يوميات قاهرية
«يعيش المثقف على مقهى ريش.. يعيش يعيش يعيش. محفلط مزفلط كثير الكلام.. عديم الممارسه عدو الزحام.. بكم كلمه حلوه وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل قوام..».
يا شيخ إمام ويا أحمد فؤاد نجم، رحمكما الله. كم تعبّران في هذه الطقطوقة عن حال المثقّفين منتوفي الريش.
تلازمني هذه الأغنية بعد أيّام من كلّ زيارة اضطراريّة لي إلى المقهى الذي يقع خلف الريش، إذ أنّ الريش يعدّ للنخبة من جهة ما في حين أنّ الآخر يوصَف بأنّه شعبيّ. وهذه الصفة تشير إلى أنّ أسعاره مناسبة لروّاده، وأنّ أجواءه حميمة ومألوفة، أي يكون زائره متبسّطاً لن يتغيّر عليه الجوّ الذي تكون عليه القاهرة كلّها من تراكم أوساخ وقطعان ذباب، وأعداد من المتسوّلين الذين يتنقّلون بين الطاولات بخفّة ورشاقة يمارسون طقسهم المعتاد.
مظهرهم البائس وهم متحلّقون حول الطاولة الواطئة ينفخون الأراجيل ويلفّون حول أعناقهم علم الثورة يبعث على الاستياء، حين تبادر إليّ أن أعقد مقارنة بينهم وبين أولئك المتسوّلين من أطفال ونساء، وجدتهم فظيعين في تجارة الدم والتغنّي الشكليّ بالبلد. هؤلاء يتسوّلون باسم الثورة وأولئك تحت ضغط الحاجة والفقر. كلّ واحد منهم يتدبّر أموره بطريقة معيّنة، تشكّل المساعدات والمعونات الجزء الأهمّ في الإعالة والإغاثة. مسألة الانشقاق وفّرت للكثيرين ملاذات آمنة ممّا كانوا يعانونه من كونهم مغمورين في مجالاتهم أو تجنّبهم الإبراز ولم ينالوا حظّهم وحقّهم الكافيين.
حين أتأمّلهم أندب الثورة وأكرّر: إن كان هؤلاء ثوّاراً فإنّ الثورة لقيط وبنت زنا. ثمّ أعود لنفسي ولا أعدم الأمل في الوجوه التي تداهم الذاكرة ولا البطولات التي شهدتها لأناس بسطاء يعلون بنيان الثورة، ويبقونها منتسبة إلى مستقبل يليق بها ووطن يسير في طريقه إلى الاندثار. لا أذكر مَن قال إنّ البطل الحقيقيُّ غالباً ما يكون بطلاً بالصدفة، فهو يحلمُ بأن يكون جباناً شريفاً مثل الآخرين.. إلّا أنّني أدرك أنّ وصف البطولة لا ينطبق على أيّ ممّن أراهم هناك.
وبمرارة وحرقة أستعيد كلمات الأغنية وأدندن بها وأنا أواري دموعي، أو أتذرّع بالغبار باعثاً على الدمع في العيون.
امرأة تضع على كلّ طاولة حفنة من الفستق غير المقشور وتكمل جولتها، لتعود من حيث بدأت وتلملم ما يتصدّق به الناس من تقدير مادّيّ ومعنويّ لتلك الحفنة التي جادت بها عليهم، وهنا تضعهم أمام امتحان الكرم، وتتخلّص من عبء التسوّل المعتاد، يكون تسوّلها مشحوناً بفكرة ابتكرتها ووجدت فيها راحة وأماناً، وشكّلت لها دريئة وحماية في الوقت نفسه، بحيث تظهر أنّها بائعة متجوّلة، لكنّ طريقتها في البيع مختلفة. وعلى كلّ تشكّل تلك الحفنة من الفستق تغييراً لذيذاً، وبخاصّة حين تكون الجلسة قد طالت قليلاً، ويحتاج معها الجالس إلى ما يغيّر به طعمة فمه.
الذين يوصفون بالمثقّفين يختارون ذاك المقهى، يشكّل ملتقى مناسباً لهم، يتلاءم مع فقر أحوالهم بشكل عامّ، ويخفّف عنهم حدّة العزلة أو الغربة في عالم لا يأبه بالثقافة ولا المثقّفين، وينظر إليهم كإكسسوار مكمّل للوحة الاقتصاد والتجارة والسياسة، بحيث أنّ أيّ مثقّف يكون مقترَح سُلّم أو افتراض درج في سلّم لأحدهم في هذا المجال أو ذاك.
هناك مقهى جروبي العريق، وفيه تستذكر أولئك العظام الذين مرّوا عليه أو استوطنوه، ظلّ أثراً متجدّداً دائم التذكير بضيوفه وزوّاره ومقيمه. ولا يخفى أنّ لكلّ مقهى شلّته، وهذه شلليّة عبرة للقارات والمدن، متفشّية في الأمكنة، وربّما لها ما يبرّرها، وفي صدارة ذلك الراحة والاطمئنان وتبادل المنافع المادّيّة والمعنويّة.
قد يشعر الفنّان أو الكاتب أو الشاعر أو المتماهي مع أحدهم أنّه يجالس نجيب محفوظ في المقهى المصريّ، ولا سيّما أنّ محفوظاً كان دائم ارتياد المقهى، وبالتالي يشعر بنوع من المعاصرة له والمحاكاة تنتقل إلى الرغبة في التحصّل على ما ناله من أمجاد، توّجها بجائزة نوبل، التي يتفعّل الحديث فيها وعنها دوماً، ويتمّ التنشّط في تحليل الأسباب والدوافع والغايات التي تؤدّي إلى منحها لهذا الكاتب أو ذاك، ولأنّ محفوظاً هو أوّل كاتب عربيّ ينالها، والأوحد حتّى الآن، فإنّه يظلّ بمرمى السهام التي تشكّك بكلّ شيء، وفي الوقت نفسه تحتفظ له بمكانته الأدبيّة الرفيعة، وتأصيله للفنّ الروائيّ الذي ساهم بتأسيسه وكان من أهمّ روّاده.
عادة الاختلاف على كلّ شيء امتياز الشرقيّ الذي يعكّر عليه صفو أيّامه ويخلخل أيّ تفاهم قد يكون في طريقه إلى التبلور.
يفقد المثقّف خصوصيّته وفرادته، يظلّ الأرخص في عالم الاستهلاك لأنّ بضاعته غير رائجة، وغير مدرّة للأرباح المباشرة، بحيث أنّه يبقى غريباً في كلّ مكان يرتاده، وتكون غربته متعاظمة في داخله.
شكّل مقهى المثقّفين ببؤسه وأوساخه ملتقى لقسم كبير من السوريّين النازحين، يقارب في جوّه إلى حدّ ما أجواء الساروجة في دمشق، ويقترب من مقهى الكمال قليلاً، لكنّه يختلف من حيث الخدمة والنوعيّة، ولأنّ السوريّ يشعر بأنّه مقيم بشكل مؤقّت، فلا ضير أن يماشي تلك الحالة المزرية، ويمكث ساعات ويمضي إلى حيث يقيم، وأيضاً يلازمه شعور الإقامة المؤقّتة دوماً.
من المقهى إلى التفرّق بين جنبات هذه المدينة التي تشكّل قارّة بنفسها. إلى ميدان التحرير للتمتّع بمنظر الخيام والشعارات وبعض التجمّعات الصغيرة التي لا تفتأ تنفضّ. الميترو بحقّ أعظم إنجاز في القاهرة. هكذا أقول كلّما كنت بصدد استقلاله. ولكن ما يحمله في جوفه وهو يرعب بضجيجه، يثير الإعجاب. تتفشّى في الميترو، كما في سيّارات النقل العامّة، ظاهرة قراءة القرآن أو الأدعية، سواء بتمتمة واضحة مسموعة أو حركات متأرجحة بإيقاع ثابت، ولا تسل عن التدبّر الواجب لقراءة القرآن..!
6 أكتوبر مدينة ذات رمزيّة معيّنة، تعتبر حديثة وسط صحراء مترامية، بنيت على الطراز الحديث، تتمتّع بالهدوء والترتيب، احتضنت ألوف الأسر السوريّة النازحة، حتّى أنّها باتت تُعرَف بأنّها عاصمة للسوريّين في القاهرة، أسّس فيها النازحون المدارس والبيوت والمطاعم. دخل كثير منهم صلب الحياة العمليّة، وذلك بعد فترة من الانتظار والمتابعة، بحيث أنّهم كانوا مسكونين بالإقامة المؤقّتة وأنّهم سيعودون بين اليوم والآخر بمجرّد إيجاد حلّ ما للبلد، لكنّهم وجدوا أنّ إقامتهم تطول، والمؤقّت يمتدّ ويتحوّل إلى شبه دائم، بحيث يفرض عليهم البحث عن منافذ لتمويل أنفسهم، ولا سيما أنّ مدّخراتهم بدأت بالنفاد، أو أنّ ما يتمّ التصدّق به عليهم من قبل الجمعيّات لا يكفي، بالتالي لا بدّ من إيجاد أو تأسيس وسائل للإعالة والعمل للتخلّص من جريمة البطالة وتبديد الوقت الذي يقضونه في التحسّر على ما فقدوه في البلد من أرواح وأموال وممتلكات.
رغم أنّه يصعب على أيّ أحد أن يزاحم المصريّين في بلدهم، ذلك أنّهم يعانون من وجود فائض في كلّ شيء، وبخاصّة في الطاقات البشريّة غير المستثمرة، فإنّ السوريّ يجاهد كي يبني المناطق التي يسكنها، ويثبت خصوصيّته.
المطبخ السوريّ المنوّع يغيّر في الجوار الذي يقطنه. بدأت سلاسل الأعمال والمتاجر السوريّة بالبروز، في كلّ حيّ أكثر من مطعم للوجبات والأكلات السوريّة، يقبل عليها السوريّون الذين لم ترق لهم نكهة الأكل المصريّ كثيراً، فبدؤوا بتأسيس بلدهم في منفى مؤقّت يرونه يستطيل..
هناك الكثير من التقاطعات بين الشعبين، لكن هناك الكثير من الفروقات أيضاً، بقدر ما تجمع تفرّق، الودّ البلديّ جليّ في احتفاء المصريّ بشقيقه السوريّ، يتعاطف معه، يدعو له، لكنّه في الوقت نفسه منشغل بنفسه وانهياره. ولا يخلو في بعض الأحيان أن يبرز بعض ممّن يستغلّ الحاجة ويبتزّ النازحين. وقد جيّرت الصحافة مسألة تزويج بعض الفتيات لبعض المصريّين وبالغت في تضخيمها وتجييرها لمكتسبات سياسيّة لا تتعلّق بالسوريّ الذي كان الطعمَ فيها. كما أنّ هناك الكثير من الحالات التي استغلّ فيها أصحاب العقارات جهل النازح، وأجّروه البيت بضعف ما يستحقّ، وكأنّهم يحقّقون نصراً عليه.
يتذمّر النازح في أيّ مدينة ينتقل إليها، يبحث عن بيته وسط فوضى المدن ودمار عالمه. ينبغي على السوريّ العودة إلى الأدبيّات الفلسطينيّة، لأنّه سيكون نازح القرن الجديد. التفاصيل تستعاد بطريقة مختلفة، المشترك فيها فقدان البيت والأهل والوطن.