يمكنك الآن العودة إلى النوم
في غرفة شاغرة
دخان السجائر من وقت لآخر.
في التلفزيون، بطل كرتوني خارق على هيئة شطيرة. في الزاوية دبّ بنيّ في وضعية النطق. لا ينطق.
هواء يتبدّل من وقت لآخر. مع حشرات. بلا حشرات. أزيز المدينة الدائم.
كنبة لشخص أو اثنين. كنبة لشخصين أو ثلاثة. كنبة لثلاثة أو أربعة.
الكثير من الوسائد. الكثير من الكتب. الكثير من الصور. ضوء لا ينتهي. عتمة لا تنتهي.
رنين ضحكة من الأسبوع الماضي.
بحر يصل إلى مستوى الخصر. سمكة حمراء في علبة.
سماء جمعتها عيوننا دفعة واحدة.
صحراء جمعتها أحذيتنا على دفعات.
آثار أقدامنا ونحن نبحث عن بعضنا.
أم كلثوم
تقفين فوق أطلالنا الشاسعة. هنا، حيث صارت الغصون حجارة. والعيون زجاجاً أسود.
حيث نجلس ونلعب بعظام الحيوانات النافقة.
شيء ما، لا نجد له اسماً، غادر حياتنا قبل زمن بعيد، صار شيخاً في جبل، في كهف منسيّ. لكننا لا نعرف ذلك بعد.
تطلين على خرائبنا. صوتك كوكب مهجور. آهاتك حيوان جريح في الليل. كلّ شيء يكرّر نفسه. الماء بحدّ ذاته تكرار أخير، ولا نهائي. تولدين في صوتك، بين كل هذه التضاريس الشاقة؛ الماء في المغسلة وأنت تنظرين لبرهة إلى يدك وتخشين الغرق. الماء في المرآة؛ وجهك صخرة؛ تتعلقين إلى الأبد بحبال صوتك. الألم موّال. الأذية أغنية. الشوق طفل جائع يرضع من روحك حليب الأسى.
جميع أيامنا
دائماً تفوتني رؤية شيء ما؛
فجوات. مساحات شاغرة. مخطّطة بوجودها السابق. مثلث برمودا بين العينين والدماغ
بين الزمن والذاكرة؛ يبتلع كلّ شيء.
كفي يلمس جداراً. أصلي لكي يبقى أثر ما؛ أيّ أثر.
الأرض تنجرف تحت قدميّ كنهر من الحصى.
هل سيحفظ وجهكِ هذه اللمسة؟
هل ستحفظ يداك نظراتي الضائعة التي رحت تصطادينها كالفراشات في فضاء الغرفة؟
في النهاية، لن يكون هناك أحد. فقط أنت وأنا.
بملعقة واحدة، نطعم بعضنا جميع أيامنا.
قبل الانفجار بثانيتين
كانت السماء تنظر
بعينين واسعتين
وفم مفتوح
كان الطفل يركض
وأمه تناديه
أولاً بعينيها
ثم بصوتها
ثم بقلبها
ثم…
كانت السماء تنظر
بعينين مغمضتين
وفم مطبق.
تدخل إلى غرفة
تدخل إلى غرفة رطبة ومكتظة
كغرف التدخين في المطارات،
تصافح بحرارة جميع الموجودين،
(بعضهم تعرفه كثيراً أو قليلاً وبعضهم تراه للمرة الأولى)
ثم تجلس على أقرب كرسي،
تضع يداً فوق يد،
أو رجلاً على رجل،
أو بكل بساطة تدخن
وتشرب القهوة المرة
ومن وقت لآخر تقرأ الفاتحة وتمسح وجهك بكفيك
متبادلاً مع الآخرين الإيماءات
والابتسامات المرة أيضاً
مستمعاً إليهم بكل اهتمام
وهم يخبرونك
كم كنتَ شخصاً رائعاً.
المنام
تجد نفسك بين مجموعة بشر يتحدثون مع بعضهم بلغات غريبة. تقول: صباح الخير، فيضحك الجميع. تقول: مساء الخير، فينقلب الجميع على ظهورهم من الضحك. تشير لهم إلى عصفور على غصن شجرة، فتنهمر دموعهم، يبدأ العصفور بالغناء فيغرق بعضهم بالنواح بينما يقفز الآخرون في الهواء من شدة الألم.
أخيراً، يهمس أحدهم في أذنك: أرأيت ما فيه الكفاية؟
تهزّ رأسك.
يقول: يمكنك إذن العودة إلى النوم.
آلة التخمين
لن تعرف عندما حجر ينزاح قليلاً، قليلاً جداً، في جدار، مثلما تنتقل فكرة في رأس،
أو عندما يخفق قلب أسرع أو أبطأ بقليل،
بمقدار ارتعاشة شجرة على وقع ريح في بلد آخر.
تبقى، معظم الوقت، مع آلة التخمين،
حتى عندما لا يبقى أيّ سؤال، في أعمق نقطة من الليل مثلاً،
عندما الليل يتحرك -لا يتحرك- كغيوم فوق الأبراج،
رأسك الصغير يقف ثابتاً،
مع انحرافة بسيطة،
ناظراً إلى نقطة غير مرئية
في سماء الغرفة.
الصبي الذي كتبوا رقما على جبينه
وكيف تُمكن كتابة قصيدة
أو أيّ شيء
عن الصبي
الذي كتبوا رقماً على جبينه؟
صوت القذائف
حين القذائف تنفجر حولنا
نغمض عيوننا
مرة وإلى الأبد
لأننا ما زلنا نذكر
ما حدث للجدران الأخرى
التي أبقت عيونها مفتوحة.
الذهاب إلى نهاية مكان
السيارة تمضي مسرعة على الطريق الرملية بين الكرسيّ والمنضدة.
السماء تغمرنا بصمتها الاعتيادي بينما ضباب حليبي يتسرب من بين الأشجار.
متى نصل؟
كيف نقرأ كل هذه العلامات؛
أيدينا التي تحفر الأودية.
عيوننا التي تنهض بالجبال.
اللمسات الممحوة وتلك الباقية.
ظلال الأبنية على الجدران.
بحيرات الدموع. محيطات الأسى.
الحب بأصابعه الخمسة
وأرواحه التسعة.
الأهم من هذا كله:
ماذا لو كنا، منذ البداية، نسير بعكس اتجاه الغرفة؟
حيز بسيط
لستُ سوى الحيز البسيط من الكنبة، عندما الكنبة تجد حيزاً بسيطاً من الوقت لتفكر في نفسها.
تمرّ بي المصائر الكبرى، والمشاعر الكبرى، والأفكار والكلمات الكبرى مرور شعاع عابر على نافذة.
لا شيء يمكث في قلبي أكثر من مكوث ملعقة في كوب أو فراشة على كتف.
لا أريد من النهار سوى أقله؛ ألا يطيل التحديق بي. ولا أريد من الليل إلا أصغره؛ ألا يترك آثار مخالبه على وجهي.
لست سوى الحيز البسيط الذي لا يشغل أكثر مما تشغله قبلة بين عاشقين أو نظرة بين غريبين في الشارع. أنهض وأمشي، أدخل وأخرج، أصحو وأنام، مثل رجل وجد نفسه فجأة في ثياب رجل آخر.
ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟
علينا أولاً أن نتعلم لفظ أسمائنا. ثم أن نتعلم الصلة المقدسة بين تلك الأسماء وبيننا. ثم أن نقدّر قيمة اللحظة: صيحات الاستهجان حين لا نلفظها جيداً. صيحات الاستحسان حين نلفظها جيداً. ثم أن نتعلم كتابتها كاملة، ولو بفارق حرف أو حرفين، على الألواح والأوراق. ثم أن نتعلم كيف نتذكر أسماء الأشقاء، الأنسباء، المعلمين، الأصدقاء، الأعداء، الأيام، الشهور، الكواكب، الشوارع، العواصم، الأنبياء، الأبطال، الشهداء، السفاحين، النجوم…
… وبعد أن نتعلم كل شيء، ونطمئن أخيراً إلى مكاننا في العالم، نبدأ، عكسياً، بنسيان كل الأسماء، منذ آخر بائع جوال، إلى أول رفيق لعب، حتى يتحول اسمنا الشخصي فقاعة صغيرة تخرج واهنة مع آخر حرف، مع حلم بسيط فقط بألا نكون الآن هنا، أو في الطريق إلى هناك، وذكرى غامضة لتلك الدهشة الرائعة يوم أفلحنا، بمحض المصادفة، في لفظ أسمائنا الكاملة.
النصائح
تجد نفسك غارقاً في سلسلة نصائح غريبة: كيف تعقد ربطة العنق بثلاث خطوات. كيف ترتّب الأشياء في الثلاجة. أسرع طريقة للتخلص من الزكام. أفضل طريقة للتخلص من الذباب. كيف تكتشف أسرار الموبايل. كيف يجب أن تصحو. كيف يجب أن تنام. مقدار الضوء الضروري لمنع الكوابيس. كيف تنسق ستائر المنزل. كيف ترضي زوجتك. كيف تتعامل مع ابنك المراهق. أفضل وقت للتسوق، للسفر، للقفز في الهواء. أسرع ريجيم. أفضل طريقة لصنع الستيك. للحمل. لمنع الحمل. أكثر طريقة مضمونة لاستخلاص الروح الحقيقية للخضار الطازجة.
تتشكل النصائح بقعة كبيرة حولك، بينما تقف عارياً تماماً أمام مرآة الحمام، مفكّراً في أفضل، وأسرع، وأقوى، وأبسط، وأكثر طريقة مضمونة تخرج بها إلى العالم.
دراما
1. 1. كلبٌ يقف قبالتك ويحملق بك طويلاً، وفجأة يفتح فمه ويصرخ في وجهك.
الحياة مليئة بالغضب.
2. كلبٌ يقف قبالتك ويحملق بك طويلاً، كأنه يريد أن يقول شيئاً، لكنه لا يقول شيئاً، فقط يهز رأسه ويواصل طريقه.
الحياة مليئة بالأسف.
3. كلبٌ يقف قبالتك ويحملق بك طويلاً، بمزيج من الحزن والأمل وخيبة الأمل، لكنك فجأة تفتح فمك وتنبح في وجهه.
الحياة مليئة بالمفاجآت.
4. 4. كلبٌ يقف قبالتك ويحملق بك طويلاً، ثم يقترب منك ويحفّ رأسه بقدميك.
الحياة مليئة بالحب.
5. كلبٌ يقف قبالتك ويحملق بك بصمت، لأنه حزين، وعاجز عن النطق، وستموت وسيموت الكلب ولن تعرف سرّ حزنه في تلك اللحظة.
الحياة ابنة كلب.
الصمت
الصمت، بلا مكان، يوجع.
ليس من قفص ولا حوض أسماك لنحتويه.
نقول إذن: الصمت المشحون بذاته، ثم نبحث عبثاً عمّا يملأ الفراغ.
علينا أن ننظر طويلاً وعميقاً، على مستوى العينين، إلى ما نستطيع أن نمنحه اسماً: طريقٌ مخطط بعلامات ملونة وتحذيرات واضحة. ضبابٌ يصنع لوحة إرشادية للعميان. بابٌ. لوحٌ زجاجي في الباب. ذبابة على اللوح. امرأة. رجل. سرير. صمت.
يجب أن ننظر جيداً. كل ما لا نراه نلمسه، كالقلب، لنتأكد من أنه موجود، ولو مؤقتاً.
بلا حيلة نحن، نراكم نفايات أنفسنا، حطام العالم، حولنا، حتى يستحيل شكلاً مجرداً أو مجرد شكل، غير قابل للشفاء.
في العمق، نعرف جميعاً أن الصمت، هو الآخر، مجرد صمت.