً، لَمسْتُ مِنهُ رَجْفَةً لَمْ تَخْفَ عَليّ. أَخْبَرْتَني بِعَوْدَتِكِ لِتَوِّكَ إِلى المَدينة، قادِماً منَ الجَبهة، وَطَلبتَ مَجيئي إليْكَ حالاً في المَشرحة. وَقُبيلَ الفَجر، دَخلْتُ عَلَيْك غُرْفةَ التَّشْريح، وَوَجَدْتُكَ مُنْتَصِباً تَحْتَ الضَّوءِ السّاطِعِ عَلى الجَسَدِ المُسَجّى، والغِطاءُ الأبيضُ يَشفُّ جهةَ الرّأسِ عَن لطخَةٍ حَمراء.
كَيفَ حافَظتَ على تَوازُنِك؟ كانَت ملامِحُك قِناعاً جامِدَ التّعابيرِ والدَّمعُ يَجري عَليه، لَمْ تُبدِ بادِرةَ أسى، لَوْلا للرَّجالِ دُموعٌ خائِنة.
طَلَبْتَ مِنّي بِنَبرَةٍ لا عَجْز فيها:
“إنَّها مَلاكي. عامِلْها بِرِفْقٍ أَرجوك. فِإذا أخرجْتَ من رأسِها الرَّصاصة، احتفِظْ لي بِها مَعَ خصلاتٍ مِن شَعْرِها”.
كانَ ذلكَ قبلَ 17 عاماً، فَوْرَ عَوْدَةِ الفَتاةِ مِن موسكو.
***
السّاعَةُ تَقْتَرِبُ مِن العاشِرةِ مَساءً. بَلَغْتُ المَقبرةَ آتياً مِن البلَدةِ القَديمة. سَمَحَ لِيَ الحارِسُ بِدُخولِها شَرْطَ أَن تكونَ الزِّيارةَ خاطِفة. في ساحَةِ المَدافِنِ سِرتُ، والضَّوْءُ الواهِنُ مِن السّورِ يَنوسُ عَلى القَبورِ وَلا يُبَدِّدُ عتمَةً تَغشاها.
أَتَجاوَزُ الأَضْرِحَة، وَأَرْفَعُ ناظِريّ إلى السَّماء؛ لا أَثَر لِطائِرةٍ تَقُلّكَ أَيَّها الجنرال، وَحْدها النُّجومُ هُناك. أَتَساءَلُ ما إذا عاوَدَتْكَ أَمْسَ ذِكْرَياتُكَ لَمّا أَتيْتَ هُنا، أَرَنَّ في أُذُنيْكَ اتِّصالُ ابنِكَ لَيلاً مِن بلغراد؟ اسْتَرْجَعْتَ فَزَعاً طارَ بِكَ رَأساً كالمَجنونِ إلى الغابةِ القريبةِ مِن بيتِك؟ اسْتَعَدْتَ هَوْلَ المَنْظَر، شَلَلَكَ المُؤقّتَ حين رأيتَ ملاكَك طَريحةً في الظِّلامِ بينَ أشجارِ الدُّلب، مُنكَبّةً على وجْهِها وسط بِركةٍ مِن دَمّ، يَسحُّ على نتوءات الجُذور؟
كيفَ لمْ يُفقِدكَ المَشهدُ عقلَك؟
لمْ أجرؤْ على سؤالِكَ طوالَ تلكَ السِّنين: أهذا حقّاً ما أَلَمَّ بِك؟ أَفْقَدَتْكَ الفَجيعةُ صَوابَك، فَأوْغَلْتَ بالقَتل؟ أكُنتَ تُشبعُ رَغبةً بِالانتقامِ مِن فَقْدِها، يَومَ أَمَرْتَ بِقتلِ ثمانيةَ آلافِ فتىً ورجل، واغتِصابِ نِسائهنّ على مدى عَشرة ِأيّام، بينَ سفوحِ الجِبالِ في سربرنيتشا؟
لن تنسى اسمها أبداً، سربرنيتشا، تلكَ البلدة الآمنة الصَّغيرة قَصَمتْ ظَهرَك في النهاية، مذبَحَتُكَ فيها ألَّبَتْ عليكَ العالَمَ، حّرَّضّتْهُ على غاراتٍ جَويَّةٍ قوَّضَتْ قُدرات جُندِك.
وماذا بَعد؟ خَسرتَ معركتَكَ أيُّها الجنرال.
ولكنّ هزيمَتكَ الحَقيقيّة كانت أقسى من ذلك وأقرب، لمْ تكن في القرى النّائيةِ وبين الجِبال، بل تَغورُ كالنَّصلِ عميقاً في داخلِك؛ خسارتكَ الكُبرى كانت طَعَنَةً نافذةً مِن فتاتِك الأحَبّ إلى قلبِك، لَيلةَ اختلَستْ مِن الخزانةِ مُسَدسَّكَ الأثيرِ معَ الرَّصاصة، وتسلَّلَتْ إلى الغابة، لِترْمي رأسَها بِطلقةٍ دوَّتْ في الظلَّام.
أكانَ لا بُدَّ مِنْ ذلِك؟
لَوْلا حَطَّمَتْ المسكينةُ قلبَكَ، لَوْلا فَجَّرْتْ ثوْرتَكَ المَجنونةَ في سربرنيتشا، أكانَ العالَمُ سيتَحرَّك لإغلاقِ صَنابير الدَّمِ التي فَتَحْتَها عَلى آخرِها؟
حّلَّ السَّلامُ أَخيراً يا صَديقي. فَتاتُكَ هزمَتْكَ أيُّها الجنرال.
ها أنا ذا عندَ ضريحِها، أقِفُ حيث ركعتَ أمس على ركُبتَيْك. الشَّمعةُ التي أشعَلْتَها انطفأَتْ، وجوريَّتُكَ البيضاءُ المستلقيةُ على الجرانيت الأسوَد، لمْ تَذبلْ بعد فوقَ السّطحِ المُمرَّد، يعكسُ أَلَقَ النّجوم، ومِن خلالِه أكادُ أراها في رقدَتِها الأبدَيَّة، محفوفةً بالجَلال.
ثمّة ظلٌّ في العتمة يتخطّى الأضرحةَ نحوي؛ هو الحارس.
سأجثو. وأنحني عَلى الضَّرَيح.