يتحدث عن الموت كأنه أول الموتى
الشاعر والمبدعُ عمومًا هو صاحب مشروع بالدرجة الأولى، خصوصيّة هذا المشروع هي في قول ما لم يُقَل بعد، عدا عن ذلك يصبح نشرةَ أخبار لا أكثر، وخصوصيّة الشاعر لا تكمن في نقل المشاعر والانفعالات وما يحيط بها، لنتّفق على أنّ الشاعر الجيّد هو ليس شاعر مناسبات، وإن أجاد في بعضها، إلّا أن الشعر الحقيقي هو الذي يأتي بعد التراكم المعرفي وتخمّر الحدث ليخرج بشكلٍ إبداعيّ، بالتأكيد على الشاعر أن يأخذ موقفًا واضحًا وصريحًا يترجمه في تصريحاته وعمله، وفي نتاجه الإبداعي وقصيدته على ألّا تعامَل القصيدة باستسهال، فيدين جريمةً ويرتكب أخرى بحقّ الشعر.
بعد تجربة شخصيّة تمثّلت في ثلاث مجموعات شعريّة كتبت خلال المحرقة السوريّة صدرت أوّلها عام 2014 بعنوان “سيرًا على الأحلام” والثانيّة والثالثّة قيد الطباعة حاليًّا إحداهما شعر محكي والثانية فصحى، عنوانهما “لابس تياب السفر” و”لم ينتبه أحدٌ لموتِك”، وهنا يمكننا ببساطة من خلال العناوين الثلاثة متابعة سيرورة الحالة الشعريّة التي اشتغلتُ عليها بالتوازي مع سيرورة المأساة السوريّة الحاصلة الآن، والتي بدأت كحلمٍ جميل لنا، ولا أعرف إن كنّا نستطيع القول إن هذا الحلم تمّ إجهاضه.
ما أريد قوله، يتلخّص بإيماني العميق بقدرة الشعر على التأثير وخلق الشعور لدى المتلقّي، بل ونقله من حالة إلى حالة من خلال تكثيفٍ لغويٍّ، مشهديٍّ، سينمائيٍّ، سرديٍّ، حواريٍّ، موسيقيٍّ. إلّا أنّ هذا الشعر لا يجب أن يكون انفعاليًّا لا يقدّم للحدث أكثر ممّا تقدّمه الدموع أو المشاعر الآنيّة، لذلك أرى في التسمية الألمانيّة خيرًا من التسمية العربيّة والإنكليزيّة، الشاعر في الألمانيّة “Dichter” كلمةٌ تعني المكثّف، وهذا بالضرورة هو نتاج الحالة الشعريّة التي بدأت بكلامٍ موزونٍ ومقفّى ثم دخلت عليه الحكمة والقول المأثور والفلسفة وتقنيّات السرد، وآخر ما وصل إليه اليوم هو التكثيف، القدرة على التكثيف هي الأساس اليوم، وهذا يحتاج وقتًا أكثر ممّا تحتاجه الكتابة الانفعاليّة، لذلك أرى أنّ القضايا الحسّاسة وخاصّة التي نمرّ بها اليوم تتطلّب منّا أن نكونَ كتّابًا أكثر ممّا نكون شعراءً، وأن ننشر في الصحف والمواقع وفي كلّ منبر، ونخرج بمواقف مباشرة وواضحة، وأن نكتب ونوثّق ونشرح، وبلغاتٍ عدّة أيضًا.
على الشاعر أن يتحدّث عن الموت كأنّه أوّل الموتى، وعن الحياةِ كأنّه الحيّ الوحيد، وعن التفاصيل التي لا تراها الكاميرا، والألوان التي لا تعرفها الريشة، والصوت الذي لم تلجأ إليه الموسيقى بعد، عن الأثر لا عن الحدث، عن الزمن لا عن اللحظة، عن الضمير كقيمة لا كردّة فعل، الشعرُ الذي لا يخلّد القضيّة يقتلها.
الشاعرُ هو الأنثى التي تكتبُ التاريخ والتي إلى الآن لم توجدْ بعد، ليراه بعينٍ أخرى، التاريخ بكلمته الإنكليزية “History” والمشتقّة من “His Story” أيّ قصّتهُ/روايتهُ، لا يكفي. علينا أن نكون “Her Story” أيضًا، أي قصّتها/روايتها، لنرى ما لم يُرَ.
لا أعرف إن كان على الشاعر أن يكون اللاعب الأوّل أو الأخير في هذه اللعبة شعريًا، أعتقد أنّه يمكن أن يكون رأس حربة، ومدافعًا، وحارسَ مرمى، ومعلّقًا أيضًا، بأدوارٍ عدّة تتمثّل بالكاتب والمثقّف والمحاضر والصحافيّ، إلّا أنّني أرى أنّ عليه إذا أرادَ أن يدخل اللعبة كشاعر، فعليه أن يكون حكمًا.