يوسف‭ ‬والبحر

الجمعة 2016/04/01
لوحة: ريم يسوف

بانتظار‭ ‬البلم

وأخيراً‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬النقطة‭ ‬التي‭ ‬سيركب‭ ‬بها‭ ‬البحر،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬المناورات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬القطيع‭ ‬الذي‭ ‬يقوده‭ ‬ليلاً‭ ‬مهربون‭ ‬قساة‭ ‬الوجوه‭ ‬والقسمات،‭ ‬داخل‭ ‬مدينة‭ ‬أزمير‭ ‬التركية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬خارجها،‭ ‬محشور‭ ‬وجمع‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭ ‬داخل‭ ‬حافلة‭ ‬صغيرة،‭ ‬حتى‭ ‬ظن‭ ‬أنه‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬المخطوفين‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬بوليسي‭.‬

كان‭ ‬الوقت‭ ‬نهار‭ ‬والجوّ‭ ‬بارد‭ ‬ومتبلد‭ ‬بالغيوم،‭ ‬وكان‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬متبلد‭ ‬الأحاسيس،‭ ‬تتناهبه‭ ‬مشاعر‭ ‬متناقضة،‭ ‬فرح‭ ‬بالوصول‭ ‬وخوف‭ ‬من‭ ‬المغامرة،‭ ‬مغامرة‭ ‬غير‭ ‬عادية،‭ ‬بل‭ ‬جنونية‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يصفها‭ ‬لنفسه،‭ ‬إذ‭ ‬كيف‭ ‬سيركب‭ ‬البحر‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬خاض‭ ‬في‭ ‬مياه‭ ‬نهر،‭ ‬سباحة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬سباحة،‭ ‬حتى‭ ‬مياه‭ ‬نهر‭ ‬جقجق‭ ‬الصغير‭ ‬الذي‭ ‬يقسم‭ ‬مدينته‭ ‬النائية،‭ ‬كان‭ ‬يكتفي‭ ‬في‭ ‬صباه‭ ‬بمشاهدة‭ ‬رفاقه‭ ‬وهم‭ ‬يخوضون‭ ‬مياه‭ ‬هذا‭ ‬النهير‭ ‬طولاً‭ ‬وعرضاً،‭ ‬بحسرة‭ ‬وخجل،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتورّع‭ ‬على‭ ‬مجاراتهم‭ ‬ولو‭ ‬بالسباحة‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬الحافة‭.‬

هي‭ ‬لحظة‭ ‬استثنائية‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬لم‭ ‬يصادف‭ ‬مثلها‭ ‬طوال‭ ‬عمره‭ ‬الذي‭ ‬بلغ‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يحلو‭ ‬له‭ ‬القول‭ ‬حين‭ ‬يحدد‭ ‬عمره‭. ‬ويردف‭: ‬لقد‭ ‬هرمنا‭.‬

ما‭ ‬إن‭ ‬وقف‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬بحر‭ ‬إيجه‭ ‬بانتظار‭ ‬المركب‭ ‬المطاطي،‭ ‬ذي‭ ‬المحرك‭ ‬الصغير،‭ ‬والذي‭ ‬يُطلق‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬البلم،‭ ‬ليقله‭ ‬ومجموعة‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭ ‬إلى‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬شاطئ‭ ‬البحر،‭ ‬حيث‭ ‬جزيرة‭ ‬ميليت‭ ‬اليونانية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تلوح‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬مكانه‭ ‬حيث‭ ‬يقف؛‭ ‬سجادة‭ ‬حائلة‭ ‬اللون‭ ‬ممدودة‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬البحر،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬ووقف‭ ‬غير‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬الشاطئ؛‭ ‬حتى‭ ‬هاله‭ ‬منظر‭ ‬هذا‭ ‬المدّ‭ ‬الأزرق‭ ‬الذي‭ ‬يفصل‭ ‬بين‭ ‬الشاطئين،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له،‭ ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬منطقة‭ ‬معروفة‭ ‬بأراضيها‭ ‬السهلية‭ ‬المنبسطة،‭ ‬ونهيرها‭ ‬الممسوخ‭ ‬إلى‭ ‬ساقية‭ ‬للمياه‭ ‬الآسنة‭ ‬بفعل‭ ‬جنية‭ ‬السياسة،‭ ‬أن‭ ‬شاهد‭ ‬مياهاً‭ ‬بهذه‭ ‬الوفرة،‭ ‬بالعين‭ ‬المجردة‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الصور‭ ‬وشاشات‭ ‬التلفزيون‭.‬

‮ ‬كانت‭ ‬الجهات‭ ‬المترامية‭ ‬أمامه،‭ ‬وبدءاً‭ ‬من‭ ‬نهاية‭ ‬الأفق‭ ‬وحتى‭ ‬موطئ‭ ‬قدميه،‭ ‬سماء‭ ‬مقلوبة،‭ ‬وبساط‭ ‬مياه‭ ‬زرقاء،‭ ‬تزين‭ ‬سطحها‭ ‬طيات‭ ‬وفقاقيع‭ ‬وأمواج‭ ‬صغيرة،‭ ‬ينبعث‭ ‬منه‭ ‬صوت‭ ‬غريب،‭ ‬عميق‭ ‬وغامض‭. ‬انتابه‭ ‬الذهول،‭ ‬وأحسَّ‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الحكايات‭ ‬والأساطير،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬الآن‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬واقعياً،‭ ‬وحارَ‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عمّا‭ ‬يجيش‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬وهو‭ ‬أمام‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬العظيم،‭ ‬الجديد‭ ‬عليه‭ ‬تماماً‭.‬

يذكر‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬صورة‭ ‬للبحر‭ ‬شاهدها‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬قراءة‭ ‬لصف‭ ‬ابتدائي،‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬ثمة‭ ‬جنود‭ ‬وبحر‭ ‬وسفن‭ ‬تحترق‭ ‬خلف‭ ‬فارس‭ ‬يُشهر‭ ‬سيفاً‭ ‬وقد‭ ‬فتح‭ ‬فمه‭ ‬بغضب،‭ ‬لم‭ ‬يثبت‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الدرس‭ ‬سوى‭ ‬صورة‭ ‬الفارس‭ ‬وعبارة‭: ‬العدو‭ ‬من‭ ‬أمامكم‭ ‬والبحر‭ ‬من‭ ‬خلفكم‭.. ‬فأين‭ ‬المفر؟‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يرددها،‭ ‬ومنذ‭ ‬الصغر،‭ ‬وكلما‭ ‬وقعت‭ ‬عيناه‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬للبحر‭. ‬كرّر‭ ‬الكلمة‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬وثالثة،‭ ‬ثم‭ ‬راح‭ ‬يعيد‭ ‬صياغتها‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف‭: ‬العدو‭ ‬من‭ ‬ورائكم‭ ‬والبحر‭ ‬من‭ ‬أمامكم‭ ‬ولا‭ ‬مفر‭ ‬لكم‭ ‬سوى‭ ‬الهرب‭. ‬أعجبته‭ ‬الجملة،‭ ‬فراح‭ ‬يردد‭ ‬في‭ ‬سرّه‭ ‬بانتشاء‭:‬

الجماعات‭ ‬المسلحة‭ ‬من‭ ‬ورائكم‭ ‬والبحر‭ ‬من‭ ‬أمامكم‭ ‬ولا‭ ‬مفر‭ ‬لكم‭ ‬سوى‭ ‬البلم‭.‬

الموت‭ ‬من‭ ‬ورائكم‭ ‬والبحر‭ ‬من‭ ‬أمامكم‭ ‬ولا‭ ‬مفر‭ ‬لكم‭ ‬إلا‭ ‬الهجرة‭.‬

البراميل‭ ‬المنفجرة‭ ‬من‭ ‬فوقكم‭ ‬والبحر‭ ‬من‭ ‬أمامكم‭. ‬ولا‭ ‬مفر‭ ‬لكم‭ ‬سوى‭ ‬إلى‭ ‬ألمانيا‭.‬

فرعون‭ ‬من‭ ‬ورائكم‭ ‬والبحر‭ ‬من‭ ‬أمامكم‭.. ‬ولا‭ ‬مفر‭ ‬لكم‭ ‬سوى‭ ‬إلى‭ ‬ماما‭ ‬ميركل‭.‬

وتناسلت‭ ‬العبارات‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬حتى‭ ‬جاءه‭ ‬صوت‭ ‬من‭ ‬داخله‭ ‬آمراً‭: ‬كفى‭.‬

فصمت،‭ ‬ودام‭ ‬صمته‭ ‬للحظات،‭ ‬نهضت‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مخيلته‭ ‬مشاهد‭ ‬لمراكب‭ ‬مطاطية‭ ‬تحمل‭ ‬لاجئين‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأجناس‭ ‬والأعمار،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬البحر،‭ ‬وأخرى‭ ‬لحظة‭ ‬انقلابها‭ ‬وقد‭ ‬انتثرت‭ ‬حولها‭ ‬أجساد‭ ‬ترتدي‭ ‬سترات‭ ‬إنقاذ،‭ ‬أجساد‭ ‬صغيرة‭ ‬وكبيرة،‭ ‬نحيفة‭ ‬وسمينة،‭ ‬ووجوه‭ ‬انطبع‭ ‬عليها‭ ‬تعبير‭ ‬واحد‭: ‬الهلع‭.‬

وقفزت‭ ‬إلى‭ ‬مخيّلته‭ ‬صورة‭ ‬الطفل‭ ‬إيلان،‭ ‬التي‭ ‬ملأت‭ ‬صحف‭ ‬الدنيا‭ ‬وشغلت‭ ‬أوروبا،‭ ‬وفيها‭ ‬يظهر‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭ ‬وقد‭ ‬أسند‭ ‬رأسه‭ ‬إلى‭ ‬رمل‭ ‬الشاطئ‭ ‬وأدار‭ ‬ظهره‭ ‬للعالم،‭ ‬واستحضر‭ ‬تلك‭ ‬الضجة‭ ‬التي‭ ‬أثارتها‭ ‬تلك‭ ‬الصورة،‭ ‬فسرت‭ ‬في‭ ‬أوصاله‭ ‬رعدة‭ ‬راحت‭ ‬تكبر‭ ‬وهي‭ ‬تتدحرج‭ ‬في‭ ‬داخله،‭ ‬وتخيّل‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬وهو‭ ‬ملقى‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ ‬وحوله‭ ‬صحافيون‭ ‬يلتقطون‭ ‬له‭ ‬صوراً‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الزوايا،‭ ‬فنهضت‭ ‬أمامه‭ ‬صورة‭ ‬منفّرة‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬للطفل‭ ‬الغريق‭ ‬في‭ ‬القنوات‭ ‬الفضائية،‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬برز‭ ‬شكل‭ ‬مؤخرته‭ ‬بحجمها‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬أفسد‭ ‬شاعرية‭ ‬الصورة‭ ‬المتخيلة،‭ ‬والتي‭ ‬ستقلب‭ ‬التعاطف‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬سخرية،‭ ‬وخاصة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أبناء‭ ‬حيّه،‭ ‬هذا‭ ‬الحي‭ ‬الشعبي‭ ‬المشهود‭ ‬لأهله،‭ ‬رغم‭ ‬الفقر‭ ‬الذي‭ ‬وسم‭ ‬حياتهم‭ ‬بميسه‭ ‬الناري،‭ ‬وشقاوة‭ ‬أبنائه،‭ ‬بروح‭ ‬السخرية‭ ‬اللاذعة،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه،‭ ‬وهو‭ ‬يستحضر‭ ‬تعليقاتهم‭ ‬الساخرة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يتخيل‭ ‬مؤخرته‭ ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬مادة‭ ‬للإبداع،‭ ‬مثل‭ ‬لوحة‭ ‬المؤخرة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬لإظهارها‭ ‬فتحة‭ ‬الشرج‭ ‬مغطاة‭ ‬بخيوط‭ ‬العنكبوت‭ ‬أثرها‭ ‬المدهش‭ ‬على‭ ‬تلقي‭ ‬الجمهور‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬أقيم‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬غربي‭ ‬حسب‭ ‬خبر‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قرأه‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬محلية،‭ ‬وتساءل‭ ‬في‭ ‬داخله‭: ‬من‭ ‬يدري؟‭ ‬إنه‭ ‬عالم‭ ‬مجنون،‭ ‬فمن‭ ‬كان‭ ‬يتخيل‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬بلدي‭ ‬الآمن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬له‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬قتل‭ ‬وتمثيل‭ ‬بالجثث‭ ‬وتدمير‭ ‬مدن‭ ‬و‭.. ‬باسم‭ ‬الربيع؟


لوحة: ريم يسوف

كتم‭ ‬ضحكة‭ ‬ساخرة‭ ‬وهو‭ ‬يتابع‭ ‬المشهد‭ ‬الناهض‭ ‬في‭ ‬خياله‭: ‬جمع‭ ‬من‭ ‬الصحافيين‭ ‬يتسابقون‭ ‬لالتقاط‭ ‬الصور‭ ‬لمؤخرته،‭ ‬الصور‭ ‬منشورة‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬الصفحات‭ ‬الأولى‭ ‬لكبريات‭ ‬الصحف‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬بل‭ ‬وعلى‭ ‬الشاشات‭ ‬الفضية‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وأناس‭ ‬يحملقون‭ ‬فيها‭ ‬مندهشين،‭ ‬متعاطفين‭ ‬ومُعجبين،‭ ‬رسام‭ ‬مشهور‭ ‬منهمك‭ ‬في‭ ‬رسمها‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬سريالية‭ ‬أو‭ ‬واقعية‭.. ‬أو‭ ‬جدارية‭.. ‬وتساءل‭ ‬بفضول‭: ‬لكن‭ ‬بماذا‭ ‬سيُعنْون‭ ‬اللّوحة؟

نقَل‭ ‬نظراته‭ ‬إلى‭ ‬مؤخرات‭ ‬اللاجئين‭: ‬النساء‭ ‬والرجال‭ ‬وحتى‭ ‬الأطفال،‭ ‬وأخذ‭ ‬يجري‭ ‬مقارنة‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬مؤخرته‭: ‬هذه‭ ‬كبيرة‭ ‬وتلك‭ ‬صغيرة‭ ‬وأمّا‭ ‬تلك‭ ‬فمدورة‭ ‬وثقيلة‭..‬

ودفعه‭ ‬الفضول‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬أصحاب‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬منها،‭ ‬فنقل‭ ‬نظره‭ ‬إلى‭ ‬وجوههم،‭ ‬وراح‭ ‬يتأملها‭ ‬واحدا‭ ‬واحدا‭: ‬وجوه‭ ‬كالحة‭ ‬وأخرى‭ ‬مستبشرة‭ ‬وغيرها‭ ‬حائرة‭.. ‬وتدفقت‭ ‬الأسئلة‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬وهو‭ ‬يتغلغل‭ ‬في‭ ‬دواخلهم‭: ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬الشابة‭ ‬بماذا‭ ‬تفكر؟‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬دفعها‭ ‬لركوب‭ ‬البحر‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬ضعيفة‭ ‬البنية‭ ‬لا‭ ‬تجيد‭ ‬السباحة،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أنها‭ ‬سمعت‭ ‬بالقصص‭ ‬التي‭ ‬تروى‭ ‬عن‭ ‬غرق‭ ‬اللاجئين‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬ماذا‭ ‬ستفعل‭ ‬واحدة‭ ‬مثلها‭ ‬في‭ ‬ألمانيا؟‭ ‬هل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الأمان‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬الوحيد‭ ‬يا‭ ‬ترى؟

وهذا‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يقبض‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬وَلَده‭ ‬وإلى‭ ‬جانبه‭ ‬تجلس‭ ‬امرأته‭.. ‬ألا‭ ‬يخشى‭ ‬من‭ ‬الغرق‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬لعائلة‭ ‬إيلان،‭ ‬ابن‭ ‬مدينة‭ ‬كوباني‭ ‬السورية؟‭ ‬وماذا‭ ‬لو‭ ‬تكررت‭ ‬تلك‭ ‬المأساة‭ ‬معه‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬أم‭ ‬إنه‭ ‬يظن‭ ‬نفسه‭ ‬استثناءً؟‭ ‬وإن‭ ‬عزرائيل‭ ‬سيكون‭ ‬رحيماً‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬وأن‭ ‬الموت‭ ‬لا‭ ‬يكرر‭ ‬نفسه،‭ ‬مثل‭ ‬التاريخ،‭ ‬كما‭ ‬يكرر‭ ‬صديقه‭ ‬التقدمي‭ ‬بمناسبة‭ ‬ودون‭ ‬مناسبة‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬مُذ‭ ‬بدأ‭ ‬هذا‭ ‬الربيع‭ ‬الدامي‭.‬

نهض‭ ‬أمام‭ ‬عينيه‭ ‬مشهد‭ ‬الزوجين‭ ‬وهما‭ ‬يتحاوران‭ ‬بعصبية‭ ‬في‭ ‬بيتهما،‭ ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬تبكي‭ ‬فيه‭ ‬وهي‭ ‬تضم‭ ‬ولدها‭ ‬إليها‭ ‬بقوة‭ ‬والرجل‭ ‬يحاول‭ ‬إقناعها،‭ ‬ثم‭ ‬وجد‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬وهو‭ ‬يضع‭ ‬ثمن‭ ‬بيته‭ ‬الذي‭ ‬باعه‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬مهرب‭ ‬له‭ ‬شكل‭ ‬مخيف‭: ‬وجه‭ ‬ذئب‭ ‬وجسم‭ ‬إنسان‭. ‬وهذه‭ ‬المرأة‭ ‬العجوز‭.. ‬يا‭ ‬إلهي،‭ ‬تساءل‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬باستغراب‭ ‬وهو‭ ‬يتأمل‭ ‬عجوزاً‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬تسير‭ ‬بتثاقل‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ ‬ثم‭ ‬تجلس‭ ‬قرب‭ ‬البحر‭ ‬وهي‭ ‬تتأمل‭ ‬هذا‭ ‬المدَّ‭ ‬الشاسع‭ ‬من‭ ‬الأزرق‭ ‬المخيف،‭ ‬دقق‭ ‬النظرَ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حركاتها‭ ‬المتثاقلة‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬دفعك‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المغامرة‭ ‬يا‭ ‬جدة،‭ ‬ماذا‭ ‬ستفعلين‭ ‬هناك؛‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الغربة،‭ ‬وكم‭ ‬بقي‭ ‬لك‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬كي‭ ‬تبحثي‭ ‬عن‭ ‬الراحة‭ ‬والسعادة؟‭ ‬وتذكّر‭ ‬أن‭ ‬العجائز‭ ‬مثلها‭ ‬كنَّ‭ ‬حين‭ ‬يسافرن‭ ‬خارج‭ ‬الوطن‭ ‬أيام‭ ‬زمان،‭ ‬بل‭ ‬خارج‭ ‬مدنهم،‭ ‬كان‭ ‬الحجّ‭ ‬هو‭ ‬قبلتهن‭ ‬الوحيدة،‭ ‬وهذه‭ ‬العجوز،‭ ‬هل‭ ‬تظن‭ ‬نفسها‭ ‬ذاهبة‭ ‬إلى‭ ‬الحجّ،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬أولادها‭ ‬الذين‭ ‬هاجروا‭ ‬قبلها‭ ‬قد‭ ‬أرسلوا‭ ‬في‭ ‬طلبها‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬بكائها‭ ‬المتواصل‭ ‬على‭ ‬السكايب،‭ ‬ومن‭ ‬تقريع‭ ‬الناس،‭ ‬وكاد‭ ‬يطلق‭ ‬ضحكة‭ ‬عالية‭ ‬وهو‭ ‬يبني‭ ‬مشهد‭ ‬العجوز‭ ‬وهي‭ ‬تتحدث‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭ ‬النقال‭ ‬والسكايب‭ ‬بفمها‭ ‬الأدرد‭.‬

ووجد‭ ‬نفسه‭ ‬ينسلّ‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬ممّن‭ ‬حوله‭ ‬وهو‭ ‬يتكهن‭: ‬هذه‭ ‬هربت‭ ‬من‭ ‬الجوع‭ ‬ولسان‭ ‬حالها‭ ‬يقول‭: ‬الجوع‭ ‬كافر،‭ ‬وذاك‭ ‬من‭ ‬القذائف‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تهطل‭ ‬على‭ ‬حيه‭ ‬كحبات‭ ‬البرد،‭ ‬وتلك‭ ‬للحاق‭ ‬بأهلها‭ ‬أو‭ ‬حسداً‭ ‬من‭ ‬جاراتها‭ ‬اللواتي‭ ‬وصلن‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬ماما‭ ‬ميركل‭.. ‬وهؤلاء‭ ‬الشبان‭ ‬الذين‭ ‬ينفثون‭ ‬الدخان‭ ‬من‭ ‬سجائر‭ ‬مختلفة‭ ‬الأنواع،‭ ‬ويتبادلون‭ ‬الأحاديث‭ ‬القصيرة،‭ ‬ويتجوّلون‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬بقلق،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أنهم‭ ‬هربوا‭ ‬من‭ ‬الجندية‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الجماعات‭ ‬المسلحة‭ ‬والموت‭ ‬المجاني،‭ ‬مثله‭ ‬تماماً،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬بينهم‭ ‬من‭ ‬شارك‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬المظاهرات‭ ‬الأولى،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أشبه‭ ‬بأعراس‭ ‬الحرية،‭ ‬وحين‭ ‬راحت‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬تنصب‭ ‬له‭ ‬الفخاخ‭ ‬كي‭ ‬تصطاده‭.. ‬هرب‭ ‬بجلده‭. ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬صور‭ ‬رفاق‭ ‬وأصدقاء‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬الفيسبوك‭ ‬هي‭ ‬السبب،‭ ‬صور‭ ‬اعتاد‭ ‬شباب‭ ‬وصلوا‭ ‬للتو‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬على‭ ‬التقاطها‭ ‬أمام‭ ‬الكامب‭ ‬وفي‭ ‬المخيمات‭ ‬والكتابة‭ ‬تحتها‭: ‬لقد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬ألمانيا،‭ ‬باركوا‭ ‬لي‭ ‬يا‭ ‬شباب‭ ‬لقد‭ ‬وصلت،‭ ‬وأخيراً‭ ‬وصلنا‭.. ‬عبارات‭ ‬وجمل‭ ‬وصور‭ ‬التقطت‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬وزوايا‭ ‬مختلفة،‭ ‬تفعل‭ ‬فعلها‭ ‬المثير‭ ‬للحماس‭ ‬والغيرة‭ ‬لدى‭ ‬غالبية‭ ‬الشباب،‭ ‬بل‭ ‬والفتيات‭ ‬والنساء‭ ‬أيضاً‭.‬

وقفزت‭ ‬إلى‭ ‬سطح‭ ‬ذاكرته‭ ‬صور‭ ‬أمه‭ ‬وأختيه‭ ‬اللواتي‭ ‬تركهن‭ ‬خلفه‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الغربة،‭ ‬في‭ ‬الجارة‭ ‬تركيا،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬مدينته‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬تخوم‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬أهل‭ ‬ولا‭ ‬أصدقاء‭ ‬أوفياء،‭ ‬فانقبض‭ ‬قلبه،‭ ‬وازداد‭ ‬انقباضاً‭ ‬حين‭ ‬تخيل‭ ‬مصيرهما‭ ‬لو‭ ‬انقلب‭ ‬هذا‭ ‬البلم‭ ‬وسط‭ ‬البحر‭ ‬وغرق‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬غرق‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬اللاجئين؟

نهض‭ ‬أمامه‭ ‬مشهد‭ ‬الغرق‭ ‬بكامل‭ ‬رعبه،‭ ‬كائنات‭ ‬لها‭ ‬وجوه‭ ‬صفراء‭ ‬وعيون‭ ‬كبيرة‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬اتساعها‭ ‬وأفواه‭ ‬كبيرة‭ ‬تنبعث‭ ‬منها‭ ‬حشرجات‭ ‬وصيحات‭ ‬استغاثة‭.. ‬وأجساد‭ ‬تتقافز‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬اتجاه،‭ ‬وأذرع‭ ‬تمتد‭ ‬وتُلوّح‭ ‬وتقبض‭ ‬على‭ ‬بعضها‭ ‬بعضاً‭ ‬ثم‭ ‬تختفي‭ ‬فجأة‭ ‬وتغوص‭ ‬في‭ ‬الأعماق،‭ ‬ليظهر‭ ‬بعضها‭ ‬ويختفي‭ ‬بعضها‭ ‬الآخر‭ ‬بعد‭ ‬لحظات،‭ ‬وقد‭ ‬انطبع‭ ‬على‭ ‬الوجوه‭ ‬المطلة‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬المياه‭ ‬تعبير‭ ‬رعب‭ ‬مخيف‭.. ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬غرق‭ ‬سفينة‭ ‬التيتانيك‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬حمل‭ ‬اسم‭ ‬السفينة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مشاهد‭ ‬غرق‭ ‬أبناء‭ ‬بلده‭ ‬على‭ ‬الشاشات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وعلى‭ ‬صفحات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ورأى‭ ‬نفسه‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬المشهد،‭ ‬ليس‭ ‬كجاك‭ ‬في‭ ‬الفيلم‭ ‬وهو‭ ‬يموت‭ ‬بشهامة‭ ‬وبطولة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إنقاذ‭ ‬حبيبته‭ ‬روز،‭ ‬بل‭ ‬ككائن‭ ‬مرعوب‭ ‬يضرب‭ ‬المياه‭ ‬بكفيه‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬الإمساك‭ ‬بأيّ‭ ‬شيء،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬قشة‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المثل،‭ ‬ثم‭ ‬وهو‭ ‬يبتلع‭ ‬المياه‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يعثر‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬القشة،‭ ‬ويهبط‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل‭ ‬ويستقرّ‭ ‬جسده‭ ‬في‭ ‬قعر‭ ‬البحر،‭ ‬وتجتمع‭ ‬حوله‭ ‬الأسماك‭ ‬وهي‭ ‬فاتحة‭ ‬أفواهها؛‭ ‬أسماك‭ ‬كبيرة‭ ‬وصغيرة‭ ‬شبيهة‭ ‬بتلك‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يشاهدها‭ ‬مرصوفة‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الخضار‭ ‬في‭ ‬مدينته،‭ ‬وقد‭ ‬غُطّت‭ ‬بقطع‭ ‬الثلج‭ ‬منعاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يصيبها‭ ‬الفساد‭ ‬والتفسخ‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الحرّ‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬مدينته،‭ ‬فكان‭ ‬لا‭ ‬يلتفت‭ ‬نحوها،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يحسن‭ ‬تناول‭ ‬لحمها‭ ‬وتجريده‭ ‬من‭ ‬الحسك‭ ‬بعناية‭ ‬فائقة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يطيق‭ ‬صبراً‭ ‬على‭ ‬فعله،‭ ‬لأنه‭ ‬شخص‭ ‬يزدرد‭ ‬الطعام‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬من‭ ‬طحنه‭ ‬جيداً‭ ‬في‭ ‬فمه،‭ ‬ولقد‭ ‬أساءت‭ ‬إليه‭ ‬هذه‭ ‬العادة‭ ‬كثيراً،‭ ‬وفي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مناسبة‭ ‬أو‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬الطعام‭. ‬وتمنى‭ ‬على‭ ‬الأسماك‭ ‬أن‭ ‬تذكر‭ ‬له‭ ‬هذا‭ ‬الصنيع‭ ‬ولا‭ ‬تلتهمه،‭ ‬وخشي‭ ‬إن‭ ‬هي‭ ‬التهمته،‭ ‬تصبح‭ ‬يوماً‭ ‬طعاماً‭ ‬لأمه‭ ‬وأختيه،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يصطادها‭ ‬أحدهم‭ ‬ويحملها‭ ‬إلى‭ ‬بلده،‭ ‬وأحس‭ ‬بنفسه‭ ‬داخل‭ ‬فم‭ ‬أمه‭ ‬أو‭ ‬أختيه،‭ ‬يمضغن‭ ‬لحمه‭ ‬مع‭ ‬لحم‭ ‬السمك‭ ‬بتمهل‭ ‬ولذة،‭ ‬ثم‭ ‬يبدأن‭ ‬بعد‭ ‬شرب‭ ‬الشاي‭ ‬بلطم‭ ‬أنفسهن‭ ‬وهن‭ ‬يتمنين‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬جسده‭ ‬الذي‭ ‬غرق‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬وقد‭ ‬تتقيأ‭ ‬الأم‭ ‬ما‭ ‬تناولته‭ ‬مباشرة،‭ ‬فمعدة‭ ‬الأم‭ ‬أيضاً،‭ ‬مثل‭ ‬قلبها،‭ ‬دليلها،‭ ‬وتخيل‭ ‬النسوة‭ ‬من‭ ‬الجارات‭ ‬اللواتي‭ ‬سيحطن‭ ‬بأمه‭ ‬وأختيه‭ ‬وهن‭ ‬يشاركنهنْ‭ ‬البكاء،‭ ‬لا‭ ‬حزناً‭ ‬عليه،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬عزيز‭ ‬فقدنه‭.. ‬وتساءل‭ ‬بقلب‭ ‬منقبض‭ ‬عمّن‭ ‬سيقوم‭ ‬بواجب‭ ‬العزاء‭ ‬من‭ ‬الرجال،‭ ‬وخدمة‭ ‬المعزّين‭ ‬تحت‭ ‬الخيمة‭ ‬التي‭ ‬ستُنصب‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬فيقدم‭ ‬للمعزين‭ ‬القهوة‭ ‬والماء‭. ‬فخاله‭ ‬الوحيد‭ ‬رجل‭ ‬عجوز‭ ‬وأولاده‭ ‬أيضاً‭ ‬غادروا‭ ‬البلد،‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬أوروبا‭ ‬وماما‭ ‬ميركل،‭ ‬وأولاد‭ ‬عمته‭ ‬مازالوا‭ ‬صغاراً،‭ ‬وأحسَّ‭ ‬بقلبه‭ ‬يعتصر‭ ‬حين‭ ‬تجسدت‭ ‬خيمة‭ ‬العزاء‭ ‬أمام‭ ‬ناظريه‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬المعزين‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الجيران،‭ ‬ثم‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بدفنه‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬وكأنه‭ ‬حيوان‭ ‬أجرب‭ ‬دون‭ ‬نصب‭ ‬خيمة‭ ‬صغيرة،‭ ‬إذ‭ ‬قلما‭ ‬يحظى‭ ‬موت‭ ‬فقير‭ ‬بمجلس‭ ‬عزاء‭ ‬تحت‭ ‬خيمة‭ ‬كبيرة‭ ‬وغير‭ ‬مهلهلة،‭ ‬وإذا‭ ‬حدث‭ ‬واستدان‭ ‬أهله‭ ‬تكاليف‭ ‬العزاء،‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬سيكون‭ ‬كحفلة‭ ‬زواج‭ ‬الفقير‭ ‬ناد‭ ‬وسط‭ ‬البلد؛‭ ‬مثار‭ ‬سخرية‭ ‬المعزين‭ ‬كما‭ ‬المهنئين،‭ ‬همز‭ ‬ولمز‭ ‬وتعليقات‭ ‬الجميع‭ ‬وهم‭ ‬يغادرون‭ ‬المكان‭: ‬الحفل‭ ‬وخيمة‭ ‬العزاء،‭ ‬وكاد‭ ‬يبكي‭ ‬حظه‭ ‬العاثر‭ ‬لولا‭ ‬صوت‭ ‬قوي‭ ‬انبعث‭ ‬من‭ ‬خلفه‭:‬


لوحة: ريم يسوف

‭ ‬•‭ ‬اهرب‭ ‬يا‭ ‬حمار،‭ ‬الأمن‭ ‬التركي‭ ‬سيعتقلك‭.. ‬اهرب‭ ‬بسرعة‭.‬

نزع‭ ‬نظراته‭ ‬وروحه‭ ‬من‭ ‬مشهد‭ ‬العزاء‭ ‬المتخيل،‭ ‬وراح‭ ‬يمسح‭ ‬بهما‭ ‬المكان‭ ‬المحيط‭ ‬به،‭ ‬فشاهد‭ ‬عناصر‭ ‬من‭ ‬دورية‭ ‬الأمن‭ ‬التركي‭ ‬وهي‭ ‬تقبض‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬اللاجئين‭ ‬وتلاحق‭ ‬الفارين‭ ‬منهم‭.‬

وقبل‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬بحركة‭ ‬ويطلق‭ ‬ساقيه‭ ‬للريح،‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شاب،‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬أسير‭ ‬قبضات‭ ‬قوية‭ ‬راحت‭ ‬تجره‭ ‬نحو‭ ‬سيارة‭ ‬كبيرة‭ ‬وتدفعه‭ ‬إلى‭ ‬جوفها،‭ ‬ليشاهد‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬أفراد‭ ‬المجموعة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭.‬

حين‭ ‬انطلقت‭ ‬السيارة‭ ‬بهم،‭ ‬وابتعدت‭ ‬عن‭ ‬الشاطئ،‭ ‬داخله‭ ‬شعور‭ ‬سار‭ ‬وهو‭ ‬يشيَّع‭ ‬البحر‭ ‬الذي‭ ‬راح‭ ‬ينأى‭ ‬عنه‭ ‬بنظرات‭ ‬الارتياح،‭ ‬شعور‭ ‬راح‭ ‬يمازج‭ ‬مشاعر‭ ‬وأحاسيس‭ ‬أخرى‭ ‬مختلفة،‭ ‬همس‭ ‬صوت‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬أذنه‭ ‬مطمئناً،‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬وجد‭ ‬وجهه‭ ‬سماء‭ ‬لغيوم‭ ‬متلبدة‭:‬

‭ ‬•‭ ‬لا‭ ‬تخش‭ ‬شيئاَ،‭ ‬سنعاود‭ ‬الكرة‭ ‬غداً،‭ ‬فالأمن‭ ‬التركي‭ ‬لن‭ ‬يحتفظ‭ ‬بنا‭ ‬سوى‭ ‬لساعات‭.‬

لم‭ ‬تنقشع‭ ‬الغيوم‭ ‬عن‭ ‬سماء‭ ‬روحه،‭ ‬وازداد‭ ‬وجهه‭ ‬تجهماً‭ ‬وهو‭ ‬يشاهد‭ ‬تلك‭ ‬الأسماك،‭ ‬الصغيرة‭ ‬والكبيرة،‭ ‬تعاود‭ ‬نهش‭ ‬جسده‭ ‬المسجّى‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬البحر،‭ ‬قطعة‭ ‬قطعة‭.‬

في‭ ‬فجر‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني،‭ ‬وبينما‭ ‬الليل‭ ‬يحزم‭ ‬حقائبه‭ ‬ويهم‭ ‬بمغادرة‭ ‬السماء،‭ ‬إيذاناً‭ ‬بقدوم‭ ‬الصباح‭ ‬الذي‭ ‬سيمسح‭ ‬عن‭ ‬الأشياء‭ ‬ما‭ ‬علق‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬سواد،‭ ‬مصحوباً‭ ‬بنسائم‭ ‬الخريف‭ ‬الرخية،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬فيها،‭ ‬الآن،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتحدّث‭ ‬عنه‭ ‬الشعراء‭ ‬والعشاق‭: ‬أمواج‭ ‬بحر‭ ‬ونسائم‭ ‬رخية‭ ‬وصباح‭ ‬يتنفس‭.. ‬بل‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬جمع‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬هذا‭ ‬القارب‭ ‬المطاطي‭ ‬المعروف‭ ‬باسم‭ ‬البلم‭ ‬وهو‭ ‬يترنح‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬مياه‭ ‬البحر‭ ‬كسكّير،‭ ‬لم‭ ‬يصدق‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬فيه‭ ‬الآن‭ ‬حقيقة‭ ‬واقعة‭ ‬وليس‭ ‬حلماً‭ ‬أو‭ ‬كابوساً‭.‬

بدأ‭ ‬الأمر‭ ‬حين‭ ‬أمرهم‭ ‬المهرّب‭ ‬بالنزول‭ ‬إلى‭ ‬البلم،‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يرفع‭ ‬صوته‭ ‬بالرفض‭ ‬لمخالفة‭ ‬المهرب‭ ‬شروط‭ ‬الاتفاق‭ ‬الذي‭ ‬ينص‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يتجاوز‭ ‬عدد‭ ‬الركاب‭ ‬أربعين‭ ‬شخصاً،‭ ‬والإبحار‭ ‬أثناء‭ ‬طلوع‭ ‬الصبح‭ ‬لا‭ ‬قبيل‭ ‬الفجر،‭ ‬لضمان‭ ‬إمكانية‭ ‬رؤيتهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬خفر‭ ‬السواحل‭ ‬لو‭ ‬حدث‭ ‬لهم‭ ‬ما‭ ‬يخشى‭ ‬حدوثه،‭ ‬ولتهدأ‭ ‬الأمواج‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬أكثر‭ ‬هياجاً‭ ‬أثناء‭ ‬الليل،‭ ‬ولكنّه‭ ‬تردد،‭ ‬ولم‭ ‬يرفع‭ ‬صوته‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬سمع‭ ‬أصوات‭ ‬بعض‭ ‬الشباب‭ ‬المحتج،‭ ‬فمزج‭ ‬صوته‭ ‬في‭ ‬أصواتهم‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مفهومة،‭ ‬وصمت‭ ‬حين‭ ‬صمت‭ ‬الجميع‭ ‬أمام‭ ‬زجر‭ ‬مسلحين‭ ‬كانوا‭ ‬برفقة‭ ‬المهرب،‭ ‬وتلويحهم‭ ‬بالمسدسات،‭ ‬واستسلم‭ ‬مثل‭ ‬الجميع‭ ‬لدفعه‭ ‬إلى‭ ‬وسط‭ ‬البلم‭ ‬كالأغنام‭. ‬عَلَت‭ ‬الأصوات‭ ‬بالتذمر‭ ‬حين‭ ‬غادر‭ ‬المركب‭ ‬المطاطي‭ ‬الشاطئ،‭ ‬وراحت‭ ‬تنادي‭ ‬المهرب‭ ‬مستغيثة‭ ‬وراجية،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬شتائم‭ ‬حين‭ ‬ابتعد‭ ‬البلم‭ ‬عن‭ ‬الشاطئ،‭ ‬وهبط‭ ‬طائر‭ ‬الخوف‭ ‬على‭ ‬المركب‭ ‬حين‭ ‬فوجئ‭ ‬الجميع‭ ‬بأن‭ ‬قائد‭ ‬البلم‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬واحد‭ ‬منهم،‭ ‬ولم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬قاد‭ ‬قارباً،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬نفعاً،‭ ‬فالبلم‭ ‬ابتعد‭ ‬عن‭ ‬الشاطئ‭ ‬والمهرّب‭ ‬ومرافقاه‭ ‬غادراه‭ ‬بسرعة‭.‬

تحولت‭ ‬الشتائم‭ ‬وكلمات‭ ‬التذمر‭ ‬إلى‭ ‬توجيهات‭ ‬وتحذيرات‭ ‬للقبطان‭ ‬وللركاب‭ ‬بالتزام‭ ‬الهدوء‭ ‬وعدم‭ ‬الإتيان‭ ‬بأيّ‭ ‬حركة،‭ ‬فأيّ‭ ‬حركة‭ ‬قد‭ ‬تفقد‭ ‬هذا‭ ‬القارب‭ ‬المطاطي‭ ‬الخفيف‭ ‬توازنه‭ ‬وتقلبه‭ ‬بمن‭ ‬فيه،‭ ‬ثم‭ ‬بدأت‭ ‬الأيدي‭ ‬ترتفع‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬برجاء‭ ‬والأصوات‭ ‬بترتيل‭ ‬بعض‭ ‬الآيات‭ ‬القرآنية‭.. ‬أعقب‭ ‬ذلك‭ ‬صمت‭ ‬ثقيل،‭ ‬انكمش‭ ‬الجميع‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬وتجمدت‭ ‬وجوههم‭ ‬في‭ ‬تعبير‭ ‬رعب‭ ‬وذهول،‭ ‬وكأنها‭ ‬وجه‭ ‬واحد‭ ‬كبير،‭ ‬أو‭ ‬وجوه‭ ‬عديدة‭ ‬لوجه‭ ‬واحد‭ ‬وقد‭ ‬انعكست‭ ‬في‭ ‬مرايا‭ ‬غير‭ ‬مستوية‭.‬

لم‭ ‬يشاركهم‭ ‬هياجهم،‭ ‬كان‭ ‬الذهول‭ ‬قد‭ ‬أحاله‭ ‬إلى‭ ‬كتلة‭ ‬جامدة،‭ ‬أشبه‭ ‬بتمثال،‭ ‬تمثال‭ ‬تضجّ‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬أمواج‭ ‬الأسئلة‭ ‬وتصطخب‭: ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬جائز،‭ ‬انقلاب‭ ‬القارب‭ ‬أو‭ ‬ظهور‭ ‬سمك‭ ‬القرش‭ ‬وإحداثه‭ ‬ثقب‭ ‬فيه‭ ‬أو‭.. ‬حتى‭ ‬ظهور‭ ‬وحش‭ ‬من‭ ‬الأعماق‭ ‬فجأة،‭ ‬وحش‭ ‬غريب‭ ‬الشكل‭ ‬شبيه‭ ‬بذلك‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يخرج‭ ‬في‭ ‬مسلسل‭ ‬سندباد‭ ‬الموجّه‭ ‬للأطفال،‭ ‬يشق‭ ‬صفحة‭ ‬المياه‭ ‬فجأة‭ ‬وهو‭ ‬يقهقه‭ ‬بصوت‭ ‬مجلجل،‭ ‬لم‭ ‬لا؟‭ ‬هجس‭ ‬هاجس‭ ‬في‭ ‬داخله‭: ‬فالبحر‭ ‬عالم‭ ‬غريب،‭ ‬وفي‭ ‬داخله‭ ‬كائنات‭ ‬غريبة‭: ‬مخيفة‭ ‬ومتوحشة‭.‬

سرعان‭ ‬ما‭ ‬سخر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الهاجس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حاول‭ ‬جاهداً‭ ‬استحضار‭ ‬وتذكّر‭ ‬حادثة‭ ‬واقعية‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التي‭ ‬تجوّل‭ ‬في‭ ‬رأسه‭ ‬فلم‭ ‬يفلح،‭ ‬فراح‭ ‬يعدُّ‭ ‬الركاب‭ ‬المحتشدين‭ ‬كالبهائم‭ ‬على‭ ‬القارب،‭ ‬والشبيهة‭ ‬بقطعان‭ ‬الغنم‭ ‬المتدافعة‭ ‬في‭ ‬عربات‭ ‬القطار‭ ‬والشاحنات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يراها‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬تل‭ ‬زيوان‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬في‭ ‬مدينته‭ ‬المحتل‭ ‬الفرنسي،‭ ‬فحرضه‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يطلق‭ ‬خواراً‭ ‬أو‭ ‬ثغاء،‭ ‬سخرية‭ ‬لا‭ ‬تقليداً،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬أيام‭ ‬زمان،‭ ‬هو‭ ‬ورفاقه‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يذهبون‭ ‬إلى‭ ‬المحطة‭ ‬للدراسة‭ ‬أيام‭ ‬الامتحانات،‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬ضجة‭ ‬الأطفال‭ ‬والكبار‭ ‬في‭ ‬بيوتهم‭ ‬الطينية‭ ‬الصغيرة،‭ ‬ولكنه‭ ‬امتنع‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬هو‭ ‬إلى‭ ‬مادة‭ ‬للسخرية،‭ ‬فحوّل‭ ‬هذه‭ ‬الرغبة‭ ‬إلى‭ ‬الغناء،‭ ‬دندن‭ ‬قليلاً،‭ ‬ثم‭ ‬علا‭ ‬صوته‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬مسامع‭ ‬الجميع‭:‬

“مركب‭ ‬ينده‭ ‬عالبحرية‭.. ‬يا‭ ‬بحرية‭ ‬هيلا‭ ‬هيلا‭..‬”‭.‬

وعلى‭ ‬الفور‭ ‬علا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صوت‭ ‬بغضب‭ ‬ينهره‭ ‬ويأمره‭ ‬بالتزام‭ ‬الصمت‭ ‬“ما‭ ‬هذا‭ ‬يا‭ ‬أفندي‭.. ‬هل‭ ‬أنت‭ ‬سكران‭ ‬يا‭ ‬معلم‭.. ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬وقت‭ ‬الغناء،‭ ‬تغني‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬آية‭ ‬وتدعو‭ ‬ربك‭ ‬طالباً‭ ‬لنا‭ ‬ولك‭ ‬السلامة؟”‭.‬

وبعد‭ ‬كلمات‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل،‭ ‬صمت‭ ‬وأخذ‭ ‬ينصت‭ ‬للأدعية‭ ‬والآيات‭ ‬القصيرة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬الأفواه‭ ‬ترددها‭ ‬بتضرع،‭ ‬تحوقل‭ ‬وتبسمل‭ ‬في‭ ‬تمتمات‭ ‬وهمهمات‭ ‬بأعين‭ ‬نصف‭ ‬مغمضة،‭ ‬وأخرى‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬اتساعها‭ ‬في‭ ‬حملقة‭ ‬في‭ ‬المدى‭ ‬الأزرق،‭ ‬حيث‭ ‬شريط‭ ‬الشاطئ‭ ‬اليوناني‭ ‬يلوح‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬كحبل‭ ‬نجاة،‭ ‬فتحول‭ ‬الجميع‭ ‬أمام‭ ‬ناظريه‭ ‬إلى‭ ‬مشيّعين،‭ ‬والقارب‭ ‬إلى‭ ‬جنازة،‭ ‬فازداد‭ ‬خوفه‭ ‬وحاول‭ ‬أن‭ ‬يكرر‭ ‬ما‭ ‬حفظ‭ ‬من‭ ‬آيات‭ ‬قصيرة،‭ ‬فلم‭ ‬يتم‭ ‬أيّ‭ ‬آية‭ ‬منها،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجلس‭ ‬عزاء‭.‬

ساد‭ ‬صمت‭ ‬ثقيل‭ ‬بعد‭ ‬لحظات،‭ ‬وراحت‭ ‬العيون‭ ‬تنظر‭ ‬بأمل‭ ‬إلى‭ ‬البعيد،‭ ‬تضيق‭ ‬وتنفتح‭ ‬وهي‭ ‬تطل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الزوايا‭: ‬ممن‭ ‬جلسوا‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬البلم،‭ ‬وممن‭ ‬جلسوا‭ ‬في‭ ‬الزوايا‭ ‬والأطراف‭.. ‬الصغار‭ ‬والكبار،‭ ‬النساء‭ ‬والرجال‭ ‬والشباب‭.‬

يذكر‭ ‬أنه،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬ينطلق‭ ‬نحو‭ ‬أزمير‭ ‬التركية‭ ‬لعبور‭ ‬البحر‭ ‬إلى‭ ‬اليونان،‭ ‬وجه‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬أصدقائه‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬النصائح‭ ‬والتوجيهات،‭ ‬كانت‭ ‬نصيحة‭: ‬ألا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬مياه‭ ‬البحر‭ ‬أثناء‭ ‬سير‭ ‬المركب،‭ ‬أكثرها‭ ‬تكراراً،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الفضول‭ ‬الذي‭ ‬يُعد‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬صفاته،‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬الحملقة‭ ‬في‭ ‬المياه‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬هادئة‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬عادتها‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬فصل‭ ‬الخريف،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬تردد‭ ‬ومقاومة‭ ‬فاشلة‭ ‬لقوة‭ ‬فضوله،‭ ‬فوجد‭ ‬نفسه‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل،‭ ‬ويغوص‭ ‬بنظراته‭ ‬عميقاً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السائل‭ ‬الأزرق‭ ‬الكثيف‭ ‬الذي‭ ‬يهدر‭ ‬بغضب‭ ‬مكتوم،‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬قعر‭ ‬البحر‭ ‬حيث‭ ‬أسراب‭ ‬من‭ ‬الأسماك‭ ‬وهي‭ ‬تحوم‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬وتنظر‭ ‬نحوه‭ ‬بأفواه‭ ‬مفتوحة،‭ ‬فداخله‭ ‬إحساس‭ ‬مخيف‭ ‬راح‭ ‬يكبر‭ ‬وهو‭ ‬يشاهد‭ ‬سمك‭ ‬قرش‭ ‬يطرد‭ ‬تلك‭ ‬الأسماك‭ ‬المتكاثرة،‭ ‬ثم‭ ‬يوجه‭ ‬نحوه‭ ‬نظرات‭ ‬شرهة،‭ ‬أحس‭ ‬أنه‭ ‬مسلوب‭ ‬الإرادة‭ ‬وكأن‭ ‬سحراً‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬مسَّه‭ ‬وجعله‭ ‬ينجذب‭ ‬نحو‭ ‬ذلك‭ ‬الكائن‭ ‬البحري‭ ‬الذي‭ ‬طالما‭ ‬سمع‭ ‬عن‭ ‬شراسته‭ ‬وشاهدها‭ ‬في‭ ‬الأفلام،‭ ‬وأطلق‭ ‬شهقة‭ ‬رعب‭ ‬مكتومة‭ ‬وهو‭ ‬يشاهد‭ ‬هذا‭ ‬الوحش‭ ‬يصعد‭ ‬نحوه‭ ‬فاتحاً‭ ‬فماً‭ ‬مليئاً‭ ‬بالأسنان‭ ‬الكبيرة‭ ‬والمسنّنة،‭ ‬لم‭ ‬يدر‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬مضى‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬في‭ ‬قعر‭ ‬البحر،‭ ‬إذ‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬وقد‭ ‬جفل‭ ‬فجأة‭ ‬حين‭ ‬مسَّه‭ ‬أحد‭ ‬الركاب،‭ ‬وخصه‭ ‬بنظرة‭ ‬عتب‭ ‬قاسية،‭ ‬تنفس‭ ‬الصعداء،‭ ‬ونقل‭ ‬نظراته‭ ‬بين‭ ‬الوجوه‭ ‬الواجمة،‭ ‬والنظرات‭ ‬المتسمّرة‭ ‬على‭ ‬البعيد،‭ ‬استقرت‭ ‬نظراته‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬تلك‭ ‬العجوز‭ ‬صاحبة‭ ‬الفم‭ ‬الأدرد،‭ ‬والتي‭ ‬وجدها‭ ‬تتمتم‭ ‬وهي‭ ‬ترفع‭ ‬يديها‭ ‬إلى‭ ‬السماء،‭ ‬فأحس‭ ‬بالراحة‭ ‬منها،‭ ‬وقال‭ ‬في‭ ‬نفسه‭: ‬من‭ ‬يدري،‭ ‬فقد‭ ‬يمدُّ‭ ‬الله‭ ‬يد‭ ‬المساعدة‭ ‬لنا‭ ‬كرمى‭ ‬هذه‭ ‬العجوز،‭ ‬وتمنى‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬سرّه‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬في‭ ‬التضرع‭ ‬والدعاء‭. ‬وحين‭ ‬مسح‭ ‬وجوه‭ ‬الركاب‭ ‬بنظرة‭ ‬سريعة،‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬لمن‭ ‬يستيقظ‭ ‬من‭ ‬كابوس،‭ ‬أدهشه‭ ‬التبدل‭ ‬الطارئ‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬لوجوه‭ ‬الركاب‭ ‬التي‭ ‬اكتست‭ ‬سيماء‭ ‬الطيبة‭ ‬والتقوى،‭ ‬ونظرات‭ ‬الأمل‭ ‬والرجاء‭ ‬تشع‭ ‬من‭ ‬عيونهم،‭ ‬فأحس‭ ‬وكأنه‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬حشد‭ ‬من‭ ‬المتعبدين‭ ‬الخُلّص،‭ ‬صوفيين‭ ‬ورهبانا،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬أصحابها‭ ‬هناك،‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭.‬

‮ ‬داخله‭ ‬أحساس‭ ‬سار،‭ ‬ونظر‭ ‬إلى‭ ‬البعيد،‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬تقع‭ ‬جزيرة‭ ‬ميليت‭ ‬اليونانية،‭ ‬ولمّا‭ ‬وجدها‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬بعيدة،‭ ‬تكاد‭ ‬لا‭ ‬تبين،‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬البحر،‭ ‬والتي‭ ‬بدأت‭ ‬تعكس‭ ‬على‭ ‬صفحتها‭ ‬صور‭ ‬وجوه‭ ‬وأشكالاً‭ ‬غريبة،‭ ‬بل‭ ‬وأحداثاً‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬وقعت‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬مضى،‭ ‬وأخرى‭ ‬ستقع‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬فأحس‭ ‬بأنه‭ ‬عرّاف،‭ ‬وأن‭ ‬البحر‭ ‬فنجانه‭.‬

كانت‭ ‬صورة‭ ‬بيته‭ ‬في‭ ‬مدينته‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬ظهرت‭ ‬له‭: ‬بيت‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬حيّ‭ ‬شعبي‭ ‬قديم‭ ‬سمّي‭ ‬باسم‭ ‬رجل‭ ‬اقطاعي‭ ‬كبير‭: ‬قدوربك،‭ ‬ثلاث‭ ‬غرف‭ ‬طينية‭ ‬واطئة‭ ‬الأسقف،‭ ‬يطل‭ ‬باب‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬باحة‭ ‬غير‭ ‬كبيرة،‭ ‬وغير‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الغرف‭ ‬ثمة‭ ‬مطبخ‭ ‬صغير‭ ‬وحمام،‭ ‬وبعيد‭ ‬عنه،‭ ‬وبالقرب‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الدار،‭ ‬يقع‭ ‬المرحاض،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬العادة‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬البيوت‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬الأحياء‭ ‬الشعبية‭ ‬من‭ ‬مدينته‭ ‬نصف‭ ‬الريفية‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يصفها‭ ‬مقارنة‭ ‬بالعاصمة‭ ‬دمشق‭ ‬أو‭ ‬مدينة‭ ‬كبيرة‭ ‬مثل‭ ‬حلب؛‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدار‭ ‬قضى‭ ‬طفولته‭ ‬السعيدة،‭ ‬وحتى‭ ‬شبابه،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يضطر‭ ‬إلى‭ ‬بيعه‭ ‬لتأمين‭ ‬تكاليف‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭. ‬تواردت‭ ‬ذكريات‭ ‬كثيرة‭ ‬إلى‭ ‬مخيّلته،‭ ‬حتى‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬منها‭ ‬والده‭ ‬المتوفي‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الدار‭ ‬يحلق‭ ‬ذقنه،‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الطفل‭ ‬المدلل‭ ‬يلعب‭ ‬بالكرة،‭ ‬ثم‭ ‬وهو‭ ‬يحمل‭ ‬وثيقة‭ ‬النجاح‭ ‬ويقتحم‭ ‬باب‭ ‬الدار‭ ‬ويصيح‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭ ‬معلناً‭ ‬نجاحه،‭ ‬فتطلق‭ ‬الأم‭ ‬زغرودة‭ ‬طويلة،‭ ‬ويضمه‭ ‬والده‭ ‬إلى‭ ‬صدره‭ ‬بقوة‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يرقص‭ ‬وسط‭ ‬الدار‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬موسيقى‭ ‬شعبية‭ ‬صاخبة‭.‬

وأخذت‭ ‬الصور‭ ‬تتوالى،‭ ‬لتقف‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬أمه‭ ‬وهي‭ ‬تلطم‭ ‬وجهها‭ ‬وتنادي‭ ‬أباه‭ ‬الممدد‭ ‬جثة‭ ‬هامدة‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬الدار‭ ‬والناس‭ ‬حولها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬شفقة‭ ‬وحزن،‭ ‬بوجوه‭ ‬بليدة‭ ‬وحزينة‭ ‬وحيادية‭.‬

وظهرت‭ ‬له‭ ‬صورة‭ ‬أمه‭ ‬وهي‭ ‬تنظر‭ ‬إليه‭ ‬برجاء،‭ ‬وشباب‭ ‬غرباء‭ ‬يعترضون‭ ‬طريق‭ ‬أختيه‭ ‬وهم‭ ‬يضحكون‭ ‬ساخرين‭ ‬عابثين‭.‬

وتوالت‭ ‬أمام‭ ‬ناظريه‭ ‬أحداث‭ ‬وصور‭ ‬وأشكال‭ ‬غريبة‭ ‬لوجوه‭: ‬مخيفة‭ ‬ومطاطية،‭ ‬وهي‭ ‬تولول‭ ‬وتضحك‭ ‬وتدمدم‭.‬

بدأ‭ ‬صوت‭ ‬لهاثه‭ ‬يعلو‭ ‬شيئاً‭ ‬فشيئاً،‭ ‬وصدرت‭ ‬عنه‭ ‬صيحة‭ ‬فزع‭ ‬كمن‭ ‬هبَّ‭ ‬من‭ ‬كابوس‭. ‬فأمسك‭ ‬به‭ ‬أحدهم‭. ‬وبدأ‭ ‬ينظر‭ ‬إليه‭ ‬بتعاطف،‭ ‬وحدجته‭ ‬بعض‭ ‬العيون‭ ‬بنظرات‭ ‬اللوم‭ ‬والغضب،‭ ‬وسمع‭ ‬من‭ ‬يطمئنه‭ ‬ويطلب‭ ‬منه‭ ‬ألا‭ ‬يخاف‭ ‬ويضع‭ ‬ثقته‭ ‬بالله‭.‬

هدأ‭ ‬قليلاً،‭ ‬ثم‭ ‬داخله‭ ‬إحساس‭ ‬بالراحة‭ ‬وهو‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬حياً،‭ ‬وأن‭ ‬القارب‭ ‬يسير‭ ‬بهدوء،‭ ‬ومياه‭ ‬البحر‭ ‬هادئة،‭ ‬فاستبشر‭ ‬خيراً،‭ ‬وبأن‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬اليونان‭ ‬ثم‭ ‬ألمانيا‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬قاب‭ ‬قوسين،‭ ‬وأن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الإقامة‭ ‬أيضاً‭ ‬سيتم‭ ‬بهذه‭ ‬السرعة،‭ ‬حينها‭ ‬سيرسل‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬أمه‭ ‬وأختيه،‭ ‬ثم‭ ‬تذكر‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬صعب،‭ ‬فلمّ‭ ‬الشمل‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الزوجة‭ ‬والأولاد،‭ ‬وخاصة‭ ‬ممن‭ ‬هم‭ ‬تحت‭ ‬السن‭ ‬القانونية،‭ ‬فاستبدل‭ ‬الفكرة‭ ‬بأخرى،‭ ‬إذ‭ ‬سيعمل‭ ‬هناك،‭ ‬ويرسل‭ ‬النقود‭ ‬إلى‭ ‬أمه،‭ ‬أو‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬حين‭ ‬تضع‭ ‬الحرب‭ ‬أوزارها،‭ ‬وبعود‭ ‬المسلحون،‭ ‬المعارضون‭ ‬منهم‭ ‬والموالون‭ ‬إلى‭ ‬بيوتهم،‭ ‬والغرباء‭ ‬منهم‭ ‬إلى‭ ‬أوطانهم،‭ ‬ويشتري‭ ‬بيتاً،‭ ‬أو‭ ‬يسترجع‭ ‬بيته،‭ ‬الذي‭ ‬سيرتفع‭ ‬سعره‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الضعف،‭ ‬وسيقيم‭ ‬زفافه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البيت،‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬داره،‭ ‬وسينجب‭ ‬طفلاً‭ ‬شقياً‭ ‬سيلعب‭ ‬في‭ ‬صحن‭ ‬الدار،‭ ‬ويحطم‭ ‬مرآته‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬وهو‭ ‬يحلق،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬له‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬حين‭ ‬حطم‭ ‬مرآة‭ ‬والده‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬وهو‭ ‬يحلق‭ ‬ذقنه،‭ ‬وسيركض‭ ‬خلف‭ ‬ولده‭ ‬ويناديه‭ ‬متصنعاً‭ ‬الغضب‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬البعيد‭.. ‬وفجأة‭ ‬نهض‭ ‬من‭ ‬مكانه‭ ‬وبدأ‭ ‬يناديه‭ ‬وهو‭ ‬يضحك‭.‬

توجهت‭ ‬العيون‭ ‬كلها‭ ‬نحوه،‭ ‬واتسعت‭ ‬رعباً،‭ ‬ودبّ‭ ‬الذعر‭ ‬بين‭ ‬سكان‭ ‬المركب‭ ‬الذي‭ ‬زلزال‭ ‬زلزاله،‭ ‬وتحوّل‭ ‬الجميع،‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬قبل‭ ‬قليل‭ ‬كائنات‭ ‬وديعة،‭ ‬لها‭ ‬وجوه‭ ‬سمحة‭ ‬وأذرع‭ ‬ضارعة،‭ ‬إلى‭ ‬كائنات‭ ‬غريبة،‭ ‬لها‭ ‬وجوه‭ ‬وعيون‭ ‬مستطيلة‭ ‬ومربعة‭ ‬ودائرية‭.. ‬وأذرع‭ ‬شوكية‭ ‬وفولاذية،‭ ‬وأصوات‭ ‬أشبه‭ ‬بعزيف‭ ‬الجن،‭ ‬ونباح‭ ‬الكلاب،‭ ‬كان‭ ‬وجه‭ ‬تلك‭ ‬العجوز‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬وقعت‭ ‬عليه‭ ‬نظراته‭: ‬وجه‭ ‬مرعب‭ ‬يحدق‭ ‬فيه‭ ‬بحقد‭ ‬ويصيح‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬أجوف‭ ‬وكبير‭ ‬بأمر،‭ ‬حتى‭ ‬النساء‭ ‬والأطفال‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬وجوههم‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬جميلة‭ ‬ووديعة‭ ‬وقلقة،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬تحول‭ ‬في‭ ‬لمحة‭ ‬بصر‭ ‬إلى‭ ‬كابوس،‭ ‬ومشهد‭ ‬في‭ ‬الجحيم،‭ ‬فلم‭ ‬يعبأ‭ ‬بذلك،‭ ‬وهمّ‭ ‬بملاحقة‭ ‬ولده‭ ‬الشقي،‭ ‬والإمساك‭ ‬به‭ ‬وطبع‭ ‬قبلة‭ ‬على‭ ‬وجهه‭.. ‬وفجأة،‭ ‬وكما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الكوابيس‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يشاهدها‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬مِذ‭ ‬علت‭ ‬أصوات‭ ‬النيران‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬وطنه،‭ ‬وغطت‭ ‬الرايات‭ ‬السود‭ ‬اللافتات‭ ‬الملونة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تزين‭ ‬كل‭ ‬مظاهرة،‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬مقذوفاً‭ ‬في‭ ‬الفضاء،‭ ‬وصيحة‭ ‬جماعية‭ ‬تنبعث‭ ‬من‭ ‬أفواه‭ ‬الجميع،‭ ‬مثل‭ ‬كورس‭ ‬من‭ ‬كائنات‭ ‬متوحشة،‭ ‬صيحة‭ ‬هادرة‭ ‬ومرعبة،‭ ‬ترافق‭ ‬سقوطه‭ ‬في‭ ‬البحر‭.‬

وكما‭ ‬يحدث‭ ‬أمام‭ ‬عرض‭ ‬سينمائي‭ ‬قاس،‭ ‬كانت‭ ‬العيون‭ ‬التي‭ ‬امتلأت‭ ‬بالرعب‭ ‬والغضب،‭ ‬تتابع‭ ‬بذهول‭ ‬كائناً‭ ‬يتخبط‭ ‬في‭ ‬البحر،‭ ‬يعلو‭ ‬ويهبط‭ ‬وهو‭ ‬يضرب‭ ‬الماء‭ ‬بذراعين‭ ‬ضارعتين‭ ‬ووجه‭ ‬يطلق‭ ‬صيحات‭ ‬مبهمة‭ ‬وقوية‭ ‬وهو‭ ‬يتربع‭ ‬ويستطيل‭ ‬ويستدير‭.‬

لم‭ ‬يدم‭ ‬الأمر‭ ‬طويلاً،‭ ‬إذ،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬صيحة‭ ‬واحدة‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬وسط‭ ‬الركاب،‭ ‬مجلجلة‭ ‬وفرحة،‭ ‬تحولت‭ ‬تلك‭ ‬العيون‭ ‬عنه،‭ ‬واتجهت،‭ ‬ونظرات‭ ‬حلوة‭ ‬تبرق‭ ‬منها،‭ ‬صوب‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬راح‭ ‬اسمه‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬البحر‭ ‬بفرح‭ ‬طاغ‭:‬

•‭ ‬ميليت‭.‬

إسطنبول‭ ‬شتاء‬2015

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.